Home / القرآن الكريم / 03 أسرار الآيات وأنوار البينات

03 أسرار الآيات وأنوار البينات

تنبيه

اعلم أن محبة الدنيا والكفر يتلازمان ويتسبب أحدهما بالآخر ولهذا ورد في الكتاب الإلهي تعليل العذاب الأخروي والشقاوة تارة بهذا وتارة بهذا كما في

قوله تعالى :

« وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ »

دلت على أن محبة الدنيا مغرس الكفر ومنبت النفاق لكن نتيجة محبة الدنيا هي العذاب العظيم الحاصل عن مفارقتها يوم القيامة ونتيجة الكفر هي غضب اللَّه في يوم القيامة .

ولا شك عند العارف المحقق أن عذاب الغضب أشد من عذاب النار لأن الأول عذاب روحاني والثاني جسماني حسي والجحيم صورة غضب اللَّه كما أن الجنة صورة رحمة اللَّه وكما أن لذة رضوان اللَّه أكبر من لذة نعيم الجنة من الحور والقصور والأنهار والأشجار وغيرها

كما قال :

« وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ » فكذا ألم الحجاب عن الحق أشد من ألم النار ولذلك وقع مقدما في الذكر في

قوله تعالى :

« كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ » .

ومما يدل على أن الجهل بالمعارف الإلهية يوجب السقوط عن الفطرة ويؤدي الإنسان إلى أن يصير مرآة قلبه مكدرة مظلمة بالغواشي والظلمات إلى حد يفسد ظاهرها وباطنها

قوله تعالى :

« بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ »
وقوله :

« بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ »

وقوله :

« أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ » وقوله تعالى :

« وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً » .

وتوضيح ذلك بالبيان الحكمي : أن الروح الإنسانية من جهة أن من شأنها أن يتجلى فيها الأشياء مشابهة للمرآة لكن هذه الحالة في أول الفطرة للنفس أمر بالقوة لكل أحد من الناس ثم يصير بمزاولة الأعمال والأفعال خارجة من القوة إما إلى الفعل والكمال أو إلى البطلان والزوال .

فإذا وقع الإنسان في السلوك العلمي والرياضة الدينية والتكاليف الشرعية التي هي بمنزلة تصقيل المرآة يخرج النفس من القوة إلى الفعل ويصير عقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة فيكون كمرآة مجلوة يتراءى فيها صور الموجودات على ما هي عليها وإذا لم يقع في هذه الطريقة وهي الصراط المستقيم المذكور في القرآن ولم يخرج ذاته في طريق الآخرة بالتصفية والرياضة والتطهير والتنوير من القوة إلى الفعل بل سلك مسلك الدنيا وصارت نفسه متدنسة بدنس الشهوات متنجسة برجس الفسوق والسيئات بطلت فيه القوة والاستعداد لأن يصير منورة بأنوار العلوم ولأن يتجلى فيها حقائق الأمثال والرسوم ولأن يكون عقلا ومعقولا بالفعل لا بالقوة .

وبالجملة قد بطلت القوة وزالت الفرصة بالكلية وصارت النفس حسا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة وظلمة بالفعل بعد ما كانت نورا بالقوة وبهيمة أو شيطانا بالفعل بعد ما كانت ملكا بالقوة كحديد كان أولا قابلا للإذابة والتصقيل لتظهر فيها مثل المحسوسات فإذا غاص في جرمه الرين والنداوة والوسخ بطل استعداده في كونه مرآتا فكذلك إذا بطل استعداد النفس لأن يكون جوهرا إدراكيا ووجودا علميا صارت جوهرا من جواهر الدنيا بالفعل وكل ما كان الشيء جوهرا دنيويا ظلمانيا بالفعل يحترق في الآخرة بنار السعير إذ الدنيا وما فيها يجاء بها يوم القيامة بصورة نار جهنم وشرارتها وظلماتها فيحترق بمن فيها كما في

قوله تعالى :

« وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسانُ وَأَنَّى لَه ُ الذِّكْرى »

وقوله :

« وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَه ُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَه ُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَه ُ فِي جَهَنَّمَ » .

وقوله :

« وَقالُوا لَوْ كُنَّا  نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ »

وقوله :

« ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ »

وقوله :

« وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ »

وقوله :

« وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً »

وقوله :

« مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ »

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الأمور الدنيوية لا يمكن أن يكون لها وجود يوم القيامة وأن النفس الآدمية ما دامت من جنس هذه الأكوان الدنيوية فهي حطب جهنم وصلى النار كما

قال :

« إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ »

وإنما يستحق النعيم ويستأهل لجوار اللَّه والجنة

من تبدل وجوده وصار جوهرا علميا بعد ما كان جوهرا دنيويا

وذلك بمزاولة اكتساب العلوم وملكة التجريد .

فظهر أن محبة الدنيا منشأ الكفر والاحتجاب ومادة الشقاوة والعذاب وأن بناء التنعم في الآخرة والحياة الدائمة على العلم والمعرفة إذا ما لم يصر جوهر الإنسان جوهرا إدراكيا علميا لم يجعل من جنس الجواهر الحية القريبة من اللَّه ودار كرامته المرتفعة عن عذاب النار ومنزل البوار المتنعمة بنعم دار الحيوان المنسرحة في طبقات الجنان .

2aab6b2c-d1b3-4ab1-8d43-85d187f18014

Check Also

14 أسرار الآيات وأنوار البينات

فالفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجع فيهم الإنذار ولا سبيل ...