يجب فهم المشروع الصهيوني، كمشروع إبادة، فالاحتدام والصراع في المشرق، خلقَ نوعاً من الابتذال غير البريء في استخدام لفظ الإبادة.
“يبدو أنكم نسيتم ما حدث لكم قبل 73 عاماً!”.. أحد الصهاينة مخاطباً إمام أحد مساجد اللدّ المحتلة، منذ يومين
يبيّن الباحث المقدسي خالد عودة الله أن التصوّر في أذهاننا بشأن المجازر، كفعل فوضويّ غير عقلانيّ، وكمجرد تنفيس منطلق من عنصرية العدو وأحقاده، وبما يمثّله في حالتنا العدو الصهيوني كاستعمار استيطاني.. إن هذا التصوّر أمر مجانب للصواب، بحيث إن المجازر الصهيونية كانت منطلقة، على الدوام، من حسابات عقلانية في خدمة المشروع الصهيوني، من دير ياسين وسياسة الرعب وبث الخوف، الى مجازر غزة اليوم، وأُوْلاها مجزرة قتل أطفال عائلة المصري، رحمهم الله.
كان الأَخَوان مروان وإبراهيم المصري يلعبان في الشارع مع أبناء عمّهما قبل لحظات من استهدافهم بقذيفة صهيونية. لم يكن القصف هنا عشوائياً، بمعنى أنه لم يكن خطأً في التقدير العسكري، بل كان قصفاً هدفه الأساس قتل جَمع من السكان الغزاويين، والحرص على أن يشمل ذلك أطفالاً، وإيقاع مجزرة بهم: أي، في السياق التاريخي، إبادتهم ضمن مشروع الإبادة الصهيوني.
للأمر عدة أبعاد، أَوَّلها “عقلاني،” في رسالة إلى مجتمع المستوطنين وتهدئتهم، فحواها أن انظروا بعد قصفهم الصاروخي، فلقد قتلنا أطفالهم! فدم العرب هو ما يَعتاش عليه هذا المجتمع، ولهذا الدم دور في تجاذباته، وبقائه، وتنافس الشرعيات الداخلية بين تبايناته. أمّا الهدف الثاني، فيعيدنا الى الاقتباس أعلاه من اللد، ومفاده أن تُرفَد الذاكرة الصهيونية بمزيد من أحداث العمل “الطهوري” للأرض الموعودة. بكلام آخر، إن السردية التاريخية ووقود استمرارية الأيديولوجيا الصهيونية، هما أن عملية التطهير والقتل هذه مستمرة.
لنفهمَ هذا البعد، علينا أن نستذكر مشروع تهجير عوائل حيّ الشيخ جراح، فتاريخ موعد الإخلاء ليس صدفة أن يتزامن مع ذكرى النكبة. وليس مجرد تذكير من المستعمِرين للمستعمَرين بأننا سنستمرّ في طردكم حتى نبيدكم. بل الأهم هو الرسالة الداخلية من صانع القرار الصهيوني إلى أبناء مجتمعه، وفحواه: انظروا، ها نحن بعد 73 عاماً نكمل ما بدأنا فيه، وهو طرد العرب، والفتك بهم!
يجب فهم المشروع الصهيوني، كمشروع إبادة، فالاحتدام والصراع في المشرق، خلقَ نوعاً من الابتذال غير البريء في استخدام لفظ الإبادة. لياسين الحاج صالح، المعارض السوري، مصطلح جديد ونظرية عنوانهما “الأنظمة الإبادية”، وضمنها في نظره النظام في سوريا. ولينظّر بأن هذه الأنظمة لا تسقط سوى بالتدخل الخارجي. لذا، علينا أن نستجلب التدخل الغربي.
هنالك إشارة أخرى متكررة أيضاً إلى تنظيم داعش كتنظيم إبادي. نعم، استهدف التنظيم مجتمعات بغرض إبادتها وتهجيرها ومحوها. لكن النقطة هنا، أنه، حتى في أدبيات هذا التنظيم، هنالك تصور للتعامل مع المجتمعات المتعددة، من خلال دفع الجزية وغيره، ولو في الحالة النظرية.
نرجع هنا إلى المشروع الصهيوني. فحتى في مخياله وفي الحالة النظرية، لا وجود لتصور لوجود للعرب، فحتى الحالة “القانونية” الحالية ما هي سوى عبارة عن معالجة موقتة للوجود العربي، حتى نجد طريقة لإبادته. من هنا، بعد حرب عام 1967، وعلى الرَّغم من التقدم العسكري لجيش العدو، فإنه واجه مشكلة لا يزال يعانيها حتى اللحظة، وهي أنه، في غضون أقل من أسبوع، كان قد ضمّ ليس فقط بقعاً جغرافية، بل قاطنيها العرب أيضاً. وعليه، ينظر كثير من الصهاينة إلى هذا البعد كخسارة. ومنذ ذلك الحين، بدأت عملية مأسسة لسياسة ممنهجة من الإبادة وطرد هؤلاء السكان، وآخرهم أهالينا في حي الشيخ جراح.
جريمة خطاب “الأبرتايد”
يحيلنا هذا الواقع – بل هذه البديهية من بعد سبعة عقود من الصراع – على نقض منظور الفصل العنصري و”الأبرتايد”، بحيث تزداد أهمية هذا النقض في لحظتنا التاريخية هذه.
لا يتَّسع المجال هنا لتبيان أصل هذا الطرح وبُعده ومصدره المتعلق بالمكانة الطبقية لمُريديه، بيد أن المسألة المهمة هنا تكمن في فهم أن المجزرة والإبادة الصهيونية هما عقيدة وأيديولوجيا. والمشروع الصهيوني ليس مجرد بنية استعمارية تمارس العنصرية والتنكيل بالسكان الأصليين. هذا الأمر ليس سوى معالجة مرحلية، فالهدف الصهيوني هو إبادتك كعربي، فلا وجود لك في مخيال العدو ولدى مجتمعه ومنظّريه سوى كجثة في التراب، أو مشرد في الخارج، أو كما يقال صهيونياً: “العربي الجيد هو العربي الميت”.
يجب علينا الفهم هذه المستعمرة كقاعدة عسكرية هائلة، بمعنى أنها جيش وبنية عسكرية، وهنالك أحياء سكنية ومَرافق تعليمية وترفيهية وغيرها متمحورة حول هذا الجيش. وهذا الجيش، وفقاً لمؤسس الكيان بن غوريون، هو المركز الذي تعتاش عليه الأيديولوجيا الصهيونية.
انطلاقاً من ذلك، وعلى الرغم من الفصل الظاهري بين ما هو “مدني” وما هو عسكري في الكيان، في تقسيم مؤسسات “دولة” العدو، فإن كل هذه التقسيمات تقع تحت مظلة بنية عسكراتية سياسية وثقافية واجتماعية.
خطاب “الأبرتايد” اليوم، على الرغم من رواجه بين كثيرين ببراءة، فإنه ليس مجرد خطأ في التشخيص لماهية الكيان، بل هو خطيئة إستراتيجية، وفي بعض الحالات هو خيانة وعمالة. تحوّل النضال العربي الفلسطيني الى نضال ضد رجل قشّ غير موجود، بمعنى البحث عن حل لعرض من أعراض المشكلة لا جوهرها. وفي ظل هذا الانشغال، تُرسَم المراحل الأخيرة صهيونياً لإبادة الشعب الفلسطيني.
أن تفهم المجزرة هو أن تفهم العدو
باختصار، إن كل حالة قتل تحدث في أراضينا العربية في فلسطين، من افتقار المؤسسات الصحية في أثناء كورونا، إلى تعطيل وصول اللقاحات، إلى حوادث القتل الصهيونية عند الحواجز وفي الشوارع، والتي نسمعها، وللأسف تعوّد كثير منا على سماعها كما لو أنه أخبار الأحوال الجوية أو المباريات الرياضية، وصولاً إلى سياسة “الإبادية الذاتية” التي تدعمها المؤسسات الصهيونية، عبر تمرير السلاح إلى سكان الـ48.. إن كل ذلك لا يندرج تحت مسميات القمع أو التنكيل أو العنصرية، بل يندرج ضمن مشروع إبادة ومن أجل إنهاء الوجود المادي للعربي في هذه الأرض. فالمشروع الصهيوني، بالنسبة إليك كعربي، هو مجزرة مستمرة، تعددت أشكالها أو اختلفت.
وعليه، كيف عليك، كفلسطيني في الأرض المحتلة، وكعربي على طول خريطة الوطن العربي وجزء من هذه الأمة، أن تواجه ذلك كله؟ كيف لك أن تواجه هذه المجزرة، سوى بالمقاومة، سوى بالحجر والمقلاع وبالسكين، والأهم اليوم بالصاروخ. فكما عبّر صديق “المجد للصاروخ وحده مَن أعلن وجودنا كبشر”، في وجه المجزرة.