الوقت – بينما كان من المفترض أن ينطلق قطار تطبيع العلاقات مع الکيان الصهيوني بسرعة، وفق الادعاءات المتكررة للمسؤولين الأمريكيين والصهاينة، ويمرّ عبر العديد من الدول العربية، ولكن باستثناء اتفاق الإمارات والبحرين مع الکيان الإسرائيلي، لم ترکب أي حكومة عربية أخرى هذا القطار حتى الآن، ما اضطرّ القطار إلی التوقف في المحطة الأولى نفسها، على الرغم من الكثير من الدعاية بشأن ذلك.
ويمكن فهم ذلك تماماً من خلال دعوة ترامب لولي عهد أبوظبي إقناع الدول العربية الأخرى بالتطبيع مع الکيان الصهيوني.
بالأمس أعلن البيت الأبيض في بيان، أن دونالد ترامب قد أجرى محادثةً هاتفيةً مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، وتشاور معه بشأن التسوية والسلام بين دول غرب آسيا والکيان الصهيوني.
ووفق موقع “عاروتص شوع” الصهيوني، اتصل الرئيس الأمريكي بولي عهد أبو ظبي، وطلب منه إقناع دول أخرى في منطقة غرب آسيا، بالانضمام إلى الإمارات في إبرام اتفاق مع الکيان الصهيوني.
لكن هذا الطلب، إضافة إلى کشفه عن اعتراف البيت الأبيض بالكذب بشأن استقلال وسيادة الدول العربية في موضوع التطبيع، حيث انضمت البحرين لهذه الحملة تحت الضغط، فإنه مهم جداً في بُعد آخر أيضاً، وهو الرسالة التي تبعث بها الولايات المتحدة ومفادها تغيير سياستها الإقليمية وتحوُّلها نحو التعاون مع الإمارات.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبدء الوجود الأمريکي في المنطقة بعد الانسحاب البريطاني، حافظت العديد من الإدارات الأمريكية على روابط وثيقة مع الأسرة السعودية، ودعمها الثابت لاستمرار حكم هذه الأسرة على شبه الجزيرة، بسبب مواردها النفطية الهائلة وموقعها الثقافي المحتمل بين الدول العربية والإسلامية.
ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران والتغيير في الخريطة الأمنية للمنطقة على حساب الکيان الصهيوني ومصالح الغرب في المنطقة، ازداد التقارب مع السعودية لمواجهة الفكر الثوري المتنامي.
وخلال هذه الفترة، إضافة إلى التعاون الأمني في مجال تنامي الفكر التكفيري المناهض للشيعة من أجل المصالح الجيوسياسية، وخاصةً في أفغانستان ومناطق أخرى من البيئة الأمنية الإيرانية، تم إنفاق قدر كبير من عائدات هذا البلد من النفط على شراء المعدات والأسلحة الحديثة من أمريكا، وكانت النتيجة تعاوناً عسكرياً مكثّفاً وعلاقات أمنية.
ولكن على الرغم من تمتع البلدين بفوائد التعاون الوثيق على مدى عقود، يبدو أن نهاية هذه العلاقة على وشك الحدوث الآن، وأمريكا تدرس إيجاد بديل مناسب للسعوديين لدفع أجندتهم الإقليمية، أي الإمارات.
وفي هذا الصدد، كان لمسألة الحد من اعتماد أمريكا على النفط السعودي، ونهج التحوُّل شرقاً في استراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية للتركيز على الصين، فضلاً عن تناقض السعوديين مع بعض خطط البيت الأبيض، تأثير كبير لإنهاء هذه العلاقة.
وفي هذا الصدد، وبعد عدم مواكبة منظمة أوبك لخفض إنتاج النفط بعد انخفاض سعره، كتبت مجلة “فورين بوليسي” في تقرير أن المشرعين الجمهوريين غاضبون للغاية من السعودية بسبب التطورات الأخيرة في مجال النفط.
وقال “كيفن كرامر” السناتور الجمهوري عن ولاية “نورث داكوتا” لمجلة فورين بوليسي: “إن السياسات الأخيرة للحكومة السعودية في مجال النفط، ليست السياسات التي يتبعها الأصدقاء، والسعوديون مخطئون في قياس حجم رد الفعل الأمريكي“.
وأضاف إن “التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والرياض قد انهار، وستستغرق عملية إعادة بناء الثقة وقتاً طويلاً“.
ثم نقلت مجلة فورين بوليسي عن “بروس ريدل” المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذي يعدّ أحد أهم الخبراء في الشأن السعودي في أمريكا، قوله إن العامل الوحيد في بقاء العلاقة بين واشنطن والرياض هو دونالد ترامب نفسه، الذي لديه علاقة وثيقة مع الحكومة السعودية.
هذا التصريح ليس في الحقيقة تهديداً قصير المدى، لكنه في الأساس تعبير عن حقيقة منظور العلاقات بين الرياض وواشنطن، ويمكن ملاحظة ذلك في سلبية أمريكا خلال الهجوم على منشآت النفط السعودية في الخريف الماضي، حيث كانت الرياض تعلق آمالاً كبيرةً على دعم البيت الأبيض.
في الواقع، حتى قبل موضوع اتفاق التطبيع، کان منتقدو دعم البيت الأبيض المطلق للسعوديين في تزايد، ليس بين الديمقراطيين فحسب ولكن حتى بين الجمهوريين، لكن رفض الرياض لطلب ترامب حول دعم التطبيع السريع، أدی إلى تمزُّق الخيوط الأخيرة من هذا الرابط التاريخي.
ووفق تقرير نشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت، ضغط كوشنير صهر ترامب ومستشاره على محمد بن سلمان لحضور حفل توقيع اتفاق التطبيع بين الکيان الإسرائيلي والإمارات، لكن الموقف الرسمي للرياض وعلى عكس توقعات ترامب، الذي يرى أن تقدم التطبيع هو أداة الفوز في الانتخابات الصعبة التي ستجرى الشهر المقبل، كان الاستمرار في دعم مبادرة السلام العربية للملك عبد الله لعام 2002 لتشكيل دولتين، الأمر الذي أغضب ترامب.
في غضون ذلك، فإن العناصر التي تدفع نحو اختيار الإمارات بديلاً عن السعودية ليست بقليلة. أولاً، بالتزامن مع ضعف السعودية الاقتصادي لشراء الأسلحة بعد هبوط أسعار النفط، فإن دولاً عربيةً أخرى، مثل الإمارات وقطر، ستخدم مصالح شركات الأسلحة الأمريكية في المنطقة. حيث أكدت قطر وأمريكا مؤخراً تنفيذ اتفاقية عسكرية بقيمة 25 مليار دولار بين الجانبين.
والأهم من ذلك، أن أمريكا، التي تخشى جهود الصين لإيجاد حلفاء استراتيجيين يتمتعون بموقع جيوسياسي في المنطقة لتعزيز طموحاتها الاقتصادية، ترى أن استراتيجية التحول شرق أبوظبي خطوة خطيرة يجب معالجتها.
وفي هذا الصدد، بعد رسالة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” الرسمية إلى محمد بن زايد قبل ثلاثة أيام، لتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، كتب “أندريس كريج” في تحليل على موقع “ميدل إيست آي”: “إن الشرق الأوسط يقع فعلياً في وسط صراع بين قوتين عظميين، هما أمريكا والصين“.
وذكر التحليل أن الإمارات، وهي مركز تجاري إقليمي ومصدر رئيس للنفط إلى شرق آسيا، تتَّجه نحو الصين في وقت أسرع من الدول الخليجية الأخرى، كما جعلت استراتيجية الصين التجارية الرئيسة للتحكم في الوصول إلى القواعد البحرية الرئيسة في المحيط الهندي والقرن الإفريقي والبحر الأحمر، جعلت أبو ظبي شريكاً مهماً لبكين.
ورغم أن المحلل خلص إلى أنه “إذا بقي ترامب في البيت الأبيض لمدة أربع سنوات أخرى، فستكون الإمارات تحت ضغط متزايد”، فلا شك أن إبعاد الإمارات عن بكين يجب أن يكون مصحوباً بحوافز استثنائية، يمكن ملاحظتها في إعلان الاستعداد لبيع مقاتلة “إف 35” إلى أبو ظبي.