إنها لحظة كبيرة في الصّراع، تؤسّس لمرحلة جديدة ومعادلات ميدانية وسياسية.
انتفاضة الفلسطينيين في القدس جزء من معركة طويلة خاضها “شعب الجبارين” في مواجهة خطط الاحتلال ومسارات التهويد والتغيير الديموغرافي وقضم الأحياء العربية وفرض السّيطرة عليها، بحكم الأمر الواقع والقوانين الإسرائيلية الهمايونية.
منذ ثورة “البراق” في العام 1929، إلى انتفاضة “الشيخ جراح” في العام 2021، لم تتوقَّف الانتفاضات والمواجهات التي خاضها الفلسطينيون مع الاحتلال. أهالي القدس وعموم الأراضي المحتلة، استطاعوا، بفعل تعلّقهم الفطري بالمدينة، إبطاء “عملية التهويد” وتعطيل الكثير من إجراءات العدوّ وتصوّراته وإفشالها.
مع مطالع الخطر الاستيطاني في ظلّ الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، كان شعب فلسطين في قلق دائم حيال “مشروع التهويد”، وفي اشتباك مفتوح مع الاستيطان والاحتلال. ثمة أحداث وبطولات كثيرة أهملتها الدعاية وظلمها الإعلام. بالسّكين أحياناً، وبالصّراخ والهتاف والبندقية أحياناً أخرى، وبالصّاروخ والعبوة والكمين والصلاة في “الأقصى” وكنيسة “القيامة” أيضاً. الذاكرة الفلسطينيّة تحتفظ بمحطات مبهرة من الثبات والعزيمة والمقاومة.
قضيّة “القدس” اليوم هي تكثيف لقضيّة فلسطين. الشباب الثائر الغاضب المشتبك مع العدو أمام “الأقصى”، وفي الحارات والباحات، هو نموذج عن شعب فلسطين في الداخل والشتات. مزيج من العناد والصبر والتّضحية والإيمان والإصرار.
أيام قليلة من الاشتباك مع الاحتلال في الداخل، أظهرت لمن راهن على “صفقة القرن” أنَّ هذا المسار ذهب مع دونالد ترامب وانتهى.
هذه ليست مواجهة عابرة، أو تظاهرة للتعبير عن الرأي والتنديد، أو جولة قتال “تقليدية” وفق قواعد الاشتباك السابقة. إنها موقف سياسي يطلقه شعب فلسطين بأجساد المرابطين وصواريخ المقاومة. إنها لحظة كبيرة في الصّراع، تؤسّس لمرحلة جديدة ومعادلات ميدانية وسياسية.
ثمة أحداث تعيد ترتيب الوقائع وخلط الأوراق وتعريف موازين القوى. ما يجري الآن لحظة سياسيَّة من هذا النوع. لن تكون موازين القوى بعد هذه المعركة كما قبلها. كلّ الظروف والمعطيات تحمل ملامح بداية تحقّق “الشروط التاريخية”.
“إسرائيل” تعيش جملة أزمات حادة في الاجتماع والسياسة والقيادة والقرار. يكتمل حولها طوق المقاومة، ويزداد شعب فلسطين إرادةً وقوةً واستعداداً للتضحية والفداء.
مهما كان المدى الزمني لهذه الجولة، وصلت رسالة الفلسطينيين إلى من ينبغي أن تصلهم؛ إلى عرب “التطبيع” و”إسرائيل” ونتنياهو وإدارة بايدن.
حيفا ويافا واللد وعموم القرى والمدن العربية داخل كيان الاحتلال تتحرَّك انحيازاً إلى “انتفاضة القدس” وصواريخ المقاومة في غزة. إنه ردّ فلسطينيّ على سياسات التفتيت التي ينتهجها الاحتلال. لا حدود تمنع الهُوية من الاكتمال. الوعي الفلسطيني بوحدة القضية والمصير أقوى أسلحة هذه المعركة.
الجيل الذي يقاتل اليوم هو الجيل الذي ينبغي “أن ينسى”. هكذا كانت حسابات الاحتلال. إنه أخطر جيل تواجهه “إسرائيل”، بحسب إعلامها. جاء من خارج الأنماط الجاهزة والتصنيفات الحزبية والفصائلية، وانهارت أمامه كلّ أحلام الدولة والاستقلال، وسقط “حل الدولتين”.
جيل الـ”تيك توك” والـ”إنستغرام”، كما وصفوه، هو الَّذي أشعل المواجهة. شبان غاضبون شجعان ترعرعوا في ظلّ الاحتلال. أعمارهم بين 11 عاماً و25 عاماً. عاينوا القهر والذل والتمييز وانسداد الأفق.
“الجدار العازل” مثل سكين تذبح القرى والمدن وتفصلها بالإسمنت. الحواجز والتفتيش والزنازين والمعتقلات. المستوطنات التي تتوسع على ما تبقى من الضفة الغربية والقدس. سياسات التهجير والتطهير العرقي. هدم الأحياء، ومصادرة الممتلكات، وتهجير الأهالي، ومحاصرة غزة بعد تدميرها… هذا الواقع أحبط الشباب الغاضب. دلّه وعيه الفطري على الطريق. أخذ زمام المبادرة، وأطلق تكتيكات جديدة لمقاومة الاحتلال، وأعاد إحياء القضية ووضعها في أولويات العالم.
في زمن ترامب، راهن الاحتلال على “اتفاقيات التطبيع” كي يتهرَّب من الاستحقاق الفلسطيني. ظنَّ نتنياهو أنّ اختراق بعض الدول العربية بمزاعم “الإبراهيمية”، يعفيه من التعامل مع الواقع والحقائق. ما يجري اليوم في فلسطين يعيد طرح الحقائق المؤجّلة أمام كلّ اللاعبين.
لا يمكن تأبيد الاحتلال والرهان على تعب الفلسطينيين. كل غضب فلسطيني اليوم هو غضب مكتوم مؤجّل. كل صرخة هي امتداد لصرخات تردّد صداها عبر سنين من الصبر والكفاح. هذه المراكمة التاريخية لا بدّ من أنَّها ستُثمر.
شهدت الآونة الأخيرة تراكض عربي في سبيل إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع سوريا، في ظل ...
We use cookies to ensure that we give you the best experience on our website. If you continue to use this site we will assume that you are happy with it.Ok