اليوم، وبعد 10 أيام من المواجهة التاريخيّة بين المقاومة (العسكرية والشعبية الواسعة) في غزة، وفي كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، من جهة، والعدو الإسرائيلي من جهة أخرى، ما زال الاشتباك يحافظ على المستوى والزخم نفسه من العنف والإجرام الذي تمارسه الوحدات العسكرية الجوية الإسرائيلية أو الوحدات الأمنية، والثبات والتركيز الذي تظهره المقاومة الفلسطينية في مناورتها الصاروخية.
حالياً، يعتبر هذا الوضع وحده انتصاراً للمقاومة الفلسطينية في عملية “سيف القدس”، التي شكلت، بمعزل عما ستؤول إليه نتيجتها أو نهايتها، نقطة مفصلية في الصراع الواسع ضد “إسرائيل”، بعد أن خلقت دينامية جديدة في القتال والاشتباك والمواجهة، لن تكون “إسرائيل” قادرة على التخلص منها أو الإفلات من تداعياتها على كل المستويات؛ العسكرية والأمنية والسياسية.
فقد العدو خياراته مع تقدم الوقت، ساعة بعد ساعة، ولم يبق أمامه إلا استهداف البنى التحتية والمدنيين الآمنين للضغط على المقاومة، في محاولة يائسة لاستعادة المبادرة التي انتزعتها منه رغماً عنه، فقد خسر المبادرة العسكرية في الميدان، ووصل إلى طريق مسدود عسكرياً أمام إمكانية تحقيق هدفه الأساسي من العدوان الواسع، الذي حدده بإنهاء البنية العسكرية للمقاومة في غزة، وخصوصاً الصاروخية.
وبالتالي، وبعد خسارته المبادرة العسكرية، خسر العدو أيضاً المبادرة السياسية، فحكومته، برئاسة نتنياهو، لا تملك حالياً ما تقوله أمام الداخل الإسرائيلي المصدوم والمتفاجئ من الموقف غير المتوازن الذي وصلت إليه الوحدات العسكرية والسياسية، ولا تملك هذه الحكومة أيضاً ما تقدمه للوسطاء المتمثلين في الأطراف الإقليمية أو الدولية التي تحاول التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إذ تخشى (حكومة نتنياهو) اتخاذ أي قرار ينتج منه رد فعل غير مقبول من الجيش أو الإعلام أو الأحزاب المتشددة، والتي تتمسك، كما يبدو، بخيار التدمير والقتل، وتفرض استمرار المواجهة، رغم الصفعات التي يتلقاها الكيان المهزوم الذي يعيش أكثر من نصف سكانه في الملاجئ، بعد أن جعلت صواريخ المقاومة كامل جغرافيا فلسطين المحتلة ساحة حرب ومواجهة، فكيف وصل العدو إلى هذا الوضع غير المسبوق من الضعف والتردد والضياع؟ وما المعطيات الاستعلامية والعسكرية التي سببت له هزيمة غير منتظرة؟
لناحية الاستعلام، أصبح المتابعون الجديون، سواء كانوا داخل الكيان أو خارجه، يملكون قناعة مفادها أن المعلومات الاستخبارية والاستعلامية التي يملكها العدو، والتي كونت تقديراته عن أسلحة المقاومة وقدراتها، كانت ناقصة، أو على الأقل عاجزة عن الإحاطة بالتفاصيل والمعطيات التي تميزت بها مناورة المقاومة الصاروخية الصادمة.
السبب هنا طبعاً لا يمكن وضعه في خانة ضعف القدرة الاستعلامية لدى العدو، فتاريخه في هذا المجال معروف، وهو يتميز بقدرة استعلامية غير بسيطة. ولطالما كانت أجهزته المخابراتية والأمنية (الموساد والشاباك وغيرهما) داخل الكيان وخارجه ناشطة وفاعلة، وهي تملك أساساً القدرة المالية والفنية الضخمة الّتي تجعلها ملمّة بما تحتاجه معركة الكيان بشكل عام.
إن ما أوجد الفارق في البعد الاستعلامي الذي احتاجته مواجهة “سيف القدس”، والذي أظهر فشل استعلام العدو وعجزه عن الإحاطة بقدرات المقاومة، يمكن إرجاعه إلى نجاح المقاومة الفلسطينية في حماية قدراتها الصاروخية وكامل بنيتها العسكرية، لناحية تطوير الصواريخ ونقلها وتخزينها، أو إخفاء قواعد الإطلاق وتجهيزها للمناورة في أصعب ظروف الرصد والمراقبة، أو القصف الجوي المركز والعنيف والمُدَمِر.
أسباب نجاح المقاومة في مناورتها الاستعلامية (السلبية)، بمعنى مناورة الإخفاء والتمويه والخداع، تعود إلى عدة معطيات، أهمها المجهود الشخصي على صعيد فردي أو على صعيد قيادة المقاومة وكوادرها، والذي أدى دوراً أساسياً في صقل منظومة الحماية والسرية الآمنة لقدراتها ومناورتها وتحضيراتها.
هذا المجهود أضيف إليه الكثير من التجارب السابقة في العمل المخابراتي والأمني بمواجهة أمن العدو واستعلامه، إضافة إلى عنصر أساسي استفادت منه المقاومة، وهو ما نقله بعض أطراف محور المقاومة إلى أجهزتها الأمنية، وخصوصاً “حزب الله”، الذي يملك مروحة واسعة من التجارب العسكرية والميدانية والأمنية بمواجهة العدو. وقد ظهرت لمسات الحزب وخبراته، وبكل وضوح، في مناورة إخفاء الصواريخ ومناورة الإطلاق الناجحة والثابتة، رغم زنار القصف الجوي العنيف.
في المواجهة العسكرية، لا شكّ في أنّ “جيش” العدو يملك قدرات مميزة في الجو والبحر والبر، وهو يعتبر من الأقوى إقليمياً في هذا المضمار. وبكل موضوعية، لم يتم اختبار أغلب وحداته في المواجهة الأخيرة، إذ لم تشترك وحدات البر والمدرعات والبحر في المواجهة، وظهرت ثغراته العسكرية في نقطتين؛ القبة الحديدية ورد فعل القيادة العسكرية.
في النقطة الأولى، وأمام ضعف القبة الحديدية ومنظومات الدفاع الجوي أو فشلها أو عجزها، بدت القبة كأنها مختلفة عن تلك التي دُفعت أموال طائلة لتطويرها، أو التي تنفذ عشرات المناورات الحية سنوياً في البحار البعيدة مع الناتو أو في آلاسكا مع الوحدات الأميركية، إذ جالت صواريخ المقاومة وصالت على كامل جغرافيا الكيان، وبنسبة كبيرة غير متوقعة واستطاعت تجاوز القبة الحديدية. غطّت تلك الصواريخ كل المناطق المحتلة، من الجنوب إلى الشمال، مع وصولها إلى أغلب القواعد الجوية والبوارج الحربية في عرض البحر بمواجهة شواطئ غزة.
في النقطة الثانية، كان رد فعل القيادة العسكرية بارداً بمواجهة المناورة الصاروخية الصادمة التي فرضتها المقاومة الفلسطينية. وقد ظهرت هذه القيادة بعيدة عن مستوى التعامل مع مناورة الصواريخ، وكأنها لا تملك أي خطة بديلة أو مناورة احتياطية لأوضاع استثنائية كهذه، أو كأنها لم تكن تضع في حسبانها إمكانية وصول قدرات المقاومة إلى هذا المستوى، وهو أمر غير مفهوم وغير مقبول من الناحية العسكرية عند دراسة قدرات الخصم، التي من المفترض وضع كل الاحتمالات أمامها في هذا الإطار، حتى لو كانت بعيدة، وكانت نسبة حدوثها ضعيفة جداً.
هكذا، بين فشل العدو في الإحاطة الاستعلامية الدقيقة والكاملة بقدرات المقاومة، وتقصيره في ضبط حركة صواريخها، لناحية القدرات المتطورة في المدى، أو الدقة والقدرة على تجاوز القبة الحديدية، أو تحديد قواعد الإطلاق الثابتة أو المتحركة، وبطء قيادته في الاستجابة للمواجهة وعدم استدراكها كل الاحتمالات حول قدرة المقاومة الفلسطينية، نجحت الأخيرة في فرض انتصار صادم بمواجهة “جيش” العدو.