معابر العشق من فكر الشهيد مرتضى مطهريّ
May 7, 2021
الكتب
1,040 Views
الجهاد والشهادة
الكتاب:
|
الجهاد والشهادة
|
نشر:
|
جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية
|
إعداد:
|
مركز نون للتأليف والترجمة
|
الإعداد الإلكتروني:
|
شبكة المعارف الإسلامية_ www.almaaref.org
|
الطبعة الأولى:
|
2014م – 1435ه
|
جميع حقوق الطبع محفوظة ©
|
معابر العشق من فكر الشهيد مرتضى مطهريّ
الجهاد والشهادة
مركز نون للتأليف والترجمة
الفهرس
9
|
المقدمة
|
13
|
الفصل الأول: الهجرة والجهاد
|
15
|
أولاً: ماذا نعني بالهجرة والجهاد؟
|
16
|
نموذج الفضيل بن عيّاض
|
17
|
نموذج بشر الحافي
|
19
|
ثانياً: جهاد النفس
|
19
|
نموذج بورياي ولي
|
21
|
نموذج أمير المؤمنين علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري
|
23
|
الهجرة تعني ترك الذنوب
|
24
|
ثالثاً: دور الجهاد والهجرة في تربية الإنسان
|
26
|
رابعاً: الظروف الموضوعية للجهاد والهجرة
|
29
|
خامساً: انتظار الفرج
|
29
|
ماذا يعني انتظار الظهور؟
|
31
|
نموذج الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه
|
37
|
الفصل الثاني: النظرة الإسلامية في الموت
|
39
|
أولاً: ما هي طبيعة الموت؟
|
40
|
ثانياً: الاتجاه الأصيل في نظرته للموت
|
42
|
ثالثاً: متى يُطلب الموت؟
|
44
|
رابعاً: الإطار الاجتماعي للشهادة
|
46
|
خامساً: كيف نوجد المشاعر اتجاه الشهيد؟
|
48
|
سادساً: تربة الشهيد
|
49
|
سابعاً: نموذج ليلة الشهيد
|
49
|
وسام الحسين عليه السلام
|
51
|
منطق أصحاب الحسين عليه السلام
|
53
|
الفصل الثالث: الشهيد في الإسلام
|
55
|
أولاً: قدسية الشهيد
|
56
|
ثانياً: مكانة الشهيد في القرآن
|
57
|
حقّ الشهيد
|
58
|
ثالثاً: لماذا هذه المكانة للشهيد؟
|
58
|
جسد الشهيد
|
59
|
رابعاً: منشأ القدسية في الشهادة
|
61
|
خامساً: ركنا الشهادة ووجهاها
|
61
|
للشهادة ركنان
|
61
|
للشّهادة وجهان
|
63
|
سادساً: مسؤولية الشهيد في القرآن والروايات
|
67
|
مفهوم التقوى وارتباطه بالجهاد
|
68
|
سابعاً: الآثار السلبية لترك الجهاد
|
70
|
ثامناً: الاندفاع نحو الشهادة
|
72
|
نماذج خالدة من الشهداء
|
74
|
تاسعاً: منطق الشهيد
|
77
|
دم الشهيد
|
78
|
خلود الشهيد
|
79
|
شفاعة الشهيد
|
80
|
عاشراً: البكاء على الشهيد
|
81
|
فلسفة البكاء على الشهيد
|
85
|
الفصل الرابع: من صور الجهاد عند الإمام علي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام
|
87
|
أولاً: الجهاد والصراع مع النفس
|
90
|
ثانياً: أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام في الجهاد
|
92
|
ثالثاً: يوم كربلاء مثال المجاهدين
|
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
المميّزات العامة للتعبئة الجهادية
إنّ حركة التعبئة الجهادية المنتشرة في صفوف المجاهدين وأماكن عيشهم ووجودهم في المجتمع، هي حركة أساسية في رفد مجمل قضيّة الجهاد في الإسلام، بالعدد الوافي من الرجال المتأهّبين للقتال في سبيل الحق، وبالتالي فهي حركة تهدف إلى بناء الشخصية الملائمة للخط الجهادي.
لذا من الضروري أن نقوم بتسليط الضوء على معنى التعبئة الجهادية وصفات الأشخاص الذين تتوجّه إليهم عملية التعبئة والتربية هذه.
تعريف التعبئة: مقصودنا هنا تعريف التعبئة بمميّزاتها وخصائصها والإضاءة على الجوانب المشرقة في تربية الشباب المجاهد وتأهيلهم للقيام بمسؤولياتهم.
فالتعبئة هي حركة اجتماعية شاملة، تجمع المجاهدين الملتزمين الساعين نحو هدف سام ورفيع، والذين ينطلقون من بين أناسهم
وأهلهم ومجتمعهم بكل صدق وإخلاص وحماس ليشكلوا حركة واعية تهدف إلى الوقوف بوجه الطاغوت و أتباعه، ونصرة الحق وأهله.
المميّزات الأساسية للتعبئة الجهادية: التعبئة الجهادية لها مميّزات أساسية، تُشكّل محور الفكر التعبوي الجهادي الراقي والجميل، وتوضح لنا بالتالي دور هذه الحركة في التحوّلات والتغيّرات الثقافية والسياسية في المجتمع.
الميزة الأولى: التعبئة، ديناميكية دائمة: لا ينسجم الفكر التعبوي مع السكون والركود، لذلك فالتعبئة هي حركة ونشاط دؤوب، لأنّ القضية سامية والهدف كبير وخطير، خاصة في ظل التقاعص واللامبالاة من قبل الكثيرين في المجتمع، وعليه كان تشكيل التعبئة منذ البداية مندرجاً تحت شعار مقاومة الظلم والاستكبار والتصدّي لذلك بكل شجاعة ووعي وصدق. ومن مميّزات التعبئة أيضاً أنها حركة هادرة لا توقّف فيها، تنسجم مع الواقع وتتأقلم مع المخاطر والمسؤوليات وتأخذ دورها المفترض حسب تغيّرات الزمان والمكان، ويجب أن يصل هدير حركتها وصدى فعاليتها دائماً إلى كل من هو حولها.
الميزة الثانية: التعبئة حركة شاملة: ليست الحركة الظاهرية لمجموعة ما من الناس دليلاً على وجود فكرٍ ووعي أصيل خلفها، بخلاف حركة التعبئة التي تهدف إلى بناء شخصية مجاهدة.
فالتعبئة حركة شاملة وسريعة في المجتمع تسعى لاستيعاب أكبر قدر من الناس لضمّهم تحت لواء التعبئة الجهادية ضد أعداء الله. وهي
حركة تهدف إلى أن تضمّ تحت لوائها كلّ ما يسير بالأمة نحو كمالها وسعادتها، خاصّة وأنّها تحمل راية الحق.
الميزة الثالثة: التعبئة حركة ذات هدف: هذه الميزة تساهم بشكل أكبر في توضيح مفهوم التعبئة الجهادية: فالتعبئة حركة واعية، عارفة، وليست مجرّد تحرّك عبثي وعشوائي.
وتتميّز بشكل أساسي عن كلّ التشكيلات والتحرّكات الأخرى بأنّها تتحرّك نحو هدف معلوم، محدّد مسبقاً. هي إذاً، حركةٌ هادرةٌ لها هدفها ولها مُحرّكها ولها دوافعها، فلذلك هي تسير بانتظام ودقّة وببصيرة ووضوح، وبثبات ويقين ببركة وجود الهدف الواضح والسليم.
الميزة الرابعة: التضحية والإيثار: تسعى حركة التعبئة الجهادية إلى بناء روحية التضحية في الإنسان المؤمن. فالمجاهد هو شخص يُضحي بالمال، بالروح، بكلّ ما يتعلّق أو يُحبّ، ويُقدِّمه رخيصاً في سبيل تحقيق ذلك الهدف المنشود، فأمام سمو الهدف كل شيء يصغر في عين التعبوي المجاهد، ولا تُعدّ له أية قيمة، ولا تحزنه أو تضايقه التضحيات ومواجهة بعض الخسارات، أو فقدان بعض الملذّات الدنيوية، لذلك لا معنى عند المجاهد للتوقّف مهما بلغت المصائب وحلّت الابتلاءات وعظمت التضحيات.
في الخلاصة، التعبئةُ هي حركة ثورانٍ داخليِّ ظهر من حضنِ المجتمعِ الإسلاميّ، لتصبح ظاهرةً عامَّةً لها دورُها وأثرُها وعواملها، وقد شاهدنا بأم العين أثر هذه التعبئة الجهادية في المقاومة وصنع الانتصارات وفي
مساعدة النّاس أيضاً للحفاظ على حقوقهم والدّفاع عن كراماتهم.
وإنّ معرفة مميّزات التعبئة وخصائص الفكر التعبوي عامل مهم وطريق أساسيٌّ للتعرّف على مدى التأثير والدور الذي يلعبه هذا الفكر التعبوي الجهادي من الناحية التربوية في نهضة المجتمع، وإيقاظه من سباته العميق. كما ويتضح بذلك دوره المستقبلي في تحديد الوظيفة المطلوبة وتشخيص التكليف المُلقى على عاتق المجاهدين في التعبئة.
فالتعبئة هي حركة اجتماعية هادرة، نرى شبيهاً لها في الطبيعة، ومثلها كمثل الماء، فالماء لو ترك راكداً هامداً، فإن الطاقة العظيمة الموجودة فيه لن تظهر ولن تثمر، إلا في حال تمّ تفعيلها وتحريكه, فهي تصبح عند ذلك قادرة على فتح الأخاديد العقيمة وابداع طاقات عظيمة تنير المدن الكبيرة.
وكي نتمكّن من معرفة وظائفنا وتكليفنا في هذه المرحلة المصيرية في تاريخ أمتنا، في التصدّي للمؤمرات والتحدّيات الكبيرة التي يحوكها المستكبرون ضدنا. اخترنا هذه المادة في الجهاد والشهادة وقيمتهما في الحياة الإنسانية، رذلك على ضوء الأبحاث والدراسات الأصيلة للعلامة المفكّر الشهيد الشيخ مرتضى مطهري قدس سره، لتساهم في البناء الفكري الصحيح في نظرة الإسلام إلى الجهاد والشهادة.
والحمد لله رب العالمين
الفصل الأول: الهجرة والجهاد
أولاً: ماذا نعني بالهجرة والجهاد؟
ثانياً: جهاد النفس
ثالثاً: دور الجهاد والهجرة في تربية الإنسان
رابعاً: الظروف الموضوعية للجهاد والهجرة
خامساً: انتظار الفرج
أولاً: ماذا نعني بالهجرة والجهاد؟
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[1].
الهجرة والجهاد هما الركنان الأساسيان اللذان يستند إليهما الإسلام من الناحية الاجتماعية، وقد حرص القرآن الكريم على إحاطتهما بقدسية خاصة كلّما تحدّث عنهما، كما أنّه عظّم وقدّس درجة المهاجرين والمجاهدين أكبر تعظيم وتقديس.
الهجرة تعني التخلي عن البيت والأهل والوطن، والابتعاد عنهم والتوجّه إلى ديار الإيمان حفظاً للدِّين من الضَّياع. وفي الكثير من الآيات القرآنية نرى كلمتي الهجرة والجهاد قد ذكرتا معاً: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[2].
في الصدر الأوّل للإسلام، كان المسلمون ينقسمون إلى قسمين هما: المهاجرون والأنصار، فالأنصار هم سكان المدينة – يثرب – الذين آووا ونصروا، والمهاجرون هم الذين هجروا ديارهم وقدموا إلى المدينة إنقاذاً لدينهم.
والهجرة هي كالجهاد، حكم غير ثابت في الشَّرع الإسلامي ولكنّه من أركانه الأساسية وأحكامه الحية، بمعنى أنّ من المحتمل أن تطرأ ظروف تصبح معها الهجرة واجباً شرعياً وفرضاً يجب على المسلم أداؤه.
ودفعاً لوقوع بعض الاشتباهات والتَّناقضات في فهم حكمي الجهاد والهجرة، نتعرّض هنا لبحث هذا الموضوع بشيءٍ من التّفصيل.
لقد ورد للهجرة وكذلك للجهاد تفسير آخر غير ما تقدم، فقد فسرت الهجرة بهجر المعاصي والذّنوب والابتعاد عنها؟! لو أخذنا بهذا التفسير لأصبح جميع التائبين في العالم مهاجرين، لأنّهم هجروا الذّنوب والمعاصي ونأوا عنها، أمثال فضيل بن غياض وبشر الحافي وغيرهما كثير.
نموذج “الفضيل بن عيّاض”
(فضيل بن عياض) كان في بدء أمره سارقاً، لاهياً، ثمّ تغيرت حاله، فهجر جميع الذّنوب وتاب إلى الله توبة نصوحاً، وأصبح بعدها من العلماء، فهو لم يتحوّل إلى رجل متق وحسب، بل أصبح أيضاً معلماً ومربياً للعديد من الناس، في حين كان في مطلع حياته لصّاً وقاطع طريق وشرساً ومؤذياً حتى ضجّ الناس منه ومن شرّه وأذاه. فضيل بن عياض هذا كان يهمّ مرّة كعادته بسرقة بيت، وعندما تسلق الجدار وهمَّ بالنزول إلى داخل البيت رأى رجلاً زاهداً عابداً يقوم الليل، يصلّي صلاته ويدعو ويقرأ القرآن، فسمع فضيل الرجل وهو
يقرأ القرآن بصوت خاشع حزين، وكان أوّل ما طرق سمعه من قراءة الرجل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾[3].
فضيل الذي سمع هذه الآية: وهو فوق الجدار، أحس وكأنّ الآية: أوحيت إليه هو، تخاطبه هو، فالآية: قد هزَّته بعنف، حتى قال: “اللَّهمَّ بلى… اللَّهمَّ بلى… لقد آن الأوان، وهذا هو”، فنزل عن الجدار، وهجر منذ ذلك الحين كلّ الذّنوب، فلا سرقة بعدها، ولا خمر ولا ميسر ولا غيرها من باقي الذّنوب التي كان مبتلى بها، ابتعد عنها بكل جهده… أرجع الحقوق التي كان قد اغتصبها إلى أصحابها، وأدّى ما عليه من حقوق الله، وجبر ما كان قد فات منه. إذن.. ففضيل هذا مهاجر أيضاً لأنّه هجر السيّئات وابتعد عنها.
نموذج بشر الحافي
وفي عصر الإمام الكاظم عليه السلام كان في بغداد رجلٌ معروفٌ يُقال له بشر، وكان ممّن يشار إليه بالبنان. وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم عليه السلام مارّاً من أمام بيت بشر، فاتفق أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات “قمامة” وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام عليه السلام قائلاً: يا جارية! هل صاحب هذا الدار حرٌّ أم عبدٌ؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة من سؤاله هذا وبشر رجل معروف بين الناس وقالت: بل هو حرّ. فقال الإمام عليه السلام: “صدقت لو كان
عبداً لخاف من مولاه”[4]. الإمام عليه السلام قال هذه الكلمة وانصرف، فعادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدة الخمر، فسألها: ما الذي أبطأك؟ فروت له ما دار بينها وبين الإمام عليه السلام، وسمع ما نقلته من قول الإمام عليه السلام: “صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه” فهزّه هزّاً عنيفاً أيقظه من غفلته، وأيقظه من نومة الغفلة عن الله، ثمّ سأل بشر الجارية عن الوجهة التي توجَّه إليها الإمام، فأخبرته فانطلق يعدو خلفه، حتى أنّه نسي أن ينتعل حذاءه. في الطريق كان يحدث نفسه بأنّ هذا الرجل هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر وبكى ثمّ هوى على يدي وقدمي الإمام يقبّلها وهو يقول: سيّدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانيّة فيَّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذّنوب وأغدو أسيراً لها، لا أريد أن تؤسر فيَّ الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله وحده، حراً تجاه غيره. وتاب بشر على يد الإمام الكاظم عليه السلام. ومنذ تلك اللحظة هجر الذّنوب ونأى عنها وأتلف كلّ وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة. إذن، بشر هذا هو مهاجر أيضاً لأنّ “المهاجر من هجر السيّئات”.
ثانياً: جهاد النفس
ولهذا المنحى في تفسير الهجرة، شبيه في باب الجهاد أيضاً حيث إنّ “المجاهد من جاهد نفسه”[5] والمجاهد هو من يجاهد النفس الأمّارة بالسوء وأهواءها الداخلية، ومعروف أنّ الصراع الداخلي موجود باستمرار، قائم بين النفس وأهوائها من جهة والعقل من جهة أخرى.
يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: “أشجع الناس من غلب هواه”[6].
نموذج “بورياي ولي”
هناك مثال آخر يوضح الشجاعة الحقيقية نستخلصه من القصة المعروفة التي حدثت لـ “بورياي ولي”. وقد كان هذا من كبار أبطال المصارعة في العالم، وكان يعتبر نموذجاً للبطولة والرجولة والعرفان في آن واحد، يروى أنّ هذا البطل كان قد سافر مرة إلى إحدى المدن للتباري مع بطلها في المصارعة. وعُين موعد للمباراة، وذلك في ليلة الجمعة، وخلال تجواله في تلك المدينة، شاهد “بورياي ولي” امرأة عجوزاً كانت توزع الحلوى على الناس وتطلب منهم الدّعاء، ولم تكن تعرف “بورياي
ولي” من قبل، فقدمت له الحلوى وسألته الدّعاء، ولكنّه سألها عن حاجتها ما هي؟ فقالت: “إنّ ابني هو بطل مدينتنا في المصارعة، وقد جاءنا منافس له من مدينة أخرى لمنازلته، وسيلتقيان خلال الأيام القليلة المقبلة، وأنا أخشى أن يخسر ولدي المباراة، فخسارته لا تعني انتكاسة شخصية له وحسب، بل تعني انقطاع مورد رزقنا الوحيد الذي يأتينا من الراتب الذي يقدم لولدي في هذه اللعبة، ولذلك فإنّ فشله في المباراة يعتبر تدميراً لحياتنا، وأنا امرأة عجوز لا أقوى على شيء.
عندما سمع “بورياي ولي” حديث المرأة، قال لها: “اطمئني سأدعو لك” ثم استغرق هذا الرجل في التفكير مع نفسه محدثاً إيّاها عمّا سيفعله في المباراة “هل أصرعه إذا كنت أقوى منه أم لا؟” هنا تذكر هذا البطل مقولة إن: “أشجع الناس من غلب هواه”. وفي اليوم المقرر للمباراة، صعد إلى الحلبة فوجد منافسه أضعف منه كثيراً ويستطيع أن يطرحه أرضاً بحركة واحدة، لكنّه ومن أجل أن يجعل المباراة تجري وكأنّها حقيقة – كي لا يفهم المشاهدون القرار الذي اتخذه بعد التغلب عليه – راح يكثر من الدوران ويطيل المصاولة والمجاولة مع منافسه ثم مكّنه بعد ذلك من أن يصرعه. وهنا يذكرون عن هذا البطل، أنّه وفي تلك اللحظة التي صُرع فيها، أحسَّ وكأنّ قلبه انفتح لله وكأنّه يرى بقلبه عالم الملكوت، هذا الرجل – لأنّه جاهد نفسه وانتصر عليها في تلك اللحظة – قد
أصبح من أولياء الله، لماذا؟ لأنّ: “المجاهد من جاهد نفسه” ولأنّ: “أشجع الناس من غلب هواه” ولأنّه أظهر شجاعة فاق بها كلّ الأبطال[7].
نموذج أمير المؤمنين علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري
وأعظم من هذه الحادثة، قصة الإمام عليّ عليه السلام مع عمرو بن عبد ود، هذا البطل الذي كان يوصف بفارس يليل[8]، الفارس الذي يعدل ألفاً. في معركة الخندق كان عسكر المسلمين في جهة من الخندق وعسكر العدو في الجهة الثانية منه، بحيث لم يكن
باستطاعة العدو أن يعبر إلى جهة المسلمين ورغم ذلك فقد تمكن نفر من الكفار – ومن بينهم عمرو بن عبد ود – من عبور الخندق بطريقة أو بأخرى، وأخذ عمرو يجول بفرسه وهو يصرخ: هل من مبارز؟! فلم يجرؤ أيّ من المسلمين على الخروج له وهم يعرفون من هو عمرو وماذا تعني مبارزته، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: من له؟ فسكت الجميع إلّا علياً إذ نهض وقال: أنا له يا نبي الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّه عمرو اجلس! فنادى عمرو ثانية: ألا من رجل؟ ثمّ أخذ يلومهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فلم يجب إلّا عليّ إذ نهض وقال: أنا له يا رسول الله، فأجابه الرسول بمثل ما أجابه في المرّة الأولى، فنادى عمرو ثالثة فلم يجبه أحدٌ أيضاً غير الإمام عليّ عليه السلام إذ نهض وقال: يا رسول الله أنا له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّه عمرو”، فقال عليه السلام: “وإن كان عمراً”، فاستأذن رسول الله فأذن له وخرج عليه السلام إلى عمرو. وخلاصة الحدث، أنَّ علياً عليه السلام يطرح بطل الأبطال على الأرض ويجلس على صدره ليحتزّ رأسه وهنا يبصق عمرو في وجه عليّ عليه السلام، فيقوم الإمام عليه السلام من فوق صدره، ويأخذ بالسير بهدوء بالقرب منه وبعد فترة يعود فيجلس مرّة أخرى على صدره ويهم بقطع رأسه فيسأله عمرو عن سبب قيامه عليه السلام أوّلاً ثمّ عودته ثانية، فما كان جواب الإمام عليه السلام؟! لقد غضب الإمام عندما بصق اللعين في وجهه الشريف، وهنا تركه خشية من أنّه
إن قتله وهو غاضب فقد يحتمل أن يكون ذلك غضباً لنفسه لا لله، فقام عنه حتَّى هدأ عليه السلام وعاد فقتله لله تعالى لا لغيره[9].
الهجرة تعني ترك الذنوب
وخلاصة ما تقدّم أنّ المعنى الآخر للهجرة هو ترك الذّنوب والمعاصي، والمعنى الآخر للجهاد هو مجاهدة النفس وأهوائها، فهل – يا ترى – هذا التَّفسير صحيح أم لا؟! الجواب هو أنَّه صحيح بحدِّ ذاته ولكن قد أسيء فهمه وفهم بصورة خاطئة، فمقولتا: “المهاجر من هجر السيّئات، والمجاهد من جاهد نفسه” واردتان في أحاديث المعصومين عليهم السلام. إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يصف جهاد النفس بأنّه “الجهاد الأكبر”، لكن الخطأ في الفهم والانحراف في التفسير، قد وقع عندما لجأ البعض إلى إلغاء المعنى الأوّل للهجرة والجهاد وذلك باحتجاجهم في أنّ معنى الهجرة ترك الذّنوب وإنّ معنى الجهاد مجاهدة النفس فلا حاجة إذن لأن نترك الأهل والديار عند اقتضاء الضرورة، ونتغرب في البلدان، بل بدلاً من ذلك نجلس في بيوتنا
ونهجر الذّنوب فنصبح بذلك مهاجرين، ويقول البعض الآخر: إنّه ما دام الجهاد هو مجاهدة النفس، إذن فلا ضرورة للسَّير إلى محاربة أعداء الإسلام، وبدلاً من أن نتحمل مصاعب ذلك، نجلس في بيوتنا وننشغل في مجاهدة أنفسنا وهذا هو – في نظرهم – الجهاد في سبيل الله بل هو أعظم من سابقه لأنّه الجهاد الأكبر وذاك هو الجهاد الأصغر.
إذن فقد اتخذ تفسير الهجرة بترك الذّنوب ذريعة لإلغاء الهجرة بالمعنى الأوّل، واتخذ تفسير الجهاد بجهاد النفس ذريعة لإلغاء الجهاد بالمعنى الأوّل. وهذا هو الانحراف في الفهم، لأنّ في الإسلام هجرتين لا هجرة واحدة، ونوعين من الجهاد لا نوعاً واحداً، وإلغاء أيّ من الهجرتين – نوعي الهجرة – بالتذرع بالنوع الآخر، أو إلغاء أيّ من نوعي الجهاد بالتذرع بالآخر، كل ذلك يعني انحرافاً عن الإسلام وتعاليمه.
ثالثاً: دور الجهاد والهجرة في تربية الإنسان
إنّ قادتنا الدينيين – الرسول الأكرم، الإمام علي عليه السلام والأئمّة الأطهار – كانوا جميعاً مهاجرين في سبيل الله، بكلا الهجرتين، وكانوا عليهم السلام مجاهدين في سبيل الله بكلا الجهادين. وإذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية المعنويّة، وجدنا هناك درجات لا يمكن الوصول إليها إلّا عبر المرور بكلتا الهجرتين أو الجهادين، فلا يمكن
بحال أن يحصل الإنسان على درجة المجاهد وهو لم ير ساحة الجهاد أصلاً، كما لا يمكن له أن يحصل على درجة المهاجر وهو لم يهاجر بالمعنى الظاهر- المعنى الأوّل – وهذه هي سُنّة الله في خلقه للإنسان، إذ جعل نضجه وتكامله ورقيه مرهونة باجتياز دورات تربوية خاصة، فالزواج مثلاً يعتبر من وجهة نظر الإسلام عملاً مقدّساً من عدّة وجوه “على العكس من المسيحية المعاصرة التي تعتبر العزوبة عملاً مقدّساً”، فلماذا يعتبر الإسلام الزواج عملاً مقدّساً؟!.. إنّ سرّ الاهتمام بهذا الأمر هو تأثيره المهم في تربية روح الإنسان، فلروح الإنسان خاصية التكامل والرقي والنضج ولا يمكن أن تحصل عليها إلّا بالزواج، أي لو ظلّ الرجل أعزب إلى آخر عمره أو لو ظلّت المرأة عزباء إلى آخر عمرها، فسيبقى هناك نقص في تكامل روحيهما، سببه فقدان الأثر التربوي للزواج ولا يسدّ ذلك النقص حتى لو أنّهما قضيا العمر في العبادة، والرياضات ومجاهدة النفس، فالإسلام اعتبر الزواج سُنّة من سننه، وأحد أسرار ذلك التأثير الذي يتركه الزواج في تربية الإنسان وتكامله. فكل عامل من العوامل المؤثرة والمشتركة في تربية الإنسان ينحصر أثره في موقعه الخاص به، ولا يمكن لأي عامل آخر أن يحل محلّه إذا فقد ويحدث نفس تأثيره التربوي، كما أنّه لن يستطيع أن
يحل محل أيّ من العوامل الأخرى.
والهجرة والجهاد هما أيضاً من العوامل التي تشترك في تربية الإنسان وتكامله ولذلك فلا يمكن أن يحل محلهما أي من العوامل
الأخرى. فالجهاد مع النفس له موقعه، وكذلك الهجرة عن السيّئات، لكن الهجرة العملية عامل تربوي لا يمكن للهجرة بالمعنى الثاني – الهجرة عن السيّئات – أن تحلّ محله. وكذلك حال الجهاد والقتال ضد أعداء الله فلا يمكن أن يحلّ محلّه
جهاد النفس. والعكس صحيح أيضاً، فكلاهما يضعهما الإسلام في صف واحد ويعتبرهما من عوامل التربية الإسلامية.
رابعاً: الظروف الموضوعية للجهاد والهجرة
وهنا يبرز سؤال مهم يقول: إنّ الظروف الموضوعية التي يعيشها الفرد المسلم متباينة ولا تقتضي جميعها من الفرد المسلم أن يهاجر أو يجاهد أعداء الله، فماذا سيكون موقفه آنذاك خصوصاً بعد أن عرفنا الأثر التربوي المهم للهجرة والجهاد؟!
يجيب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا التساؤل بأنّ واجب المفرد المسلم في هذه الحال، هو أن يكون في قلبه عزم صادق ونيّة مخلصة بأن يهاجر أو يجاهد أعداء الله، في أيّ وقت تتطلب الظروف الموضوعية الهجرة أو الجهاد. ومع توافر النيّة المخلصة والعزم الصادق لدى الفرد المسلم، يصل بذلك إلى درجة المهاجرين والمجاهدين حقاً. وهذا الجواب النبوي يمكن استخلاصه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من لم يغز ولم يحدِّث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق”[10].
والقرآن الكريم يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[11].
ونلاحظ من النص القرآني أنّه لا يدخل المتخلفين ضمن حديثه عن القاعدين فهم غير منظور إليهم هنا، وإنّما حديثه هنا، عن القاعدين بعذر شرعي (هو وجود من به الكفاية من المجاهدين) فيقول: إنّ هؤلاء المجاهدين هم أعلى درجة وفضلاً وأجراً من القاعدين بعذر شرعي وهو وجود العدد الكافي من المجاهدين، ولكن في الوقت نفسه يؤكد النص أنّ هذا التفضيل لا يشمل أولي الضرر من القاعدين أي القادرين على الجهاد والمعذورين بسبب الأمراض المختلفة التي تعوقهم عن الجهاد – كفاقدي البصر، والمشلولين عن الحركة والمرضى الذين أقعدهم المرض فلا ينفي القرآن الكريم أنّ لهؤلاء فضلاً، ومن الممكن أن يصلوا إلى درجة المجاهدين، بل ويسبقوا الآخرين في ذلك، لو كان في قلوبهم عزم صادق ونيّة حقيقية، بأنّ لو زالت عنهم تلك العوائق لذهبوا إلى الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وهذه القاعدة صحيحة عند توافر شروطها.
قال رجل لأمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام وهو في طريق عودته من صفين[12]: “يا أمير المؤمنين إنّ لي أخاً كم تمنيت أن يحضر معنا صفين في معسكرك فينال صحبتك” فماذا كان جواب الإمام علي عليه السلام ؟! لقد سأل عليه السلام الرجل عن نيّة أخيه ما هي، وماذا في قلبه، وعلام عزمه، هل كان لديه عذر منعه من الحضور أم لم يكن لديه عذر؟!
ثمّ يحدد الإمام عليه السلام الأجوبة الدقيقة عن كل تلك الاحتمالات، فإذا لم يكن معذوراً ولم يأت فعدم مجيئه خير لنا من مجيئه[13]، وإن كان معذوراً وقلبه معنا وعزمه أن يلحق بنا لو استطاع
فهو معنا، فأجاب الرجل إنّه كذلك يا أمير المؤمنين فأجابه الإمام عليه السلام: ليس أخوك وحده كان معنا بل ورجال آخرون ما زالوا في أرحام أُمّهاتهم بل وفي أصلاب آبائهم، فهذا حكم ثابت فكلّ شخص وحتى يوم القيامة إذا وُجد وكان في قلبه عزم صادق أنّه لو أدرك علياً في صفين لنصره فهو مع علي ويعتبر من أنصار علي وجيش علي في صفين وإن لم يحضر صفين بل ولم يعاصرها.
خامساً: انتظار الفرج
ماذا يعني انتظار الظهور؟
وماذا يعني نص “أفضل الأعمال انتظار الفرج”؟ البعض يتوهّم ويظنّ أنّ “انتظار الفرج” وهو أفضل الأعمال يعني أن ننتظر ظهور إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مع جمع من خواص أصحابه وأنصاره وعدتهم “313” رجلاً ومعهم جمع آخر من غير الخواص، فيحاربون أعداء الإسلام ويطهرون الأرض من دنسهم، ويقيمون العدل والأمن في البلاد ويوفرون الرفاه والحرية بأكمل صورهما، بعد ذلك يقولون لنا: تفضلوا! البعض يتوهّم أنّ انتظار الفرج هو هذا، ويصفونه بأنّه أفضل الأعمال. ولكن الانتظار الحقيقي للفرج، هو بانتظارنا ظهور الإمام عليه السلام للانخراط في جيشه والقتال تحت إمرته حتى ولو استشهدنا في هذا القتال. الانتظار الحقيقي هو أن يكون أمل الإنسان كله وكل أمانيه حقاً الجهاد في سبيل الله، وليس الانتظار حتى يأتي الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فتقول له: اذهب أنت وحدك فأنجز كلّ المهام الشاقة، وعندما يحين وقت جني الثمار سنأتي نحن،
هذا هو منطق أصحاب موسى، أما أصحاب محمّد فقد قالوا له: يا رسول الله! لا نقول لك ما قاله لموسى بنو إسرائيل، أصحاب موسى عندما وصلوا إلى فلسطين – بيت المقدس – ورأوا فيها جنداً متأهبين قالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[14]، كان هذا هو منطق أصحاب موسى، اذهب أنت وربك فقاتلا وطهرا فلسطين من دنس الأعداء، وسنأتي نحن بعد أن نطمئن إلى أنّه لم يبق خطر فيها. إنّ موسى عليه السلام قد سألهم مستنكراً: فما هو واجبكم إذن؟ عليكم أنتم أيضاً أن تخرجوا من دياركم الغاصب الذي أخرجكم منها، أما أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمثال المقداد، فما كان قولهم كهذا، وإنّما قالوا: “لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً”[15].
إذن فالانتظار الحقيقي للفرج هو أن يترسخ في قلوبنا عزم صادق ونيّة حقيقية وأمل بأن نوفق لأن نكون في جيش إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف فنشارك معه في إصلاح الدّنيا.
نموذج الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه
“يا ليتنا كنّا معك فنفوز فوزاً عظيماً”. هذه الجملة كثيراً ما نرددها ونخاطب بها أبا عبد الله عليه السلام. ولكن هل يا ترى ننتبه حقاً إلى معناها؟ إنّ معناها، هو أنْ يا أبا عبد الله يا ليتنا كنّا معك فنستشهد بين يديك وتحت رايتك وبذلك نفوز فوزاً عظيماً. فهل هذا التمني مجرد قول أم أنّه يعبّر عن صدق نيّة ورغبة حقيقية؟! هناك من يطلق هذه العبارة بصدق وعقيدة، لكن أكثرنا يقرأها في الزيارة ولا تتعدى لقلقة اللسان.
وعندما اقترب وقت الظُّهر وفيه صلى الحسين عليه السلام يوم عاشوراء آخر صلاة له في هذه الدنيا وقد استشهد معظم أصحابه. إذ في هذا اليوم، قبل الظهر، وعند حلوله لم يكن قد بقي إلّا الحسين عليه السلام وأهل بيته ونفر من أصحابه، إذ استشهد القسم الأكبر منهم قبل ذلك في أثناء التراشق المتبادل للسهام – حرب الرماة -. كان جيش أبي عبد الله لا يزيد على اثنين وسبعين رجلاً، لكن هذا الجيش الصغير كان يتمتع بمعنويات عالية، وشجاعة منقطعة النظير، الإمام الحسين عليه السلام كان يأبى ويأنف من أن تظهر عليه أدنى إمارات الضعف والانكسار، كذلك نظم جيشه تنظيماً حربياً، جعل لهؤلاء الاثنين والسبعين قلباً وميمنة وميسرة كأي جيش نظامي آخر، فكان زهير بن القين على الميمنة وحبيب بن مظاهر على الميسرة وعقد راية جيشه لأخيه أبي الفضل العباس عليه السلام الذي أصبح منذ ذلك
اليوم يلقب بحامل لواء الحسين عليه السلام.
أصحاب أبي عبد الله كانوا يتلهفون لبدء القتال، لكن الإمام عليه السلام كان يأبى ويصرّ على أن لا يقاتل حتى يبدأهم الأعداء بالقتال، وأما قصة بدء القتال فكانت على يد عمر بن سعد.
إنّ عمر بن سعد كان يريد أن يجمع الدّين والدّنيا معاً، الله والمادة معاً. كان يريد أن يحصل على ملك الري من ابن زياد، ولكن دون أن يلطخ يديه بدم الحسين عليه السلام ويسبب هذا الصراع الذي كان يعانيه مع نفسه. أرسل ابن سعد الرسائل المتوالية سعياً لتجنب القتال مع الحسين عليه السلام. وعندما علم ابن زياد بهذه المساعي، أرسل إلى ابن سعد رسالة شديدة اللهجة، عنّفه فيها وأمره أن يحسم الأمر سريعاً بقتل الحسين عليه السلام وهدده بأنّه سيعزله وينصب غيره إن لم يفعل. لم يستطع عمر بن سعد أن يتخلص من عبودية الدّنيا، وإذ تردّد الأمر بينها وبين الدّين باع دينه طمعاً بالدّنيا، فقال سمعاً وطاعة لأمر ابن زياد، فأظهر الكثير من الضعة والخسّة والغدر وارتكب أفظع الجرائم التي عرفها التاريخ. ويعلل ابن سعد ارتكابه لقسم من تلك الجرائم بأنّه كان يسعى من أجل أن ينفي عن نفسه تهمة الانحياز إلى الإمام الحسين عليه السلام، ومن أجل أن يؤكد لابن زياد إخلاصه وولاءه له بعد أن وصلت لابن زياد رسائل تتهم ابن سعد بالتردّد في قتال الإمام عليه السلام والميل إليه، ونفياً لهذه التهمة أقدم ابن سعد على ارتكاب سلسلة من الجرائم بحق آل الرسول تملقاً لابن زياد،
فأمر فرقة الرماة بالاستعداد بعد أن تقابل الجيشان، فاستعد الرماة وأخذ ابن سعد سهماً وأطلقه نحو خيام الإمام الحسين عليه السلام وقال: “اشهدوا لي عند الأمير إنّي أوّل من رمى”[16].
هذه هي قصة أوّل سهم أُطلق في واقعة الطف. وأنا كلّما وصلت إلى هذا المقطع من واقعة الطف في كربلاء تذكرت قولاً لصديقنا وصديقكم العزيز العالم الكبير المرحوم (آيتي)، فلقد سمعت منه أو قرأت له أنّ واقعة الطف بدأت بسهم وختمت بسهم، لقد بدأت بسهم عمر بن سعد فهل تعرفون السهم الذي ختمت به، أي الذي أنهى القتال بين الطرفين؟ لقد كان ذلك عندما وقف سيّد الشهداء وحده في الميدان وقد تعب من كثرة القتال وأخذ منه العطش مأخذاً عظيماً، ثم كان أن أصابته حجارة رماها أحد الأوغاد نحوه، فأصابت جبهته المباركة وسال منها الدم الزاكي فلما رفع الإمام ثوبه يمسح جبينه أتاه سهم مثلث مسموم فأصاب قلبه فختم بذلك جهاد سيّد الشهداء، ولم يعد الإمام يذكر شيئاً ولم يعد يخاطب إلّا ربّه قائلاً: “بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله”[17].
كان عابس بن شبيب الشاكري رجلاً من أصحاب الحسين عليه السلام، قد ملأت كيانه روح الشجاعة والبطولة الحسينية، فوقف في وسط الميدان يدعو جيش بني أميّة للمبارزة، فلم يجرؤ أي منهم على تحدي هذا الليث الغاضب، وبعد تكرار الدعوة لهم، وجد عابس أنّ لامة حربه تعيقه عن الحركة ومهاجمة أعداء الله، فخلعها كلها – درعه خوذته وغيرهما – وعاد إلى الميدان يهاجم أعداء الإسلام، فلم يجرؤ أحد على الوقوف في طريقه، وما استطاعوا قتله إلّا برميه بوابل من الحجارة والسهام فاستشهد بهذا الأسلوب الوحشي. ولقد رسم جميع أصحاب أبي عبد الله عليه السلام في يوم الطف أروع صور البطولة والفداء، رجالاً ونساءً، وزينوا تاريخ البشرية بلوحات مدهشة وصفحات مشرقة ليس لها نظير. ولو كانت قد وجدت مثل هذه الصور البطولية المشرقة في تاريخ الغرب، لرأيت كيف يعظمونها ويصنعون منها نماذج مشرقة.
وعبد الله بن عمير الكلبي رجل آخر من أصحاب الحسين عليه السلام كان قد اصطحب معه إلى كربلاء زوجته ووالدته، وقد كان من الأبطال البارزين، وعندما أراد النزول إلى الميدان في يوم عاشوراء، اعترضته زوجته وقالت له: إلى من تتركني وعند من تودعني – وكان جديد عهد بالزواج منها – ثم أردفت قائلة: “بالله لا تفجعني في نفسك”. وما أن سمعت أُمّه قول زوجته حتى خاطبته: “يا بنيَّ لا تسمع لقولها. اذهب وقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ليكون غداً في القيامة شفيعك، ولا أرضى عنك حتى تقتل بين يدي الحسين عليه السلام”. فرجع وقاتل حتى استشهد فأخذت أُمّه عمود الخيمة وهاجمت الأعداء، فردّها الحسين عليه السلام وقال: “جزيتم من أهل بيت خيراً ارجعي إلى النساء يرحمك الله فقد وضع عنك الجهاد”. ويرتكب الأعداء جريمة بشعة جديدة إذ يقطعون رأس عبد الله ويرمون به صوب أُمّه فتأخذه وتمسح التراب عنه وتقبِّله وتحتضنه وتخاطبه بقولها: “قد رضيت عنك بنيّ قد رضيت” ثم ترميه إلى معسكر الأعداء وهي تقول: ما قدمنا في سبيل الله فلن نسترجعه.
ومن الأنصار الآخرين الذين استأذنوا الحسين عليه السلام في الخروج للقتال، صبي ابن عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً، كان أبوه قد قتل في المعركة، وقد شدّ الصبي حمائل سيفه، طالباً الإذن بالقتال لكن الإمام الحسين عليه السلام لم يأذن له بالقتال رأفة بأُمّه التي فجعت بزوجها منذ قليل فقال عليه السلام: “هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعلَّ أُمّه تكره ذلك” فأجابه الغلام مؤكّداً رضا والدته بقتاله دون الحسين وعدم رضاها بغير ذلك. فقال: “إنّ أُمّي هي التي أمرتني وقالت لا أرضى عنك حتى تقتل دون الحسين”.
هذا الصبي امتاز بأدب رفيع وخلق عال وقد ضرب في يوم الطف مثلاً رائعاً في الرفعة والسمو امتاز بهما على الجميع، إذ إنَّ كل من كان يبرز إلى ميدان القتال من أصحاب الحسين عليه السلام كان يعرّف
نفسه رجزاً أو خطابة وهذا أمر تعارفت عليه العرب، وكان من يرتجز أو يتحدث يذكر – عادة – اسمه واسم أبيه وعشيرته، ولكن هذا الصبي لم يفعل ذلك، ولم يذكر اسمه أو اسم أبيه وعشيرته، بل ظل مجهولاً في التاريخ، وأرباب المقاتل لم يذكروا ابن أي من الأصحاب هو، ولم يكتبوا في تعريفه سوى “وخرج غلام قتل أبوه في المعركة”، فلماذا لم يعرف؟ ألم يرتجز ويعرف نفسه عندما برز القتال؟ بلى فعل ذلك، وأنشد رجزاً أبدع فيه كل الإبداع وبطريقة تفرَّد بها ولم يسبقه أو يلحقه فيها أحد. لقد ارتجز قائلاً:
“أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤادي البشير النذير
عليٌّ وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير”
بهذا الرجز لا أكثر، عرَّف نفسه للعالم فلم يعرف نفسه بذكر اسمه والافتخار بأبيه وجده وعشيرته، ولم يعرّف نفسه بالافتخار بأبيه وجده وعشيرته، بل عرَّف نفسه بالافتخار بأنّه من جند الحسين عليه السلام وأنّ أميره الحسين وكفى.
الفصل الثاني: النظرة الإسلامية في الموت
أولاً: ما هي طبيعة الموت؟
ثانياً: الاتجاه الأصيل في نظرته للموت
ثالثاً: متى يُطلب الموت؟
رابعاً: الإطار الاجتماعي للشهادة
خامساً: كيف نوجد المشاعر اتجاه الشهيد؟
سادساً: تربة الشهيد
سابعاً: نموذج ليلة الشهيد
أولاً: ما هي طبيعة الموت؟
ثمة اتجاهات متباينة في نظرتها إلى الموت.
– فاتّجاه يرى أنّ علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقة الروح بالجسد، هي نوع من العلاقة التي تربط السجين بالسجن، وغريق البئر بالبئر والطير بالقفص.
والموت في رأي هذا الاتّجاه الفكري خلاص وحريّة، والانتحار بموجبه مشروع.
وتنسب إلى (ماني) المعروف هذه النظرية، وبموجبها يكتسب الموت صفة إيجابية مطلوبة، إذ إنّه نجاة من سجن وخروج من بئر وتحرر من قفص، وليس فيه ما يدعو إلى الأسف بل إنّه يدعو إلى الابتهاج.
– واتّجاه ثان يرى أنّ الموت عدم وفناء، خلافاً للحياة التي هي وجود وبقاء.. والإنسان يميل غريزياً وبالبداهة إلى ترجيح الوجود على الفناء، ولذلك فهو يفضل الحياة – بأي صورة كانت – على الموت. يتحدث (المولوي) عن (جالينوس) الطبيب الاسكندراني المعروف أنّه قال: إنّي أفضل أن أبقى حيّاً حتى ولو قدر أن أعيش في بطن بغلة ورأسي خارجها. هذا الاتّجاه ينظر إلى الموت نظرة سلبية تماماً.
– والاتّجاه الآخر يرفض أن يكون الموت إبادة وفناء.. ويرى أنّه انتقال من عالم إلى آخر، ويرفض أن تكون علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقة الروح بالجسد، من نوع علاقة السجين بالسجن، أو الغريق بالبئر أو الطير بالقفص، ويذهب إلى أنّها كعلاقة الطالب بالمدرسة وعلاقة الفلاح بالمزرعة.
الطالب يعاني في دراسته مصاعب متعددة كابتعاده عن الأهل والأحبة وعن الوطن أحياناً، ويتقيد بجدران الصف والمدرسة.
لكن الطريق الوحيد لسعادة هذا الطالب في المجتمع ينحصر في إنهاء دراسته بنجاح.
والمزارع يتحمل في حقله أنواع التّعب، ويعاني من ابتعاده عن أهله وأطفاله. لكن عمله في المزرعة هو الذي يوفر له وسيلة حياة مرضية في كنف عائلته طول أيّام السنة.
ثانياً: الاتجاه الأصيل في نظرته للموت
وكيف يستقبل الموت أصحاب هذا الاتّجاه الأخير؟
هؤلاء يخافون من الموت وينفرون منه إن كانوا قد أضاعوا عمرهم، وأتلفوا حياتهم، وارتكبوا المعاصي والآثام.. لكنهم يستقبلون الموت ببشر وسرور، ويترقبونه بفارغ الصبر إن كانوا قد أدوا ما عليهم من مسؤولية في الحياة، ونجحوا في اجتياز المرحلة الدنيويّة، شأنهم في ذلك شأن الطالب الذي جدّ واجتهد بنجاح في دراسته ويوّد بلهفة
أن يعود إلى وطنه وإلى أحضان أهله وأحبائه، وكالمزارع الذي بذل غاية جهده في عمله، ويأمل بشوق شديد أن ينتهي من عمله، ويأخذ ما جنته يداه إلى بيته.
هذا الطالب يصارع رغبته في العودة إلى وطنه قبل انتهاء دراسته، ويأبى على نفسه أن يترك دراسته ناقصة. وهكذا المزارع لا يضحي بعمله وواجبه من أجل تحقيق أمله.
شأن أولياء الله شأن هذا الطالب. ينظرون بعين الشوق والأمل إلى الموت باعتباره نقلة إلى العالم الآخر، وهذا الأمل يعتمل في نفوسهم، فلا يقرّ له قرار، يقول الإمام عليّ عليه السلام: “ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب”[18].
ومع هذا، فأولياء الله لا يلقون بأنفسهم نحو الموت، إذ يرون العمر فرصة وحيدة للعمل والتكامل، ويعلمون أنّهم يستطيعون اجتياز مراحل أسمى على سلّم التكامل إن استمروا على قيد الحياة، فيطلبون من الله أن يطيل أعمارهم.
ومن هنا فلا تعارض بين شوق المؤمنين إلى الموت وطلبهم طول العمر.
القرآن الكريم يخاطب اليهود الذين زعموا أنّهم (أولياء الله) قائلاً: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[19].
ثمّ يقول: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[20].
هؤلاء هم من النوع الذي أشرنا إليه آنفاً في القسم الثالث من وجهات النظر إلى الموت.
ثالثاً: متى يُطلب الموت؟
أولياء الله يعرضون عن طلب طول العمر في موضعين:
الأوّل: حين يشعرون بعدم قدرتهم على إحراز مزيد من النجاح في حياتهم، بل يحسون بالتناقض[21] بدلاً من التكامل.
يقول الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في دعائه: “إلهي وعمّرني ما دام عمري بذلة في طاعتك، فإن كان مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك”[22].
الثاني: الشهادة، فأولياء الله يطلبون من الله الموت في موضع الشهادة دونما شروط.
لأنّ الشهادة تنطوي على الخاصيّتين معاً: خاصيّة العمل، وخاصيّة التكامل.
والحديث النبوي: “فوق كلّ ذي برٍّ برّ، حتى يقتل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ”[23] يؤكّد هذه الحقيقة.
ومن هنا الإمام عليّ عليه السلام يكاد يطير فرحاً حين يسمع من النبيّ أنّ مصيره الشهادة.
وعليّ عليه السلام تحدّث عن الموت كثيراً، وممّا قاله في هذا الصدد: “والله ما فجأني من الموت وارد كرهته ولا طالع أنكرته، وما كنت إلّا كقارب ورد وطالب وجد”[24].
هذه النظرة إلى الموت بلغت من العمق والرسوخ في نفس (عليّ) بحيث رفع عقيرته حين هوى السيف على مفرق رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان مردداً: “فزت ورب الكعبة”[25].
والحسين بن عليّ عليه السلام يروي عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له: “إنّ لك منزلة عند الله لا تنالها إلّا بالشهادة”[26].
إلى هنا، حللنا مسألة الموت والشهادة في (الإطار الفردي).
وتبيّن لنا: أنّ الموت على مسرح الشهادة فوز للشهيد ما بعده فوز، ويستحق الفرح والابتهاج في ذكريات استشهاد أئمتنا.
ومن هنا يقول السيد ابن طاووس: لو لم تصل إلينا الأوامر بالتعزيّة، لأقمنا حفلات الابتهاج في ذكريات استشهاد أئمّتنا.
ومن هنا أيضاً، يحقّ للمسيحيين أن يقيموا حفلات سارة بمناسبة استشهاد المسيح – كما يعتقدون – والإسلام يصرح بأنّ الشهادة فوز للشهيد لا غير.
رابعاً: الإطار الاجتماعي للشهادة
التحليل السابق – كما ذكرنا – يقتصر على (الإطار الفردي) لمسألة الشهادة.. ولهذه المسألة – في نظر الإسلام – إطار آخر هو (الإطار الاجتماعي).
الإطار الاجتماعي للشهادة ينظر إلى المسألة باعتبارها ظاهرة لها جذورها الممتدة في أعماق المجتمع، ولها آثارها الجسيمة التي ستتركها على الحياة الاجتماعية.
موقف المجتمع من الشهيد ومن حادثة الشهادة لا يرتبط بالشهيد ذاته فقط بما حقّقه الشهيد من نجاح فردي، أو بما مُني به من فشل فردي فحسب.. بل إنّ هذا الموقف يرتبط برد الفعل الذي سيبديه المجتمع تجاه الشهيد، وتجاه جبهة الشهيد من جهة، وتجاه الجبهة المعارضة للشهيد من جهة أخرى.
الشهيد يرتبط بمجتمعه عن طريقين:
الأوّل: ارتباطه بأفراد حرموا من وجوده ومن معطياته.
ووقع الشهادة على هؤلاء الأفراد مؤلم محزن. وإن بكى هؤلاء على الشهيد فإنّما يبكون في الحقيقة على أنفسهم.
الثاني: ارتباطه بالأفراد الذين ثار الشهيد بوجههم، لما بثّوه في المجتمع من إثم وفساد.
أي ارتباطه بالجو الفاسد الذي ناضل الشهيد لمحوه وسقط صريعاً على طريق نضاله.
هذا الارتباط يلقي على المجتمع أوّل درس من دروس الشهيد.
هذا الدرس يتلخّص في الطلب من أفراد المجتمع عدم السماح للأجواء الفاسدة أن تظهر في المجتمع..
شهادة الشهيد تطرح في إطار هذا الدرس على أنّها أمر مؤلم مفجع، لكن هذا الألم يتحوّل في نفوس الأفراد إلى سخط على الذين ثار الشهيد بوجههم، وعلى الذين قتل الشهيد بأيديهم..
وهذا السخط يحول دون ظهور قتلة جناة في المجتمع.
وهذا الدرس نتلمس آثاره في الذين تربوا في مجالس العزاء الواقعية على الحسين عليه السلام، إنّهم يأبون أن يتشبهوا قيد أنملة بقتلة الحسين عليه السلام.
وللشهادة دروس اجتماعية أخرى. المجتمعات الإنسانية لا تخلو من أجواء فاسدة تتطلب الشهادة.
وهنا ينبغي دفع مشاعر أفراد المجتمع على طريق الاستشهاد، عن طريق سرد ما قام به الشهيد من أعمال بطولية عن “وعي” و”اختيار”.
فعن هذا الطريق ترتفع مشاعر أفراد المجتمع إلى مستوى
مشاعر الشهيد، وتنطبع بطابعها ومن هنا قلنا إنّ البكاء على الشهيد: اشتراك معه فيما سجله من ملاحم، وتعاطف مع روحه، وانسياق مع نشاطه وتحركه وتياره.
خامساً: كيف نوجد المشاعر اتجاه الشهيد؟
وهنا يحقّ لنا أن نطرح هذا السؤال: هل إن مجالس الفرح والرقص والسكر والعربدة – كما هو مشهود في مجالس المسيحيين الدينية – بقادرة على خلق هذه المشاعر الاجتماعية تجاه الشهيد، أم مجالس البكاء؟
يخطئ من يظن أنّ البكاء ظاهرة سلبية تنمّ دائماً عن مشاعر الحزن والألم.
الضّحك والبكاء من خصائص الإنسان، الحيوانات تشعر باللذة والألم، لكنها لا تعبر عما تحسه بضحك أو بكاء.
الضّحك والبكاء مظهران لأشدّ حالات إثارة العواطف البشرية.
للضّحك أنواع وأقسام لسنا الآن بصدد الحديث عنها، وهكذا البكاء.
والبكاء يرافق عادة نوعاً من الرقة والهياج، فدموع الشوق والحب معروفة للجميع.
وفي حالة البكاء وما يصحبه من رقة وهياج يشعر الإنسان بقربه من حبيبه الذي يبكي عليه، أكثر من أي وقت آخر. بل يشعر في تلك الحالة باتحاده مع الحبيب.
الضحك والسرور لهما غالباً طابع (التوغل في الذاتية)، والبكاء له – على الأكثر – طابع (الخروج من أغلال الذاتية)، وطابع نكران الذات، والذوبان في ذات المحبوب.
الضحك بهذا المنظار يشبه (الشهوة) التي ليست سوى الانغماس في الذات.. والبكاء يشبه (الحب) الذي هو خروج من إطار الذات. الإمام الحسين عليه السلام بما سجله من مواقف على ساحة الشهادة يملك قلوب مئات الملايين من أبناء البشر.
ولو قدر لعلماء الدين – وهم الأمناء على صيانة هذا الانشداد إلى الحسين عليه السلام – أن يستثمروا هذه المشاعر الإنسانيّة بدفعها على طريق الحسين عليه السلام وبرفعها إلى مستوى آمال الحسين عليه السلام وروح الحسين عليه السلام، لأمكنهم أن يصلحوا العالم بأسره. سر بقاء الحسين عليه السلام يكمن من جهة في البعد العقلي لثورته، وفيما تتميز به من منطق إنساني سليم ومن جهة أخرى في جذورها الضاربة في أعماق المشاعر والعواطف.
البكاء على الحسين عليه السلام يصون بقاء هذه الجذور العاطفية في النفوس ويصونها من الضعف والزوال، ومن هنا نفهم حكمة توصيات أئمتنا في البكاء على الحسين عليه السلام.
لكن ظاهرة البكاء تبقى دونما عطاء – كما قلنا – إن لم تستثمر على الطريق الصحيح.
سادساً: تربة الشهيد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّم ابنته ذكراً عرف فيما بعد بتسبيح الزهراء، يكبّر فيه الذاكر 34 مرّة، ويحمد الله 33 مرّة، ويسبحه 33 مرّة.
ومن أجل أن تضبط الصديقة الطاهرة أعداد التكبير والحمد والتسبيح في ذكرها، بادرت إلى أن تعمل لنفسها مسبحة، وما كان منها إلّا أن توجهت إلى قبر حمزة بن عبد المطلب لتأخذ منه تربة تعمل منها مسبحتها!
ولهذا الاختيار.. اختيار تربة الشهيد حمزة، مدلوله العميق.
يمكن عمل المسبحة من خشب أو حجارة أو أي تربة أخرى. لكن اختيار تربة الشهيد يدلّ على احترام الشهيد والشَّهادة، بل يعني تقديس الشّهادة.
بعد استشهاد الحسين عليه السلام، أضحت تربة الحسين عليه السلام محطّاً لأنظار المتبرِّكين بصعيد الشّهادة.
أتباع مدرسة آل البيت لا يسجدون على المأكول والملبوس استناداً إلى ما ورد من نهي عن ذلك، ويضعون جباههم أمام الله على الصخر أو التراب، لكنهم يفضلون – استناداً إلى تعاليم أئمّتهم – أن يمرغوا جباههم أمام ربهم على تربة الشهيد، على تربة الحسين عليه السلام.
السّجود يصح على أي تربة، لكن تربة كربلاء معطرة بشذى الشهادة، وتفوح منها رائحة القرب من الشهيد. والحث على السجود عليها هو حثّ على تذكر مكانة الشهيد وقيمة الشهادة باستمرار.
سابعاً: نموذج ليلة الشهيد
شاع في عالمنا المعاصر اتّخاذ يوم من أيّام السنة لتكريم فئة من الفئات ويقترن ذلك اليوم باسم تلك الفئة كيوم العمّال، ويوم المعلم، ويوم الأم.
لكننا لم نسمع بتخصيص يوم لتكريم الشهيد، وفي الإطار الإسلامي، تميز يوم العاشر من محرّم وحده بأنّه يوم الشهيد[27].
ها نحن نجتمع في ليلة هذا اليوم الكبير لنعيش منطق الشهادة، منطق العشق الإلهي الممزوج بمنطق الإصلاح الاجتماعي، منطق الإنسان العارف المصلح، منطق مسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر وزهير بن القين وأمثالهم من الشهداء الذي يمثلون منطق الشهادة وشخصية الشهيد خير تمثيل.
وسام الحسين عليه السلام:
في مثل هذه الليلة اجتمع الحسين عليه السلام بأصحابه ليقلِّدهم وساماً يبيّن مكانتهم ومنزلتهم، وليميط اللثام عن صمودهم وإصرارهم على اختيار طريق الشهادة.
جمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب الماء – وفي رواية عند قرب المساء- فخطبهم قائلاً: “أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين”.
ثمّ قال: “أما بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى، ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، جزاكم الله عني جميعاً. ألا وإنّي أظن أن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري…”[28]
تقول الرواية: إنّ الحسين عليه السلام جمع أصحابه عند قرب الماء، أو عند قرب المساء، فإن كانت (قرب المساء) فتعني
قرب أمسية يوم التاسع من محرم. أما إن كانت (قرب الماء) فتعني في الخيمة المخصّصة لقرب الماء في معسكر الحسين عليه السلام.
وربما جمع الحسين عليه السلام هؤلاء في هذه الخيمة لأنّها أضحت خالية من الماء… إذ إن أرباب المقاتل يذكرون أن آخر وجبة من الماء حصل عليها الحسين عليه السلام كانت ليلة العاشر من محرم، وفي هذه الليلة شرب من كان مع الحسين عليه السلام، ثم قال لأصحابه: اغتسلوا بما بقي من هذا الماء، فإنّه آخر حظكم من ماء الدنيا.
ويبتدئ الحسين عليه السلام – في خطبته – بالثناء على الله تعالى وحمده على كل حال.
عبارات الحمد والشكر تتردّد على لسان الحسين عليه السلام دوماً، معبرة عن الارتباط الوثيق بينه وبين الله تعالى.
فقد أجاب الفرزدق حين قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك: “إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ من كان الحقّ نيته والتقوى سريرته”[29].
منطق أصحاب الحسين عليه السلام:
قال له إخوته، وأبناؤه، وبنوا أخيه، وأبناء عبد الله بن جعفر: ولم نفعل؟ لنبقى بعدك…؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.
وقال مسلم بن عوسجة: “أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقكّ؟ أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك”.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي: “والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك، والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا أحرق حيّاً ثمّ أذرُّ، يفعل بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، وإنّما هي قتلة واحدة”.
وقال زهير بن القين: “والله لوددت أنّي قتلت، ثمّ نشرت ثمّ قتلت
حتى أقتل كذا ألف قتلة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك”[30].
عند ذلك أخبرهم الحسين عليه السلام باستشهادهم يوم غد.. فهللوا وكبروا وحمدوا الله على ما أنعم عليهم.. هذا هو منطق الشهيد..
لو لم يكن منطق أصحاب الحسين عليه السلام منطق شهادة لآثروا ترك الحسين عليه السلام.. لأنّ الحسين عليه السلام سيقتل غداً لا محالة.. فما فائدة بقائهم مع الحسين عليه السلام؟!
والحسين عليه السلام نفسه.. سمح لهم بالمغادرة.. ولم يصرّ عليهم بذلك لو كان منطق الحسين عليه السلام غير منطق الشهادة، لأفتى بحرمة بقائهم، لأنّ بقاءهم يعرضهم لخطر الموت والتهلكة.
لكن الشهداء أبوا المغادرة، والحسين عليه السلام أبى أن يصرّ عليهم، بل سُرَّ واستبشر بموافقتهم، لأنّ منطق الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه منطق الشهيد، وهذا المنطق يرى أنّ المجتمع الميت بحاجة إلى دم يحرك كيانه المشلول.
الشهادة لا تستهدف التغلب على العدو وحسب، بل تستهدف تسجيل المواقف البطولية وتدوين الملاحم الإنسانيّة.
وهكذا كان.
لقد بقيت ملحمة كربلاء وستبقى مشعلاً يضيء الطريق أمام الأجيال، ويصرخ بوجه الظالمين في كلّ زمان ومكان، وهزّة تنبعث في جسد الأمّة متى ما اعترى هذا الجسد خمود وركود.
الفصل الثالث: الشهيد في الإسلام
أولاً: قدسية الشهيد
ثانياً: مكانة الشهيد في القرآن
ثالثاً: لماذا هذه المكانة للشهيد؟
رابعاً: منشأ القدسية في الشهادة
خامساً: ركنا الشهادة ووجهاها
سادساً: مسؤولية الشهيد في القرآن والروايات
سابعاً: الآثار السلبية لترك الجهاد
ثامناً: الاندفاع نحو الشهادة
تاسعاً: منطق الشهيد
عاشراً: البكاء على الشهيد
أولاً: قدسية الشهيد
ثمة كلمات لها في عرف البشرية عامّة وفي عرف المسلمين خاصّة قدسية وعظمة واحترام.
العالم، والفيلسوف، والمخترع، والبطل، والمصلح، والمجتهد، والأستاذ، والطالب والعابد، والزاهد، والمؤمن، والمجاهد، والمهاجر، والصدّيق، والآمر بالمعروف، والولّي، والإمام والنبيّ، كلمات بعضها مقرون بالعظمة والاحترام لدى أبناء البشر عامّة، وبعضها الآخر يحمل هذه الصفة عند المسلمين خاصّة.
ومن الطبيعي أنّ اللفظ لا يحمل طابع القداسة بنفسه، بل بما ينطوي عليه من معنى.
جميع المجتمعات البشرية تنظر بعين التقديس إلى بعض المفاهيم مع اختلاف طفيف بينها. وهذا التقديس يرتبط بجوانب خاصة من نفس هذه المجتمعات في حقل تقييمها للأمور غير الماديّة.
وهذه المسألة تحتاج إلى دراسة فلسفيّة وإنسانيّة معمّقة لسنا بصددها الآن.
و”الشهيد” كلمة لها في الإطار الإسلامي قداسة خاصّة.
والإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية ينظر إلى هذه الكلمة وكأنّها مؤطّرة بهالة من نور.
كلمة الشهيد مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع أعراف المجموعات البشرية مع اختلاف بينها في الموازين والمقاييس، ولسنا بصدد الحديث عن المفهوم غير الإسلامي لهذه الكلمة.
الشهيد – في المعايير الإسلامية – هو الذي نال درجة “الشهادة” أي الذي بذل نفسه، على طريق الأهداف الإسلامية السامية، ومن أجل تحقيق القيم الإنسانية الواقعية.
والإنسان الشهيد في المفهوم الإسلامي يبلغ – بشهادته – أسمى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيرته التكاملية.
نستطيع أن نفهم سبب قدسية كلمة “الشهيد” في الإسلام وفي أنظار المسلمين من خلال الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الشهادة والشهيد، وكذلك من خلال ما وصلنا من روايات في هذا الحقل.
ثانياً: مكانة الشهيد في القرآن
القرآن الكريم يقول عن الشهيد: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[31].
فالشهداء – إذن – “أحياء” و”عند ربهم” يرزقون، وما أعظمها من منزلة!
والسنة تكثر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها
إنسان في حياته بمكانة الشهيد، لأنّها ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانيّة.
فالسائرون على طريق طلب العلم، من أجل التعرف إلى الحقيقة، وطلباً لمرضاة الله تعالى، لا بهدف الترفع والاتجار، هم شهداء في مفهوم الروايات الإسلامية إن توفّاهم الله على هذا الطريق.
وهذا التشبيه يدل على علو مكانة طالب العلم إضافة لما له من دلالة على أنّ الشهادة هي الذروة في مسيرة الإنسان التكاملية.
ونظير هذا التشبيه ورد بشأن الساعي على طريق إدارة دفَّة اقتصاد عائلته، وبالتالي على طريق إدارة اقتصاد مجتمعه، في الحديث: “الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله”[32].
حقّ الشهيد
كلّ أولئك الذين خدموا البشرية بشكل من الأشكال لهم حقّ على بني الإنسان، سواء أسدوا خدماتهم عن طريق العلم أم الفكر أم الفلسفة والاختراع والاكتشاف أم الأخلاق والحكمة العملية.
لكن أحداً من هؤلاء ليس له على البشرية حقّ كما الشهيد.
ومن هنا فإنّ ما يكنه أبناء البشر من تعاطف وانشداد تجاه الشهداء يفوق ما يكنّونه تجاه سائر خدمة البشرية.
ثالثاً: لماذا هذه المكانة للشهيد؟
الدليل واضح: كلّ المجموعات التي أسدت خدمات إلى البشرية مدينة للشهداء، لكن الشهداء قلما كانوا مدينين لهذه المجموعات.
العالم في علمه، والفيلسوف في فلسفته، والمخترع في اختراعه، ومعلّم الأخلاق في تعاليمه، محتاجون إلى أجواء حرة مساعدة كي يقدّموا خدماتهم. والشهيد بتضحياته يوفر هذه الأجواء.
الشهيد كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين. الشهداء شموع البشرية على طريقها اللاحب الطويل.
ولولا هذه الشموع لما استطاعت المسيرة البشرية أن تواصل طريقها، ولما استطاع أبناء البشر في ظلمات الاستعباد والاستبداد أن يمارسوا نشاطاتهم ويقدموا خدماتهم إلى الإنسانية.
والله سبحانه يخاطب نبيّه الكريم قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[33].
و(السراج المنير) مفهوم يدلّ على الإضاءة، وينطوي على معنى الاحتراق وإزالة دياجير الظلام.
جسد الشهيد
أحكام الإسلام تقوم كلّها على أساس الحكمة والمصلحة، وجميعها لها دلالاتها الخاصّة، ودلالاتها الاجتماعية خاصّة.
ومن هذه الأحكام ما يتعلّق بالميت من غسل وتكفين وصلاة
ودفن. وكلّها ذات معان خاصّة لسنا بصدد الحديث عنها.
إلّا أن أحكام الميت هذه، لها استثناء، وهذا الاستثناء يختص بجسد الشهيد. فأحكام الميت لا تطبّق على جسد الشهيد سوى الصلاة والدفن.
أمَّا الغسل والتكفين، فلا، فالشهيد يدفن بدمه وملابسه.
وهذا الاستثناء له مغزاه العميق، إنّه يرمز إلى أنّ روح الشهيد بلغت درجةً من السمو والطَّهارة بحيث ترك هذا السمو والطّهر آثاره على جسد الشهيد وعلى دمه، بل وحتّى على ما يرتديه من لباس.
بدن الشهيد “جسد متروّح” إن صحّ التعبير، أي أضحى وجوداً تجري عليه أحكام الروح.
ولباسه أضحى “لباساً متجسداً” أي تجري عليه أحكام الجسد الذي يضمّ تلك الروح الطاهرة.
فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلوّ فكره وسموّ تضحيته، وتلك دلالة أخرى على قداسة الشهيد في المفهوم الإسلامي.
رابعاً: منشأ القدسية في الشهادة
ما هو مبعث القدسية في “الشهادة”؟!
من الواضح أن هذه القدسية لا تأتي من كونها مقرونة بالقتل.
فكثير من حوادث القتل لا يعدو أن تكون هلاك إنسان، وربما اقترن أحياناً بالعار بدلاً من الفخار. لنوضح هذه المسألة أكثر. موت
الأشخاص ذو أنواع وأقسام:
1- الموت الطبيعيّ: الإنسان يموت بشكل طبيعي بعد أن يقضي عمره الطبيعي، ومثل هذا الموت لا ينطوي على عار ولا فخار، ولا يستتبعه عادة أسفٌ عميقٌ.
2- الموت الاخترامي[34]: وهو ما يحدث على أثر انتشار الأمراض الفتّاكة والأوبئة أو وقوع الزلازل والسيول ونظائرها من السوانح الطبيعية.
هذا النّوع من الموت لا يتضمن عاراً ولا فخاراً أيضاً، لكنّه يقترن بالأسف عادة، لأنّه يؤدِّي إلى إتلاف الأفراد.
3- الموت المصحوب بعمل جنائي: حيث المقتول بريء، والقاتل ينقضُّ على فريسته إرضاءً لهواه وقضاء على من يتصوّر أنّه يزاحمه في مصالحه الشخصية.
مثل أنواع هذا القتل نقرأ أخباره باستمرار في أعمدة الصحف وفي صفحات التاريخ. فهذا رجلٌ قتل صاحبَهُ لمنافسةٍ بينهما على مالٍ أو متاعٍ. وهذه امرأةٌ قتلت طفل زوجها كي تستأثر وحدها بحب الزوج.
وذاك الوالي أعمل السيف في رقاب أبناء والٍ آخر تجنباً لمنافستهم إيّاه في المستقبل.
وعلى مسرح مثل هذه الحوادث جانبان، جانب يقف فيه القاتل
ويداه ملطختان بدم الجناية، وعيناه يتطير منهما الخبث والشرر ومنظره يثير النفرة والاحتقار، وجانب آخر يظهر فيه المقتول صريعاً مظلوماً، مهدور الدم، يثير تجاهه عواطف الأسف والترحم.
ومن الواضح، أن هذا النوع من الموت – مع ما يتضمنه من أسف وترحم على القتل – لا يقترن بالإعجاب والافتخار، لأنّ المقتول لم يكن له دور في العملية، بل إنّ عوامل الحسد والعداء والحقارة هي التي أردت هذا الإنسان قتيلاً.
4- الاستشهاد: وهو الموت الذي يتجه نحوه القتيل تحقيقاً لهدف مقدس إنساني، أو “في سبيل الله”، على حدّ التعبير القرآني، مع ما يحتمله أو يظنه أو يعلمه من أخطار في طريقه.
خامساً: ركنا الشهادة ووجهاها
1- للشهادة ركنان:
الأوّل: قدسية الهدف، والموت على طريق تحقيق هذا الهدف المقدس، أي أن يكون “في سبيل الله”.
الثاني: أن تكون الشهادة قد تمت عن علم ووعي.
2- للشّهادة وجهان:
الأول: وجهٌ مقدّس في انتسابها للمقتول
الثاني: وجهٌ بشعٌ إجرامي في انتسابها للقاتل.
الشهادة – بما تحمله من صفات سامية كالوعي، والاختيار
وقدسية الهدف وخلوها من الميول الذاتية – عملٌ بطولي يبعث على الإعجاب والافتخار.
هذا النوع من (الموت) هو وحده الذي يفوق (الحياة) عظمة وقدسية وأهمية.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ظاهرة مؤسفة تطغى على مجالس ذكر الحسين بن علي عليهما السلام.
هذه المجالس تضفي على مقتل الحسين عليه السلام طابع النوع الثالث من الموت، أي موت الإنسان البريء الذي ذهبَ دمه هدراً، مع أنّ هذه المجالس تذكر الحسين عليه السلام على أنّه “شهيد” بل “سيِّد الشُّهداء”.
كثير من الموالين لآل البيت يذرفون الدموع على مظلومية سيد الشهداء، وكأنَّهم يبكون على طفلٍ بريءٍ ذهب ضحية أهواء طاغية من الطغاة[35].
لو كان الحسين عليه السلام كذلك، لو كان مظلوماً عديم الدور في حادث مقتله، كسائر المقتولين ظلماً وعدواناً، لما كان شهيداً، فما بالك بكونه سيد الشهداء!
ليس من الصحيح أن نحصر الحسين عليه السلام في إطار الإنسان الذي ذهب ضحية أهواء الطواغيت.
نعم، الوجه الآخر لفاجعة كربلاء يمثل بشاعة القاتلين وإجرامهم واستفحال أهوائهم الدنيئة.
لكن الوجه الآخر الذي يرتبط بالحسين عليه السلام هو الشهادة، أي المقاومة الواعية الذكية على طريق الهدف المقدس. فمع علم الحسين عليه السلام بالمصير الذي سيواجهه نتيجة مواقفه المتصلبة رفض البيعة مع الطغاة رفضاً باتّاً.. وأبى السكوت واعتبر المداهنة معصية ما بعدها معصية.
تاريخ الحسين عليه السلام وما سجّله في التاريخ من كلمة وعمل، أوضح دليل على ما نقول.
الشهادة تكسب – إذن – قداستها من صفتها التضحوية الواعية على طريق الهدف المقدس.
سادساً: مسؤولية الشهيد في القرآن والروايات
العمليّة التي تؤدّي إلى الشهادة أي إلى الموت الواعي على طريق الهدف المقدس، قد اتّخذت في الإطار الإسلامي شكل مبدأ هو “الجهاد”.
ولو أردنا أن نوضح هذا المبدأ، فثمة أسئلة متعددة تطرح نفسها على بساط البحث منها:
هل أنّ ماهية هذا المبدأ دفاعيّة أو هجوميّة؟ وإنْ كانت دفاعيّة، فهل ينحصر في إطار الدّفاع عن الحقوق الشّخصية والقوميّة، أم يتَّسِعُ نطاقه ليشمل الحقوق الإنسانيَّة، كالحرية والعدالة..؟
وهل التوحيد جزء من الحقوق البشرية والإنسانية أم لا؟
وهل مبدأ الجهاد يتنافى أساساً مع حقّ الحرية أم لا؟
الإجابةُ عن هذه الأسئلة تتطلَّبُ الخوض في بحوثٍ وتفصيلاتٍ شيِّقَةٍ مفيدةٍ لا مجال لها في حديثنا هذا.. فنكتفي بالقول: إنّ الإسلام ليس بالدين الذي يدعو الفرد إلى إدارة خدّه الأيسر إنْ صُفع على خده الأيمن، وليس بالدين الذي يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. وليس الإسلام بدين يفتقد الهدف ويعدم خط الدفاع والدعوة.
آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر ثلاثة مصطلحات مقرونة مع بعضها بعضاً (الإيمان) و(الهجرة) و(الشهادة).
إنسان القرآن موجود مرتبط بالإيمان ومتحرّر من كلّ شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع، أو بعبارة أخرى، لإنقاذ المجتمع من براثن الكفر والشرك.
يطول بنا الحديث لو استعرضنا الآيات والروايات الواردة في هذه الحقل. لذلك نكتفي بإلقاء الضوء على جمل معدودات من إحدى خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: “أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ[36] بِالصَّغَارِ
وَالْقَمَاءَةِ[37] وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْداد[38] وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ[39] بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ[40] وَمُنِعَ النَّصَفَ[41]“[42].
فالجهاد، باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه. نعم لخاصّة أوليائه، وهي كلمة لها مدلولها العميق.
بابُ الجهاد غير مفتوح بوجه الجميع، لأنّ وسام المجاهد لا يتقلّده إلّا من كان لائقاً لذلك، وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقلّد هذا الوسام، بل خاصّة أولياء الله.”
ورد في القرآن الكريم: إنّ للجنّة ثمانية أبواب.
فلم هذه الأبواب الثمانية؟! أللتخفيف من شدّة الازدحام؟ غير معقول! لأنّ العالم الآخر ليس بعالم تزاحم. والله قادر على أن يدخل جميع عباده الجنة دونما تأخير أو انتظار كقدرته على محاسبتهم السريعة ﴿وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[43].
هل الهدف من تعدّد الأبواب تقسيم الناس إلى طبقات بحسب مكانتهم أو مشاغلهم الدنيوية؟!
كلا.. هذا غير ممكن أيضاً، فليس ثمة معيار سوى التقوى.
تعدّد الأبواب ليس له مفهوم سوى تعدّد الدرجات، لا الطبقات.
للإيمان والعمل والتقوى مراتب ودرجات، ولكلّ درجته ومنزلته في مدارج الإيمان والعمل والتقوى، بمقدار ما طوى من المراحل التكاملية لهذه المدارج في الحياة الدنيا.
ولكلّ فئة طوت مرحلةً معينةً من مراحل تكاملها بابٌ تدخلُ منه الجنَّةُ في الحياة الأخرى حسب درجتها ومنزلتها، أي حسب ما طوته من أشواطٍ على طريق إيمانها وعملها وتقواها في هذه الحياة، فذاك العالم تجسُّدٌ ملكوتيٌّ لهذا العالم.
الباب الذي يدخل منه المجاهدون – إذن – هو الباب المفتوح لخاصّة أولياء الله، يلجون منه لينالوا فوز القرب الإلهي.
والإمام يصفُ الجهادَ بعد ذلك بأنّه لباس التقوى. والتقوى تعني “الطهر الحقيقي”، الطهر الحقيقي من كلّ الآثام.
من المعلوم أنّ جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية. ومن هنا فإنّ المجاهد الواقعي أتقى الأتقياء.
فربّ متّق طهر من الحسد، وآخر من الكبر، وآخر من الحرص، وآخر من البخل..
لكنّ المجاهد أطهر الطاهرين، لأنّه ضحى بكلّ وجوده، ولذلك اختص بباب من أبواب الجنّة لا يناله سائر الطاهرين.
مفهوم التقوى وارتباطه بالجهاد
مفهوم “درجات التقوى” يوضحه القرآن بجلاء في الآية: الكريمة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[44].
هذه الآية: توضح مفهومين رائعين من المفاهيم القرآنية:
الأوّل: فلسفة الحياة وحقوق الإنسان.
فالآية: تقول: النِعَم خلقت للإنسان. والإنسان خُلق للإيمان والعمل والتقوى. والإنسان يستطيع أن يتمتع بالنِعَم الإلهية إذا كان ملتزماً بالحركة على الخط التكاملي، أي على خط الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
الثاني: درجات الإيمان والتقوى، وعلماء الإسلام – انطلاقاً من هذه الآية: وغيرها من النصوص – قسموا مراتب التقوى إلى: العامّة، والخاصّة، وخاصّة الخاصّة.
وتقوى المجاهدين تقوى التضحية والفداء، والشهداء قدموا كلّ ما يملكون مخلصين إلى الله تعالى، واختاروا لأنفسهم هذا (اللباس) من ألبسة التقوى.
ثم يصف الإمام الجهاد أنّه “درع الله الحصينة وجنته الوثيقة”.
لو تربّت أمّة مسلمة على روح الجهاد، وتسلّحت بهذا الدرع الإلهي،
فلن تنثني أمام أعتى الضربات.
والدرع، لباس من حلقات حديدية يرتديه المقاتل كي يبطل مفعول الضربة على الجسم..
والجنّة[45] تحول دون وقوع الضربة على البدن، فالأوّل عمله المناعة والثاني: الدفاع.
وربما كان الإمام يشير في وصفه هذا إلى نوعين من الجهاد، جهاد وقائي يعطي للأمّة مناعة من آثار الضربات المهلكة، وجهاد دفاعي يقف بوجه الضربات.
سابعاً: الآثار السلبية لترك الجهاد
ثمّ يستعرض الإمام الآثار السلبية لترك الجهاد. والآثار السلبية التي تتحدث عنها العبارة جماعية لا فردية، أي ترتبط بالمجتمع لا بالفرد.
هذه الآثار السلبية عبارة عن:
1- الذلة والمسكنة.
2- الشدائد والمصائب: وهما خلاف ما يمكن أن يتصوّر في هذا المجال، فربّ أمّة تترك الجهاد طلباً لرغد العيش، لكنَّ الشدائد والمصائب تتوالى على مثل هذه الأمّة.
3- الإحساس بالحقارة النفسية.
4- فقدان البصيرة والرؤية الصحيحة، وهذه مسألة تلفت النظر كثيراً.
علي عليه السلام يجعل الجهاد طريقاً لتفتح البصيرة وللرؤية الواضحة الصحيحة.
النصوص الإسلامية التي تؤكّد على أنّ البصيرة وليدة العمل صريحة وكثيرة.. لكنّ هذا النّص أكثر صراحة، وذهب إلى أكثر ممّا ذهبت إليه النّصوص الأخرى حيث اعتبر ترك الجهاد يؤدي إلى إسدال الحجب على القلب أو على الفهم الصّحيح والرّؤية الواضحة للأمور.
5- فقدان مراكز القيادة، فالأمة التي تترك الجهاد لن تعود قادرة على حمل راية الإسلام والدعوة إلى الحق.
6- الحرمان من إنصاف الآخرين، فالأمّة ذات اعتبار ومكانة واحترام ما دامت مجاهدة، وإن افتقدت روحها الجهادية فقدت شخصيّتها ومكانتها فلا يراعى لها حقّ، ولا تعامل بإنصاف.
قال الرّسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: “الخير كلّه في السيف وتحت ظلّ السيف”[46].
وقال أيضاً: “إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها”[47].
وهذا يعني أنّ القدرة والقوّة لا تنفصلان عن الأمّة الإسلامية،
والإسلام دين القوّة والقدرة ومدرسة تخريج المجاهدين.
يقول ويل ديورانت في “قصة الحضارة”: ليس كالإسلام دين في حثّ أتباعه على التزود بالقوّة والمقدرة.
وحديث آخر عميق المغزى، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق”[48].
فالإنسان المسلم إمَّا أن يعيش حياة الجهاد عملياً أو على مستوى الأمل على الأقل. وبهذا المعيار يُعرف الإنسان وإخلاصه في إسلامه.
وروي أنّه سُئل النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال الشهيد لا يفتن في قبره؟
أجاب: “كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة”.
فالشهيد قد اجتاز امتحانه تحت السُّيوف التي كانت مشهورةً بوجهه، أي إنَّه أثبت إخلاصه وصدقه وبيّن حقيقته حين اختار الشَّهادة، فليس من اللازم أنْ يؤدِّي امتحاناً آخر في عالم البرزخ.
ثامناً: الاندفاع نحو الشهادة
الاندفاع نحو الشهادة ظاهرة نلمسها بوضوح في جمهرة غفيرة من مسلمي صدر الإسلام. وحين يتطلع الإنسان إلى هذه الظاهرة يحسّ أنّ في أعماق هذه الفئة المؤمنة شوقاً ولهفة إلى الشهادة.
هذا علي عليه السلام يقول: إنّه لما أنزل الله سبحانه، قوله: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[49] علمت أنّ
الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا.
فقلت: يا رسول الله! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟
فقال: يا عليّ، إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي.
فقلت: يا رسول الله! أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك عليّ، فقلت لي “أبشر فإنّ الشهادة من ورائك”؟
فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟
فقلت: يا رسول الله! ليس هذا من مواطن الصَّبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر”[50].
ويقول عليّ عليه السلام أيضاً: “إنّ أكرم الموت القتل! والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله”[51].
هذا الاندفاع لم يكن مقصوراً على عليّ وأمثال عليّ، بل إنّ عامة الناس كانوا يأتون إلى الرسول يطلبون منه أن يدعو الله لهم بالشهادة[52].
نماذج خالدة من الشهداء
1- هذا “خيثمة” واحد من سائر الناس يتنازع مع ابنه ليسبقه في الاستشهاد. الأب يصر على الابن أن يبقى في البيت ليذهب هو إلى الجهاد. والابن يصرّ على الأب كذلك بالبقاء في البيت ليذهب هو. فيقترعان، فتقع القرعة على الابن، فيذهب، ويستشهد. ثم يرى الأب ولده في عالم الرؤيا يقول له: يا أبت، إنّه قد وعدني ربي حقّاً! تصاعد شوق الاستشهاد في نفس الرجل العجوز فهرع إلى النبيّ يقوله له: لقد وهن عظمي وخارت قواي، لكنّي اشتاق إلى الشّهادة، فاسأل الله أن يرزقني إياها.. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يمر عام حتى نال الرجل ما تمناه.. فقد سقط في معركة أحد مضمَّخاً بدم الشهادة!
2- “عمر بن الجموح”.. كان قد أصيب في إحدى رجليه وسقط عنه حكم الجهاد إذ ليس على الأعرج حرج. وحانت معركة أحد فتجهز أولاد هذا الرجل للمعركة، وهمّ هو أيضاً أن يشارك مع أبنائه..
نصحه أولاده فلم يستجب لهم. اجتمع أهله وأقاربه ينصحونه بالبقاء فأبى أن يصغي لهم.. وذهب إلى الرسول شاكياً يقول: أبنائي يمنعونني أن أفوز بالشهادة. فأجازه رسول الله أن يشارك في المعركة، وطلب من أبنائه أن يدعوه يحقّق أمنيته
في الاستشهاد. فخاض المعركة واستشهد.
وعندما بلغ خبر فشل المسلمين في أحد إلى المدينة سارع من كان في المدينة إلى جبل أحد، وبينهم امرأة عمر بن الجموح.
عثرت هذه المرأة على جسد زوجها وابنها وأخيها، فوضعت الأجساد على ظهر بعير، وقفلت راجعة إلى المدينة لتدفن قتلاها في البقيع.. لكنها ألفت البعير يأبى الاتجاه نحو المدينة، ولا يتحرّك إليها إلّا بمشقة. فالتقت بنسوة قادمات من المدينة نحو أحد بينهن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
سألتها عائشة: من أي مكان تأتين؟
أجابت: من أُحد.
قالت عائشة: فما هذا الذي على ظهر البعير؟.
أجابت ببرود تام: أجساد زوجي وابني وأخي، أذهب بهم إلى المدينة لأدفنهم هناك.
ثم سألتها عمّا وراءها.
أجابت المرأة: خيراً.. النبيّ سالم والحمد لله، ورد الله الذين كفروا بغيظهم.
ثم قالت المرأة لعائشة: إنّ هذا البعير يأبى العودة إلى المدينة وكأنّه يروم الذهاب إلى أحد.
قالت عائشة: لننطلق معاً إلى النبيّ في أحد، ثمّ قصت المرأة على النبيّ ما كان من شأن البعير.
فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمّا قاله زوجها حين غادر المنزل، قالت:
رفع يده إلى السماء وسأل الله تعالى أن لا يعيده إلى بيته.
فأخبرها النبيّ باستجابة دعوة زوجها، وأمر بدفنه مع سائر الشهداء في أحد.
3- روح الاندفاع نحو الشّهادة تجسّدت في كلّ أئمّة آل البيت عليهم السلام وأتباعهم، وهذه الرّوح تطفح في أدعيتهم التي خلفوها لنا ومنها: “اللهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا، وفي عليين فارفعنا.. وقتلاً في سبيلك مع وليك فوفق لنا”[53].
وكان الحسين بن علي عليه السلام يردِّدُ وهو يسيرُ نحو كربلاء هذه الأبيات:
فإنّ تكن الدّنيا تعدّ نفيسة فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشِئَت فقتل امرئ بالسيف في الله أجمل
تاسعاً: منطق الشهيد
لكلّ إنسان منطق خاص، وطريقة تفكير خاصّة. وهناك معايير ومقاييس يحدِّد بموجبها موقفه من المسائل والظواهر المختلفة.
وللشهيد منطق خاصّ.. إنّه “منطق الشهيد” الذي لا يمكن قياسه بمنطق الأفراد العاديين. فمنطق الشهيد أسمى.. إنّه مزيج من
منطق المصلح ومنطق العاشق.. منطق المصلح الذي يتضوّر قلبه ألماً لمجتمعه، ومنطق العارف العاشق للقاء ربّه.
بعبارة أخرى: لو امتزجت مشاعر عارف عاشق للذات الإلهية بمنطق إنسان مصلح لنتج من ذلك “منطق الشهيد”.
لا أحسب أني استطعت أن أعطي “منطق الشهيد” حقّه من التصوير والتوضيح فلأضرب لذلك مثلاً: حين توجه الحسين بن عليّ عليه السلام نحو الكوفة، أجمع عقلاء القوم على منعه من السفر قائلين إنَّ عزمه على السفر إلى العراق غير منطقي.
وكانوا صادقين فيما يقولون.. لم يكن عزم الإمام ينسجم مع منطقهم.. مع منطق الإنسان الاعتيادي.. مع منطق الإنسان الذي يدور فكره حول محور مصالحه ومنافعه. لكن الحسين عليه السلام كان له منطق أسمى، كان منطقه منطق الشهيد، ومنطق الشهيد أسمى وأرفع من منطق الأفراد العاديين.
لم يكن “عبد الله بن عباس” و”محمّد ابن الحنفيّة” من عامة الناس، بل كانا سياسيين عالميين، ومنطقهما منطق السياسة، والمصلحة، منطق الحنكة والذكاء الذي يدور حول المصلحة الفردية والانتصار الشخصي على المنافسين.
وذهاب الحسين إلى العراق عملية خاطئة استناداً إلى هذا المنطق.
وهنا تجدر الإشارة إلى اقتراح ذكي قدمه ابن عباس إلى الحسين عليه السلام.
لقد اقترح عليه أن يسلك طريقاً سياسياً من نوع الطرق التي يسلكها “الأذكياء” ممّن يتّخذون النّاس وسيلةً لتحقيق أهدافهم وممن يقفون في المؤخّرة دافعين الجماهير نحو مقدّمة الجبهة، فإنْ أحرزوا النَّصر نالوا ما جنته يدُ الجماهير، وإنْ فشلت الجماهير وقفوا على التَّل سالمين.
قال ابن عباس للحسين عليه السلام: “يا بن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم، أقم في هذا البلد، فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك – كما زعموا – فاكتب إليهم، فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم أقدم عليهم”[54].
فابن عباس يريد أن يضع جماهير العراق في مقدمة الجبهة والحسين عليه السلام في المؤخرة.
يريد أن يقول للحسين عليه السلام: دع أهل العراق يواجهون العدو بأنفسهم فإن انتصروا فقد استتب الأمر لك، وإن لم يفعلوا كنت في حل منهم، ولن يصيبك مكروه.
لم يعر الحسين عليه السلام أي اهتمام لهذا الاقتراح وأعلن عن عزمه على الذهاب.
فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك.
أجابه الحسين عليه السلام: يا بن عم، إنّي لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!
نعم، منطق الشهيد منطق آخر، منطق الشهيد منطق الاشتعال والإضاءة، منطق الانصهار والانحلال في جسم المجتمع من أجل بعث الحياة في هذا الجسم وبعث الروح في القيم الإنسانية الميتة.. منطق تسجيل الملاحم.. منطق النظرة البعيدة.. البعيدة جداً.
ومن هنا كانت كلمة “الشهيد” مقدسة عظيمة. ومن هنا فإنّنا لا نعطي الشهيد حقّه إن وصفناه أنّه “مصلح”، لأنّه فوق المصلحين، أو أنّه “بطل”، لأنّه أعظم من الأبطال.
لا يمكن وصف الشهيد إلّا أنّه “شهيد” وليس بمقدورنا أن نستعمل كلمة أخرى.
دم الشهيد
الشهيد يقف بوجه العدو، فإمّا أن يصرعه وإما أن يُصرع، لكن عمل الشهيد لا ينحصر في هذا الموقف! فلو كان عمله منحصراً بهذا لذهب دمه هدراً حينما يخرّ صريعاً في ساحة المعركة. وهذا ما لا يحدث، فدم الشهيد لا يذهب هدراً.. دم الشهيد لا يراق على الأرض.
كلّ قطرة من دم الشهيد تتحوّل إلى آلاف القطرات.. بل إلى بحر من الدماء يدخل جسد المجتمع. ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “ما من
قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله”[55].
الشهادة تزريق لجسد الأمّة بدم جديد. والشهداء يضخُّون في شرايين المجتمع، والمجتمع الذي يعاني فقر الدم خاصّة، دماً جديداً.
الشهيد يسجّل بدمه ملحمة يحيي بها روح الحماسة في مجتمع ماتت فيه روح الحماسة والحماسة الإلهية خاصّة.
ولهذا فالإسلام بحاجة إلى شهيد.
لأنّه بحاجة مستمرة إلى حماسة متجددة، وإلى ولادة متجددة.
خلود الشهيد
العالم يخدم المجتمع بعلمه، وعن طريق قناة العلم يخرج هذا العالم من فرديته ليرتبط بالمجتمع. أي، عن طريق العلم تتّحد شخصيته الفردية بشخصية المجتمع كما تتَّحد القطرة بالبحر.
بهذا الاتحاد، يخلّد العالم جزءاً من شخصيته، أي يخلّده فكره وعمله.
والمخترع يتّحد بالمجتمع عن طريق اختراعه، ويخلّد وجوده عن طريق ما يقدمه للمجتمع من مخترعات، وهكذا الفنان والشاعر ومعلّم الأخلاق.
والشهيد يخلّد نفسه في المجتمع عن طريق دمه، أي عن طريق الدم الجديد الخالد الذي يهبه شرايين المجتمع، وبعبارة أخرى يكتسب
الشهيد صفة الخلود عن طريق تقديم كلّ وجوده وحياته، لا عن طريق تقديم جزء من وجوده وشخصيته، كما يفعل غيره من الخالدين.
ولهذا فالنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “فوق كلّ ذي برٍّ برّ حتّى يُقتل الرَّجل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ”[56].
شفاعة الشهيد
ورد في الأثر أنّ الله يقبل الشفاعة يوم القيامة من ثلاث طبقات: طبقة الأنبياء وطبقة العلماء ثم الشهداء. وهنا ينبغي أنْ نوضح أنّ الشفاعة هذه هي “شفاعة الهداية”.
إنّها تجسيد لما حدث في الدنيا من حقائق.
فعن طريق الأنبياء اهتدى الناس ونجوا من الظلمات.
والعلماء – في هذا الحديث – هم العلماء الربانيون بما فيهم الأئمّة الأطهار عليهم السلام والرهط الصالح من أتباعهم ومن حذا حذوهم، وهؤلاء أيضاً ساروا على طريق الأنبياء وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
والشهداء ينهضون بالدور نفسه، يضيئون الدرب أمام الناس، فيهتدي من يريد الهداية، وبذلك يكون الشهداء شفعاء لمن اهتدى بهم.
عاشراً: البكاء على الشهيد
“حمزة بن عبد المطلب” عمّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، استشهد في أحد، ولمع اسمه بين شهداء صدر الإسلام، وحاز لقب “سيد الشهداء”، وقبره الآن بين شهداء أُحُد مزار لكلّ الذين يقصدون زيارة المدينة المنورة.
كان حمزة قد هاجر من مكّة إلى المدينة حيث مكث وحيداً ليس معه فيها من ذويه أحد، حتّى استشهد.
حين رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة أحد إلى المدينة، وجد أصوات البكاء تتصاعد من بيوت الشهداء إلّا بيت حمزة.. فقال عبارته المعروفة: “أما حمزة فلا بواكي له”[57].
سرعان ما انتشرت هذه الكلمة في أرجاء المدينة، فأسرعت النساء الثكلى والأيامى إلى بيت حمزة ليبكينه احتراماً لمقولة النبيّ ولحمزة عمه.
فأصبحت العادة منذ ذلك الوقت أن يذهب كلّ من يريد أن يبكي على شهيد، إلى بيت حمزة ليبكيه أوّلاً.
وهذه الحادثة دلّت على أن الإسلام – وإن لم يشجّع البكاء على الموتى – يميل إلى أن يبكي النّاس على الشهيد، لأنّ البكاء على الشهيد اشتراك معه فيما سجله من ملاحم، وتعاطف مع روحه، واتساق مع نشاطه وتحركه وتياره.
بعد حادثة عاشوراء، احتلت شهادة الحسين عليه السلام مركز الذروة على مسرح الشهادة، وانتقل لقب “سيد الشهداء” إلى الحسين عليه السلام، وبقي حمزة سيّداً للشهداء، لكن عبارة “سيد الشهداء” إن أطلقت دون ذكر اسم فلا تنصرف إلّا إلى الحسين عليه السلام.
كان حمزة سيد شهداء زمانه، وحاز الحسين عليه السلام على لقب سيد شهداء جميع العصور والدهور، كمريم العذراء التي كانت سيدة نساء زمانها، ثم أضحت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.
كان حمزة – قبل استشهاد الحسين عليه السلام – رمزاً للبكاء على الشهيد، وكان البكاء عليه مظهراً من مظاهر الانشداد بطريق الشهادة، ثم انتقلت هذه المكانة إلى الحسين عليه السلام بعد واقعة كربلاء.
فلسفة البكاء على الشهيد
من الضروري أن نقف – ولو قليلاً – عند مسألة “البكاء على الشهيد”، وهي مسألة لاكتها الألسن بكثير من عدم الفهم، وواجهت كثيراً من الاعتراضات.
تهجم بعضهم بصراحة على هذه الظاهرة مدّعياً أنّها وليدة نظرة خاطئة إلى مسألة الشهادة وأنّها ذات آثار اجتماعية سلبيّة.
أتذكر أنّي قرأت أيّام التلمذة كتاباً للكاتب المعروف آنذاك “محمّد مسعود” طرح فيه مسألة البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام وقارن ذلك بما دأب عليه المسيحيون بالاحتفال، بل بالابتهاج في ذكرى
استشهاد المسيح!
قال: انظروا إلى أمّة تبكي على شهيدها لأنّها تحسب الشهادة فشلاً وخسراناً وأمراً يبعث على الحزن والأسف، وأمّة أخرى تبتهج بذكرى شهادة شهيدها لأنّها تنظر إليها نظرة اعتزاز وافتخار.
وأمّة تبكي ألف عام على استشهاد شهيدها وتحترق ألماً وأسفاً عليه لا بدّ أن تكون ضعيفة مهزوزة مهزومة. لكن أمّة تبتهج حين تحيي ذكرى شهادة شهيدها خلال القرون المتمادية لهي أمّة قويّة مقتدرة مضحية حتماً.
هذا الكاتب يريد أن يقول إنّ البكاء على الشهيد مظهر ضعف الأمّة وانحطاطها، والابتهاج بذكرى الاستشهاد ينمّ عن روح قويّة مقتدرة. لكن المسألة في رأيي هي عكس ما ذهب إليه الكاتب، فالابتهاج في ذكرى الاستشهاد يعبر عن “الروح الفردية” في المسيحية، والبكاء على الشهيد يعبر عن “الروح الاجتماعية” في الإسلام.
لا أريد هاهنا طبعاً أن أبرّر أعمال كثير من الناس ممن ينظرون إلى الحسين عليه السلام على أنّه مجرد شخصية تثير الحزن والأسف والأسى، لأنّه قتل مظلوماً، ولأنّه ذهب ضحية أهواء الطاغوت.
لا أريد أن أبرّر أعمال أولئك الذين لا يضعون نصب أعينهم مواقف الحسين عليه السلام البطولية في إحيائهم لذكرى سيد الشهداء، فقد سبق أن انتقدنا هؤلاء حين تحدثنا عن (منشأ القدسية) في الشهيد.
بل أريد أن أوضح فلسفة تعليمات قادتنا الميامين في حقل البكاء على الشهيد.
هذه الفلسفة التي يتفهمها جيداً كلّ الواعين ممّن يشاركون في مجالس عزاء الحسين عليه السلام.
الفصل الرابع: من صور الجهاد عند الإمام علي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام
أولاً: الجهاد والصراع مع النفس
ثانياً: أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام في الجهاد
ثالثاً: يوم كربلاء مثال المجاهدين
أولاً: الجهاد والصراع مع النفس
ومعناه هو الصراع. وإذا أخذنا بالتفسير المعنوي له – أي الجهاد مع النفس – فإنّه يعني الصراع معها. وكما لا ينبغي للإنسان أن يكون أسير البيئة التي يعيش فيها، كذلك لا ينبغي له أن يكون خاضعاً للعوائق والمصاعب الموجودة في البيئة. فقد خلق الإنسان كي يزيل بنفسه تلك العوائق من طريقه ليصل إلى مرتبة التكامل، والرشد المعنوي.
القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾[58]،[59]. وهذه الآية: تسبق قوله تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾[60].
وللقرآن الكريم هنا بيان لطيف وعجيب، إذ إنّه يورد قبل آيتي الهجرة آية المستضعفين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾[61].
فهذه الآية: تناقش وبصيغة الحوار أعذار أولئك الذين ينحرفون عن جادة الرشد والصواب بسبب بقائهم في ظل الظلم وأجواء
الفساد، فعندما تقبض الملائكة أرواح هؤلاء, تجد صحائفهم سوداً مملوءة بالقبائح، فتسائلهم عن ذلك، فيكون عذرهم، ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ كنّا نعيش في بيئة فاسدة ونحن ضعاف لا نستطيع دفعاً وما شابه ذلك من الأعذار، فتردّ الملائكة عليهم رافضة أعذارهم وتقول لهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾؟ هذا العذر يمكن أن يقبل من الأشجار التي تعيش في بيئة ملوثة بالدخان مثلاً فتذبل أوراقها وتسودّ أعضاؤها، والعذر بذلك يقبل منها، لأنّها لا تستطيع حراكاً، فجذورها ثابتة في الأرض ولا تستطيع الانفصال عنها، أما من الإنسان فلا، بل وحتى الحيوانات لا تعتذر بمثل هذا العذر، فهناك عدد كبير من الحيوانات المهاجرة كالطيور وغيرها فبعضها يهاجر إذا برد الجو إلى المناطق الحارة وهناك الأسماك البحرية التي تهاجر مرتين في العام، هجرة الشتاء وهجرة الصيف فتنتقل في المحيطات من منطقة إلى أخرى قاطعة مئات بل ألوف الكيلومترات، وكذلك الحشرات والجراد التي تهاجر على شكل أسراب كبيرة.
إذن فالحيوان يرفض أن يسجن نفسه في بيئة ويقيدها بترابها وصخرها وطينها، بل يهاجر ويهاجر، فما أقبح أن يعتذر الإنسان بفساد البيئة تبريراً لظلمه نفسه، وعندما تسألهم الملائكة فيم كنتم ولماذا ارتكبتم كل هذه الذنوب فما أقبح أن يكون الجواب: إنّا كنّا نعيش في بيئة فاسدة تنتشر فيها دور السينما، والنساء المتبرجات ومحلات بيع الخمور وأمثال ذلك، كل هذه حجج يدحضها المنطق
الملائكي الذي يردّ عليهم بـ: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾[62]، أي إنّه يصل إلى الأرض التي يستطيع منها أن يجاهد أعداء الله. إذا رأيت العدو يحارب عقائدك ومبادئك فحارب أنت أيضاً عقائده ومبادئه، أي أن تخوض صراعاً مع أعدائك، وهذا هو الجهاد ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾[63].
والتفسير المعنوي لمفهوم الجهاد لا يخرج عن قاعدة الصراع آنفة الذكر. إلّا أنّ العدو الذي يُجاهدُ في هذه الحالة هو عدو داخلي وهو النفس الأمّارة بالسوء. هناك البعض ممّن اعتاد الكذب وإذا قيل له لا تكذب، يتعجب ويقول: هل هناك من لا يكذب؟ فمن المؤكّد أنّ الإنسان يضطر أحياناً إلى الكذب، ويقال للآخر: لا تنظر يا أخي إلى المرأة الأجنبية! فيستغرب ويقول: وهل يمكن للإنسان أن لا ينظر؟!، ويقال الثالث.. أخي توجه بقلبك إلى الله في الصلاة، ولا تدع ذهنك ينشغل بأمور أخرى، فيقول: ذلك أمر مستحيل، لو كان هذا مستحيلاً لما أمر الله تعالى به، بل أنت لا تراقب ولا تنتبه لنفسك ولا تجاهدها، ولو فعلت لاستطعت أن تؤدّي صلاتك بخشوع وبحضور قلب وروح.
راقب نفسك وجاهدها وستتمكن من السيطرة على ذهنك وخيالك، فالخيال هو خواطر ذهنية عاجزة على كلّ حال، ولا يمكن
لها اقتحام ذهنك لو لم ترد أنت ذلك ولو لم تسمح به، ولو راقبت نفسك لتمكنت من السيطرة على أفكارك والحيلولة دون تشتّتها ودون شرود الذهن. لماذا يصير الإنسان عبداً مسخراً وقد خلقه الله حراً ولم يجعله عبداً لأي مخلوق؟ فالله عزّ وجلّ وهب الإنسان من الحرية والاستقلال والقدرة، ما يستطيع به – لو أراد – أن يتحرر من كل شيء بل ويسيطر على كل شيء، لكن ذلك يستلزم إرادة حقيقية وجهاداً وصراعاً حتى مع النفس الأمّارة بالسوء وأهوائها وشهواتها وهي عدوه الداخلي، يستلزم ذلك جهاداً مع حب الراحة والدعة وعبودية اللذة، ولا شك بأنّ من لا يخوض هذا الصراع لن يحظى بالقبول والاحترام. لقد وهب الله تبارك وتعالى الإنسان نعمة العقل وعليه أن يختار بها أحد طريقين: إمّا مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء وإخضاعها لحكم العقل السليم – وهذا هو طريق التكامل والرقي في درجات الرفعة – وإمّا ترك تلك المجاهدة والانقياد للنفس وأهوائها وبذلك يصبح عبداً لها، أسيراً، ذليلاً تجاه شهواتها وهذا هو طريق الانحدار إلى أسفل سافلين، فـ “النفس إن لم تشغلها شغلتك”، هذه هي صفة النفس الأمّارة بالسوء، فما لم تسيطر عليها وتخضعها لإرادتك ولعقلك، شغلتك وجعلتك عبداً لأهوائها وشهواتها.
ثانياً: أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام في الجهاد
ماذا كانت فلسفة زهد الإمام علي عليه السلام وهجرانه الدّنيا والإعراض عنها؟! إنّ فلسفته كانت إطلاق حرية الإنسان وإخضاع
الأنا فيه، علي عليه السلام مثلما كان يأنف من الهزيمة أمام عمرو بن عبد ود ومرحب وأمثالهما من رغباتها. يُروى أنّه عليه السلام كان ماراً يوماً في السوق من أمام دكان قصاب فأخبره القصاب أنّه جلب اليوم لحماً طازجاً جيداً وعرض عليه أن يشتري منه شيئاً، فأجابه الإمام علي عليه السلام بأنّه ليس لديه الآن مال، فقال القصاب: أصبر حتى يأتيك المال، فماذا كان جواب الإمام عليه السلام ؟! لقد أجاب: “بل أقول لبطني أنا أن تصبر، إن لم أستطع أن أقول لبطني أن تصبر، فلن أقول لك أنت أن تصبر حتى يأتيني المال، ولكنّي سأقول لبطني أن تصبر”.
أمير المؤمنين عليه السلام يقول متحدثاً عن فلسفة زهده: “ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز”.
فعليّ عليه السلام قادر – لو شاء – على الحصول على أفضل متع الدّنيا وأرفه الماديات فهو أعرف بطريق الوصول إليها ولكنّه لا يفعل، فلماذا؟! يجيب عليه السلام بنفسه عن ذلك فيقول: “لا ولكن هيهات أن يغلبني هواي…” ثم يخاطب الدّنيا بأبلغ الخطاب فيقول: “إليك عنِّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك”[64].
هذا هو الجهاد الحقيقي مع النفس.
ثالثاً: يوم كربلاء مثال المجاهدين
إنّ يوم الحادي عشر من محرم عام واحد وستين للهجرة، كان من أصعب وأقسى الأيام التي مرّت بأهل البيت عليهم السلام. ولو نظرنا إلى واقعة الطف بكلا جانبيها، الجانب المشرق المملوء بأروع صور الفداء والإباء والصبر في سبيل الله، والجانب المظلم الملطخ بأبشع صور الغدر والخسّة والجريمة، لو نظرنا إلى هذين الجانبين لتجلّت لنا بوضوح حقيقة الحوار الذي يحكيه القرآن يوم أخبر الله عزّ وجلّ عن خلقه الإنسان وجعله خليفة له في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[65].
فجميع ما رأته الملائكة في طبيعة الإنسان من القدرة على الفساد والانحراف والطغيان ظهرت وصارت واقعاً حياً في يوم كربلاء، ولكن وفي هذا اليوم نفسه ظهرت الصفحات المشرقة التي تحمل أسمى صور الفضيلة والرفعة التي لم ترها الملائكة في البشر والذين خاطبهم الحقّ عزّ وجلّ بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. نعم لقد كانت واقعة الطف ساحة عجيبة حقاً للاختبار، فالمجرمون قد ارتكبوا فيها من الجرائم ما يندر وجود مثيل له في التاريخ أو ينتفي وجوده أصلاً، من تلك الجرائم مثلاً, كانت جريمة ذبح الأطفال والفتيان وتقطيع أوصالهم على مرأى من أُمّهاتهم.
وقد عدَّ الذين استشهدوا بهذه الصورة في واقعة الطف فكانوا ثمانية (ثلاثة فتيان وخمسة أطفال) ذبحوا جميعاً أمام أعين أُمّهاتهم وقُطعوا أوصالاً وفُصلت رؤوسهم عن أجسادهم. وكان أحد هؤلاء الثمانية هو عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، هذا الطفل الرضيع استشهد أمام خيمة عيال الحسين كما ينص على ذلك أرباب المقاتل ويقولون: إنّ الإمام الحسين نادى أخته زينب وقال لها: “يا أختاه ايتيني بولدي الرضيع حتى أودّعه” وعندما كان الإمام عليه السلام يحتضن طفله الرضيع ويقبِّله رماه ابن سعد بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد.
والقاسم ابن الإمام الحسن شهيد آخر من شهداء كربلاء الذين شهدت أُمّهاتهم استشهادهم بتلك الصورة المفجعة، أمّا أُمّ علي الأكبر “ليلى” فلم تكن في كربلاء أثناء الواقعة رغم شيوع خبر حضورها الواقعة.
وعون بن عبد الله بن جعفر، هو شهيد آخر من شهداء الطّف الذين شهدت أُمّهاتهم مصرعهم بتلك الصورة الفجيعة، فأُمّه زينب شهدت بعينها مصرع ولدها[66]. وهنا نشهد صورة رائعة توضح سمو التربية التي ربيت عليها الحوراء الجليلة زينب عليها السلام فنحن لا نجد في أي من كتب المقاتل المفصلة، أنَّ العقيلة زينب
قد ذكرت ولدها بشيء سواء قبل استشهاده أو بعده وكأنّها كانت ترى أنَّ ذكرها ولدها بشيء يتنافى مع الأدب الرفيع، أي إنّها كانت ترى هذه التضحية أقل من أن تذكر كفداء للإمام الحسين، في حين أنّ العقيلة زينب نفسها خرجت من الخيمة إثر مصرع علي الأكبر وهي تصرخ واأخيَّاه وابن أخياه وهذا ما لم تفعله عند مصرع ولدها عون.
وشهيد آخر من أهل البيت عليهم السلام لا أتذكر اسمه الآن، كان في العاشرة من عمره قد قتل أيضاً بتلك الصورة المؤلمة. يذكر أرباب المقاتل أنّ هذا الصبي، خرج من الخيمة بعد مصرع الإمام الحسين مبهوتاً مدهوشاً من تغير الأوضاع، وحينما كان يجيل النظر هنا وهناك في حيرة ودهشة جاءه رجل من معسكر الأعداء وذبحه وقطع رأسه وانتزع قرطين كانا في أذنيه وحدث ذلك على مرأى من والدته التي خرجت تبحث عنه.
وصبي آخر استشهد أيضاً يوم الطف بالصورة نفسها وما أفجعها من شهادة، شهادة عبد الله ابن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وهو صبي لم يتجاوز العاشرة وعندما توفي والده الإمام الحسن عليه السلام كان في رحم أُمّه أو طفلاً رضيعاً على أكثر تقدير، وهو لم ير والده على أيِّ حال. لذلك فقد تربى وترعرع في رعاية عمه الحسين عليه السلام والذي أصبح بالنسبة إليه عماً وأباً في آن واحد، ولذلك كان يحبه كثيراً. في يوم عاشوراء خرج عبد الله من الخيمة رغم أنّ الإمام
الحسين كان قد أمر عياله أن لا يخرج أيُّ منهم من الخيام، وكان أمره عليه السلام مطاعاً، إلّا أنَّ هذا الصبي لم يطق الصبر على البقاء في الخيمة بعد أن سقط أبو عبد الله على الأرض وفقد القدرة على الحركة، لذلك خرج من الخيمة متوجهاً نحو عمه بعد أن أفلت من يد عمته زينب التي أسرعت إلى منعه من الخروج، وصرخ “والله لا أفارق عمي”، ووصل إلى عمه وألقى بنفسه على صدره – وسبحان الله ما أعظم صبر الحسين الذي ضم هذا الطفل إلى صدره – وفي غضون ذلك أغار أحد الأعداء على الحسين عليه السلام قاصداً طعنه بسيفه فصرخ به الطفل “يا ابن الخبيثة، أتقتل عمي” ورفع الصبي يده ليمنع بها سيف هذا الوغد من أن يصيب الإمام، فأصاب السيف يده فقطعها فصرخ الطفل “يا عماه أدركني”. ضم الإمام ابن أخيه إلى صدره وقال له: “يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإنّ الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله وعلي وحمزة وجعفر والحسن”.
[1] سورة النساء، الآية: 100.
[2] سورة الأنفال، الآية: 74.
[3] سورة الحديد، الآية: 16.
[4] عندما فتحت الجارية الباب كانت أصوات الغناء والعيدان تصل إلى الشارع من داخل دار بشر وسمعها الإمام عليه السلام.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص 124.
[6] نهج البلاغة، وللإمام عليّ عليه السلام حكمة بالغة توضح هذا المعنى إذ يقول عليه السلام: “ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشرّ مغلوب”. نهج البلاغة، ص 533 (تحقيق صبحي الصالح).
[7] وممّا يؤسف له أنّ هذه المعنويات فقدت بين رياضيي هذا العصر، ففي السابق كان الرياضيون يرون في الإمام علي عليه السلام النموذج الأكمل للبطل، لأنّه عليه السلام كان بطلاً على كلا الجبهتين، جبهة الصراع مع أعداء الله في ميادين الحرب، وجبهة الصراع مع النفس الأمّارة بالسوء وأهوائها.
القوّة الحقيقية والبطولة المثلى لا يمكن أن تحقّق إلّا إذا تحرر الإنسان من عبودية الهوى والشهوة، أي إنّ البطل والشجاع حقّاً من لا يتصدى لأعراض الناس، لأنّ روح الشجاعة الحقّة تمنعه من ذلك، وهو لا يزني لأنّ روح الشجاعة والبطولة لا تسمح له بذلك، وهو لا يشرب الخمر لأنّ روح الشجاعة ترفض ذلك.
والبطل القوي والشجاع، لا يكذب، فالشجاعة تأبى أن تكون حليف الكاذب، والشجاع لا يتملق فالملق ضدّ الشجاعة والقوّة.
فالبطل الحقيقي، ليس ذلك الذي يقدر على رفع ثقل كبير أو صخرة ضخمة بل الأهم هو أن يقدر على هوى نفسه وينتصر عليها.
[8] وسبب تسميته بهذا الاسم هو أنّه كان مقبلاً في ركب من قريش حتى إذا وصلوا إلى وادي يليل – وهو واد قريب من بدر – تعرضت لهم بنو بكر في عدد من الفرسان. فقال عمرو بن عبد ود لأصحابه: أمضوا، فمضوا، وتصدى وحده لبني بكر ومنعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك”.
تفسير الميزان: ج 16، ص 197 في تفسير سورة الأحزاب”.
[9] الرواية التي وجدناها ينقلها المجلسي في البحار: ج 41، ص 51.
وفيها: “إنّه لما أدرك عمرو بن عبد ود، لم يضربه. فوقعوا في عليّ عليه السلام – ويقصد أنّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انتقدوا علياً بسبب تركه الإجهاز على عمرو – فردّ عنه حذيفة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مه يا حذيفة فإنّ علياً سيذكر سبب وقفته. ثمّ إنّه ضربه – أي إنّ الإمام قتل عمراً – فلما عاد عليه السلام، سأله النبي عن ذلك – التأخير في قتل عمرو – فقال عليه السلام: “لقد كان – عمرو – شتم أمّي وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي – غضباً لها – فتركته حتى سكن ما بي ثمّ قتلته في الله”.
– ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص381.
[10] صحيح مسلم: ج3، ص1517، وص1910.
[11] سورة النساء، الآية: 95.
[12] الرواية التي وجدنا في نهج البلاغة تذكر أنّ هذا الحوار حدث أثناء عودة الإمام من البصرة بعد أن نصره الله على أصحاب الجمل لا بعد عودته من صفين كما ذكر الأستاذ الشهيد ونحن إذ ذكرنا الترجمة التوضيحية للنص كما ذكرها الشيخ الشهيد، نثبت هذا الذي وجدناه في النهج: ومن كلام له عليه السلام: “لما أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك” فقال له عليه السلام: “أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال عليه السلام: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف – يجود بهم عن غير انتظار – بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان”. – نهج البلاغة، ج1، ص55.
[13] ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾. سورة التوبة، الآيتان: 46 و47.
هذا بالنسبة للطائفة الأولى. أما بالنسبة للطائفة الثانية التي يذكرها الإمام عليه السلام فيتلطف القرآن الكريم في وصفهم فيقول في سياق الآيات السابقة.
﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾. سورة التوبة، الآيتان: 91 و 92.
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لما رجع من غزوة تبوك وعند اقترابه من المدينة: “إنّ بالمدينة لقوماً، ما سرتم من مسير ولا قطعتم وادياً إلّا كانوا معكم فيه” قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال عليه السلام: “وهم بالمدينة، حبسهم العذر”. – سُنن ابن ماجة، ج 2، ص923.
[14] سورة المائدة، الآية: 24.
[15] القول لسعد بن معاذ وقد قاله جواباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي استشار الأنصار في الخروج إلى المشركين في معركة بدر، تجده في السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص448.
[16] جدير بالذكر أنّ أباه سعد بن أبي وقاص كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الرماة المشهورين بين العرب بالمهارة وقد أبلى في الحروب الإسلامية بلاءً حسناً وقدّم خدمات جليلة للإسلام في هذا المضمار.
[17] جلاء العيون للسيّد عبد الله شبر، وقد اعتمدنا عليه في ضبط النصوص المتعلقة بواقعة الطف في المحاضرات الثلاث.
[18] نهج البلاغة: الخطبة 193.
[19] سورة الجمعة، الآية: 6.
[20] سورة الجمعة، الآية: 7.
[21] في الأصل: بتناقص.
[22] الصحيفة السجادية، ص92. (مِنْ دُعَائِه عَلَيْه السَّلَامُ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ ومَرْضِيِّ الأَفْعَالِ).
[23] تقدم تخريجه سابقاً.
[24] نهج البلاغة، ص378.
[25] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص385.
[26] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص217.
[27] حبذا لو اتّخذت الشعوب الإسلامية بأجمعها هذا اليوم يوماً للشهيد، لتستلهم جميعها من هذه الذكرى ما يعينها على الوقوف بوجه أنواع التحديات التي تواجهها (المعرِّب).
[28] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص248.
[29] الكامل، ج3، ص276. الطبري، ج4، ص290.
[30] الطبري، ج4، ص318.
[31] سورة آل عمران، الآية: 169.
[32] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص88.
[33] سورة الأحزاب، الآيتان: 45 و 46.
[34] اخترمه: أهلكه واستأصله.
[35] هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف الشهيد، هي انعكاس طبيعي لما كان يسود المجتمع الإيراني من روح هابطة. أما حين سمت هذه الروح وتكاملت أبان أحداث الثورة الإسلامية، وبلغت مستوى فهم الشهادة والشهيد فقد تغير وجه أكثر المجالس الحسينية بشكل واضح، وزالت منها تقريباً هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف. (م).
[36] دُيّت: مبني للمجهول من ديثه، أي: ذلله.
[37] القماءة: الصغارة والذل.
[38] الأسداد: جمع سد، أي الحجب.
[39] أديل الحقّ منه: أي صارت الدولة للحقّ بدله.
[40] الخسف، الذلّ والمشقّة.
[41] النصف: العدل.
[42] نهج البلاغة: الخطبة 37.
[43] سورة البقرة، الآية: 202.
[44] سورة المائدة، الآية: 93.
[45] الجنّة والمجن والمجنة, كلّ ما وقى من السلاح.
[46] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص2.
[47] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص123.
[48] مروي في صحيح مسلم، ج6، ص49.
[49] سورة العنكبوت، الآية: 2.
[50] نهج البلاغة، الخطبة156. (تحقيق صالح).
[51] نهج البلاغة، ص180. (تحقيق صالح).
[52] تكررت هذه الظاهرة في إيران أبان الثورة الإسلامية، فاندفعت الملايين تطلب الموت، فوهب الله لها الحياة. والإمام القائد ذكر مراراً أنّ الأفراد يأتون إليه باستمرار يطلبون منه أن يدعو الله لهم أن يرزقهم الشهادة!!. (المعرب).
[53] السيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص224.
[54] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص16.
[55] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص53.
[56] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص348.
[57] ابن عبد البر، الاستيعاب بهامش الإصابة، ج1، ص275.
[58] سورة النساء، الآية: 100.
[59] يجد في الأرض سعة: أي إنّ الأرض واسعة غير محدودة بالمنطقة التي يعيش فيها ومراغم من الرغام وهو التراب اللين الناعم، وإرغام الأنف يعني: تعفيره بالتراب، وإرغام الأنف المستحب في الصلاة معناه أن يضع المصلي أنفه ويعفره بالتراب أو بما هو من التراب.
[60] سورة النساء، الآية: 100.
[61] سورة النساء، الآية: 97.
[62] سورة النساء، الآية: 100.
[64] النص ضمن رسالة أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، ح 4، ص 590، ط بيروت دار الأندلس بشرح محمد عبده و (الرسالة: 45 صبحي الصالح).
[65] سورة البقرة، الآية: 30.
[66] لعبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب ولدان استشهدا كلاهما في واقعة الطف أحدهما عون وهو من زوجته زينب عليها السلام والآخر من زوجة أخرى.
2021-05-07