ولد آية الله السيد عبد الكريم الرضوي الكشميري في سنة 1334 هجرية في النجف الشرف من عائلة علمائية، فهو حفيد آية الله السيد حسن الكشميري أحد مراجع الدين في كربلاء، وسبط آية الله السيد محمد كاظم اليزدي الذي ثنيت له وسادة المرجعية الدينية العامة للشيعة في عصره وصاحب كتاب العروة الوثقى.
وهو ينتسب إلى السلالة العلوية الطاهرة من أبويه معاً.
هو حجة الإسلام السيد محمد علي الرضوي الكشميري، ولد في مدينة كربلاء المقدسة سنة 1912 ميلادية، وهو الابن الثالث للسيد حسن الرضوي الكشميري، بادر إلى طلب العلوم الدينية منذ صباه متتلمذاً على يدي والده الذي شجعه على ارتداء زي أهل العلم في وقت مبكر. فقد والده وهو في السادسة عشر من عمره، واستمر في دراسة العلوم الدينية تحت إشراف أخويه، وتزوج في أوائل شبابه من ابنة السيد محمد كاظم اليزدي، وكان ثمرة هذا الزواج أربعة أولاد، أصغرهم السيد عبد الكريم.
وكان السيد محمد علي عالماً عابداً من وجهاء المجتمع الديني في كربلاء، يقول السيد عبد الكريم متحدثاً عن والده: كان يواظب على قراءة دعاء كيميل ودعاء الاحتجاب ودعاء يستشير، ويوصيني بقراءتها، وكان يقول: إن أن أبي السيد حسن كان يوصيني بقراءة دعاء يستشير.
ولذلك كان السيد عبد الكريم كثيراً ما كان يوصي بقراءة دعاء يستشير في كل يوم صباحاً ومساءً.
ويضيف السيد عبد الكريم قائلاً: كان والدي صديقاً حميماً للشيخ عبد الكريم الحائري – مؤسس الحوزة العلمية في قم – ولذلك سماني عبد الكريم.
وكان والدي يحب كثيراً زي أهل العلم ولهذا أمرني بارتداء هذا الزي قبل أن يخرج الشعر في عارضي. وكان والدي يحتفظ بمقدار من تربة قبر الإمام الحسين عليه السلام يرجع أخذها من القبر إلى ثلاثمائة عام. ويحتفظ أيضاً بقطعة صغيرة من الحصير كان مع ذلك التراب. وكان يضع عيدان الحصير هذه في قدح من الماء و يعطيها للمرضى الذين كانوا يتوافدون إليه العلاج، وكنت أرى شفاءهم من تلك الأمراض بعد شربهم لذلك الماء الموجود في القدح. وقد تغير لون تلك العيدان إلى السواد لكثرة الاستعمال.
وكان لوالدي لوح تأخذه المرأة الحامل عند تعسر ولادتها وتضعه تحت ركبتيها فتضع حملها بيسر. وأضاف السيد الكشميري قائلاً: وفي إحدى الليالي رأيت في عالم الرؤيا أن سبحة كانت في يدي ثم انفرطت حباتها، فسألت عن تأويلها فقيل لي: يرحل كبير عائلتكم عن هذه الدنيا ويتفرق أقاربه. وهذا ما حدث بالفعل.
ويقول أيضاً: كان من المعروف في العراق أن يعلن وفاة العلماء من أعلى المنائر. وفي أحد الأيام أعلن عن وفاة أحد العلماء في إيران، فسألني والدي: ماذا يعلنون من المنارة؟ فأخبرته الخبر، ثم قلت لوالدتي: إن والدي سيموت غداً. فأشارت والدتي بكفها نحو رأسي وقالت: ما هذا الكلام الذي تتفوه به؟
وفي اليوم التالي دفن والدي عن عمر ناهز السادسة والخمسين عاماً في النجف الأشرف ودفن فيها.
وخلف السيد محمد علي أربعة أولاد: السيد صالح والسيد رضا والسيد كاظم والسيد عبد الكريم وكان أصغرهم سناً
جد السيد عبد الكريم لأبيه هو آية الله السيد محمد حسن الرضوي الكشميري أحد مراجع الدين في عصره، هاجر من مواطنه الأصلي كشمير مع والده السيد عبد الله الرضوي إلى كربلاء وهو في السابعة من عمره، واشتغل بطلب العلوم الدينية إلى أن وصل إلى درجة الاجتهاد وتصدى للفتوى والمرجعية الدينية في أواخر حياته، وكان معدوداً من الأتقياء والعلماء. تخرج على يديه ثلة من العلماء الممتازين كالشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم.
يقول السيد عبد الكريم: كان جدي جميلاً للغاية بحيث أن الشيخ عبد الكريم الحائري كان يقول: عندما كنت أحضر درسه كان يشغلني النظر إلى جمال وجهه عن الانتباه إلى درسه.
وكان مجموعة من أهالي كربلاء والهند يرجعون إليه في التقليد. وكان إضافة إلى ذلك عارفاً وصاحب كرامة بنحو أن جدي من أمي السيد محمد كاظم اليزدي كان عندما يشتد عليه المرض يقول: آتوني بثياب السيد حسن الكشميري لأرتديها واشفى من مرضي.
وقد أدرك السيد علي القاضي جدي ورآه وكان يمدحه كثيراً. وهو صاحب سجدات طويلة بحيث أن أهله كانوا ييأسون من حياته فيدثرونه بالغطاء.
ومن كراماته المشهورة- والتي نقلها البعض في كتابه (مقتل الحسين) أن مجموعة من أتراك إيران جاءوا إلى كربلاء وسألوه عن قبر عبد الله الرضيع. فقال لهم: أمهلوني سواد هذه الليلة. وأخذ يتوسل بالإمام الحسين عليه السلام فأخبره عليه السلام في عالم المكاشفة أو عالم الرؤيا بأن عبد الله الرضيع موضوع على صدره. وفي اليوم التالي أخبرهم بالجواب.
وكان لجدي ثلاثة أولاد، أحدهم السيد مصطفى الذي كان يؤم صلاة الجماعة خلفاً لوالده في كربلاء، والثاني محمد حسين الذي نصب علم استقلال العراق في ساحة كربلاء، والثالث السيد محمد علي.
ويواصل السيد الكشميري حديثه عن جده قائلاً: لقد ظلم التاريخ جدي كثيراً، فإن أحداً لم يكتب حياته بالتفصيل كما يليق به، فقد كان ذو بيان فصيح وجميل بحيث أن البعض كان يحضر صلاته من أجل سماع جمال تلاوته لسورة الفاتحة.
وكان يقيم صلاة الجماعة في مسجد سيد الشهداء عليه السلام خلف الضريح المقدس للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
ويقول آية الله الشيخ بهجت: في يوم من الأيام كان الميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد حسن الكشميري جالسين مع بعضهما ويتحدثان حول نظاراتهما كأنهما ليسا مرجعين ولهما مقلدين ومريدين.
وقال شخص: إن حديثهما في هذا الموضوع الشخصي دليل على عدم تأثيرهما بمنصب المرجعية بسبب ما وصلا إليه في الزهد والعرفان، وتوفي السيد حسن الكشميري في السادس من صفر 1328هـ، ودفن في رواق حرم سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام بالقرب من قبر إبراهيم المجاب ابن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.
والدته وجده لأمه وأما والدته فهي امرأة مؤمنة وطاهرة ابنة آية الله السيد محمد كاظم اليزدي مرجع عصره وصاحب كتاب الفتوى المشهور (العروة الوثقى) توفي في النجف الأشرف سنة 1337هـ. وكان السيد عبد الكريم الكشميري قد علق صورتين على حائط غرفته: الأولى لجده السيد حسن الكشميري والثانية للسيد محمد كاظم اليزدي، وكان يكن لهما احتراماً كبيراً.
يقول الشيخ بهجت متحدثاً عن منزلة السيد محمد كاظم اليزدي: في أحد الأيام أصبح أحد الأشخاص مجنوناً وهو يجوب شوارع النجف، وعندما أخذ الناس يتساءلون عن سبب جنونه بعد أن كان في الأمس سالماً، قيل لهم في الجواب: إنه الشخص الذي كان قد طوى سجادة الصلاة من تحت قدمي السيد محمد كاظم اليزدي في أحداث المشروطة وأهانه فابتلاء الله سبحانه بالجنون. يقول السيد عبد الكريم الكشميري: يرجع نسبنا إلى السيد موسى المبرقع ابن الإمام محمد الجواد عليه السلام المدفون في قم. فأجدادي في الأصل قميون، ثم هاجر جدي الرابع عشر وهو السيد حسين الرضوي القمي إلى الهند وهو معروف جداً في تلك الديار، وقبره الآن في كشمير مشهور يزار في منطقة سفيلم بوره من نواحي كشمير الهند، وهو صاحب كرامات كثيرة، وقد نقل عنه مناظرة مع احد المعاندين حينما جاءه وهو يتوضأ فقال له: إن الدليل على صحة مذهبنا وحقانيته أنني استطيع أن أطير في الهواء عدة أمتار وأنت لا تستطيع ذلك. فقال له السيد حسين: افعل ذلك. فطار ذلك الرجل في الهواء عدة أمتار، فرمى السيد حسين نعله إلى أعلى، فوقف ذلك النعل على رأس ذلك الرجل وأخذ يضربه حتى أنزله إلى الأرض، فخجل وولى هارباً.
وبقي أجداد السيد عبد الكريم الكشميري في الهند إلى أن هاجر جده الثاني السيد عبد الله الرضوي الكشميري إلى كربلاء واتخذها وطناً له.
وأما شجرة نسبه الشريف فيها كما أمضاها النسابة المعروف السيد المرعشي النجفي: السيد عبد الكريم الكشميري بن السيد محمد بن علي بن السيد محمد حسن بن السيد عبد الله بن السيد كاظم بن السيد محمد بن السيد أحمد بن جمال الدين بن السيد جلال الدين بن السيد علي بن السيد حسين القمي بن السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد منهاج بن السيد جلال الدين بن السيد قاسم بن السيد علي بن السيد حبيب بن السيد أحمد بن السيد موسى المبرقع (المدفون في قم) ابن الإمام الجواد عليه السلام ابن الإمام الرضا عليه السلام.
ويتصل نسب السيد عبد الكريم الكشميري بالإمام الرضا عليه السلام بست وعشرين واسطة.
لحظة التحول يبدأ المنعطف في حياته العرفاء عادة بالجذبة أو كلمة يسمعها من أستاذ في العرفان وما اشبه ذلك، ولم يخرج المترجم له عن هذه القاعدة يقول السيد الكشميري: كنت طفلاً في السابعة أو الثامنة من عمري ألعب مع أطفال آخرين في زقاق قريب من مدرسة جدي السيد محمد كاظم اليزدي إذ مر شيخ طاعن في السن وأشار إلى أن تعال إلي، فذهبت إليه، فقال لي: إن في رأسك نوراً فلا تلعب مع الأطفال فأنك لا تصلح لللعب
ولم يكن هذا الشيخ غير آية الله العارف مرتضى الطالقاني الذي كان يسكن في إحدى غرف مدرسة اليزدي، وهكذا اشتملت العناية الإلهية السيد الكشميري أن يكون تحت رعاية هذا العارف الكبير.
وبتشجيع من والده دخل السيد عبد الكريم سلك الحوزة العلمية، وألبسه والده العمة وزي طلبة العلوم الدينية وهو في سن الصبي، ولازم السيد عبد الكريم العارف الطالقاني ما يقارب عشر سنوات، من سن العاشرة من عمره إلى الحادية والعشرين حيث فارق أستاذه الحياة، واتخذ له غرفة في مدرسة جده اليزدي إلى جانب غرفة الشيخ الطالقاني، وخلال السنوات العشر هذه أرسى الطالقاني أسس العلم والعرفان بشكل محكم في شخصية السيد عبد الكريم.
وبعد هذه الحادثة ازداد ميل السيد عبد الكريم نحو العرفاء فكان يبحث عنهم في الصلحاء والعباد الطاعنين في السن، يقول: لقد كان الجميع في سن الفتوة والشباب يرافقون من هم في أعمارهم، ولكني كنت أعاشر الشيوخ المتقدمين في السن وأطلب برنامجاً للسلوك من أي أستاذ أجده من أساتذة السلوك. ولقد يسر هذا التوفيق العظيم للسيد عبد الكريم الوصول إلى درجات عالية في السلوك والعرفان وهو في سن الشباب، وقد طوى السيد الكشميري الكثير من مراحل السلوك في تهذيب الأخلاق وتزكية النفس بعيداً عن الضجيج الذي كان يثار حو السالكين لهذا الطريق، لأن أصابع الاتهام بالتصوف لم تكن موجهة أستاذه الشيخ الطالقاني الذي اختار العزلة شبه المطلقة في غرفته التي اتاحت له فرصة العمل بحرية أكبر في إرشاد السالكين وتوجيههم.
انخرط السيد عبد الكريم منذ نعومة أظفاره في سلك الحوزة العلمية في النجف الأشرف بتشجيع كبير من والده الذي ألبسه رجال الدين وهو في صباه، وكان يجب أن يراه عالماً من العلماء يخلفه بعد وفاته، وكان شديد الحرص على تعليمه وتربيته التربية الصحيحة وخصوصاً وهو يرى فيه علامات النبوغ والصلاح، وكان حريصاً أيضاً أن يتتلمذ ولده على يد أساتذة في العلوم الإسلامية هم في نفس الوقت من أساتذة الأخلاق.
وبعد أن قطع السيد عبد الكريم الأشواط الأولى في طلب العلم على يد والده، تتلمذ على يد أساتذة آخرين في مرحلة السطوح، فدرس معظم دروسه عند الشيخ العارف مرتضى الطالقاني، وتتلمذ أيضاً مقداراً من دروس شرح اللمعة الدمشقية عند السيد أحمد الأشكوري، وبعض دروس السح عند الشيخ مجتبى اللنكراني، والمكاسب عند الشيخ راضي التبريزي، وقسم من بحوث الاستصحاب والتعادل والتراجيح عند آية الله بهجت الذي تعرف عليه في مدرسة جده السيد محمد كاظم اليزدي، ودرس كفاية الأصول عند الشيخ محمد حسين الطهراني والشيخ عبد الحسين الرشتي تلميذا الآخوند الخراساني صاحب الكفاية، ودرس الفلسفة عند الشيخ صدراً البادكوبي والحاج فيض الخراساني، ودرس قسماً من أسفار الملا صدرا عند الشيخ عبد الحسين الرشتي.
ثم حضر دروس البحث الخارج في الفقه والأصول وهي أعلى مراحل البحث العلمي في الحوزات العلمية- عند كثير من فقهاء ومراجع عصره كالشيخ علي محمد البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والميرزا حسن البجنوردي والسيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ محمد كاظم الشيرازي وأبي القاسم الخوئي.
يقول السيد عبد الكريم في تقييم أساتذته: كان معقول الميزرا حسن البجنوري غالباً على فقهه، وكتابه القواعد الفقهية ليس دليلاً على غلبة فقهه، على معقوله، بينما كان الشيخ علي محمد البروجردي يردد كثيراً آراء وأقوال استاذه المرحوم الكمباني في أصول الفقه، وأما السيد أبو الأعلى السبزاوري فقد كان من أصحاب القلوب اليقظة، وقد حضرت ردحاً من الزمن دروسه في البحث الخارج. وقرأت دروس البحث الخارج في العروة الوثقى عند السيد عبد الهادي السبزاوري الذي كان عالماً جيداً ويواظب كثيراً على ذكر (قل هو الله أحد).
وأما أهم حضور له في دروس البحث الخارج فقد كان عند آية الله الخوئي الذي منحه إجازة الاجتهاد شفاهة وكتابة.
وقد كان السيد عبد الكريم صاحب حافظة قوية جداً بنحو كان يحفظ الكثير من النصوص وخاصة نصوص الكتب الدراسية في الأصول والفلسفة إلى حد يثر الدهشة والإعجاب حتى قال له آية الله الخوئي: إن كفاية الأصول معجونة في دمك.
وقد تصدى للتدريس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف حتى وصل عدد الدروس التي يلقيها على مسامع تلاميذه إلى أحد عشر درساً في اليوم.
وقد تصدى بشكل خاص لتدريس الفلسفة حيث درس كتاب شرح منظومة السبزواري لما للفلسفة من دور مهم في تنشيط التفكير والاستدلال في أذهان دارسيها، في الوقت الذي كان تدريس الفلسفة محظوراً ومحاصراً في النجف الأشرف، ولكن وبسبب المنزلة الاجتماعية المرموقة التي يحظى بها السيد عبد الكريم فقد استطاع أن يتصدى لتدريسها. وكان يوصي بدراستها ويقول: إن دراسة منظومة السبزاوري واجبة، واما باقي الكتب فهي باختيار الشخص. وكان يحفظ الكثير من أشعارها.
وهكذا استمر في التدريس معظم أوقاته حتى التقى بالعارف السيد هاشم الحداد وحينها ابتعد عن التدريس ودخل مرحلة جديدة في السلوك على يديه.
وقد استطاع السيد عبد الكريم أن يحتل منزلة علمية رفيعة في الأوساط الدينية في النجف الأشرف وكان يقول على ما نقله عنه أحد المقربين منه: كنت مع مجموعة من الطلاب الآخرين إذا ما حضرنا درس أحد العلماء صار هو الدرس العام والأساسي في الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
تأليفاته: لم يعهد من العرفاء التصدي للكتابة والتأليف إلا ما اقتضته الضرورة من المراسلات أو التعليقات على بعض الكتب المتداولة بين أيدي الطلاب أو تسجيل محاضراتهم و دروسهم في الأخلاق والعرفان. ولم يستثن من هذا العرف المترجم له، حيث دون خلال مسيرة حياته في النجف الأشرف بعض محاضرات اساتذته وبعض التعليقات على المناهج الدراسية. وقد جلب معه قسماً منها حين هجرته إلى إيران عندما تعرضت حياته للخطر على أيدي أزلام النظام البعثي، ولكن صادرها منه شرطة الحدود العراقية على الحدود العراقية الإيرانية، وهي المحاضرات الأخلاقية للشيخ العارف مرتضى الطالقاني، وتقريرات أبحاث آية الله الخوئي، وشرح على كفاية الأصول حظي بتقريظ آية الله الخوئي وآية الله الميلاني، وكتيب في الأذكار والأوراد وديوان شعر باللغة العربية.
جرى في العرف العلمي في علم الحديث على منح العلماء الحديث الإجازة في رواية الحديث لتتصل سلسلة رواته، وهكذا جرى الأمر في السلوك حيث يمنح اساتذة السلوك إجازة الذكر لبعض تلاميذهم ليتصل سندها بمصادرها الأصلية، وإن كان الأمر هنا أدق لأن هذه الإجازات هي التي تنقل الأسرار من الصدور عبر الأجيال فإن من رسم رجال العرفان عدم تدوين تلك الأسرار لئلا تقع في يد غير أهلها فيسيئوا الاستفادة منها.
وكان السيد الكشميري يقول: من لم يحصل على ملكه الاجتهاد لا يعطي إجازة الاجتهاد والأمر في السلوك كذلك فإن الإجازة فيه تمنح لمن كانت له قابلية السلوك، فإن السلوك يقطع طريق السلوك بهمة ونفس أولياء الله لكي يصلوا إلى أهدافهم.
وقد حصل السيد عبد الكريم الكشميري على مجموعة من الإجازات الشفاهية من اساتذته، يقول رحمه الله: لقد منحني السيد هاشم الحداد إجازة الأذكار.
وحصل السيد الكشميري أيضاً على إجازة تحريرية في الأذكار من الحاج مستور الشيرازي وبعض الأساتذة الآخرين.
وأما سلسلة اساتذته في الأخلاق والعرفان فتتصل بالشيخ محمد البيد آبادي بطريقين: قال السيد أحمد الكربلائي أستاذ السيد علي القاضي: إن سلسلة العرفاء الحقيقيين في النجف الأشرف تتصل بالعارف بلا تعيين ومرجع أرباب اليقين الآغا محمد البيد آبادي.
الطريق الأول: السيد عبد الكريم الكشميري المتوفى سنة 1419هـ، السيد علي القاضي المتوفى سنة 1366هـ، السيد أحمد الكربلائي المتوفى سنة 1332هـ، الملا حسين قلي الهمداني المتوفى سنة 1311هـ، السيد علي الشوشتري المتوفى سنة 1283هـ، السيد صدر الدين الكاشف الدزفولي المتوفى سنة 1258 هـ، الآغا محمد البيد آبادي المتوفى 1198هـ.
وهناك طريق آخر لاتصال السيد علي الشوشتري بالملا قلي جولا، وقصة هذا اللقاء كالتالي:
بعد أن انهى السيد علي الشوشتري دراساته العلمية في النجف الأشرف وحصل على درجة الاجتهاد رجع إلى وطنه شوشتر وانهمك في التدريس والقضاء. وفي إحدى الليالي طرقت باب داره، فقال من الطارق؟ فأجاب: ملا قلي جولا (الحائك). فأمر السيد خادمه أن يقول للطارق أن يذهب في هذا الوقت المتأخر من الليل ويأتي غداً صباحاً إلى المدرسة. فقالت له زوجته: لعل هذا الرجل المسكين جاء في هذا الوقت لأمر ضروري. فأذن السيد للطارق بالدخول، وعندما دخل الملا قلي الغرفة سأله السيد: ماذا تريد؟ قال له: إن هذا الطريق الذي تسير فيه هو طريق جهنم. قال هذا وذهب. فسألت زوجة السيد: ماذا كان يريد؟ فأجابها السيد: كأنه أصيب بالجنون. وبعد ثمان ليال جاء في منتصف الليل أيضاً وطرق الباب، وعندما فتح السيد الباب ورأى نفس ذلك الرجل قال: يبدو أنه كلما ظهر جنونك أتيت إلى هنا. وعندما دخل الملا قلي الدار قال للسيد: ألم أقل لك إن هذا الطريق هو طريق جهنم؟ إن الحكم الذي حكمت به اليوم في مليكة الأرض كان حكماً باطلاً، والسند الصحيح في وقفها والذي أمضاه العلماء والمعتمدون موجود في المكان الفلاني. قال هذا وذهب. وعندما سمع السيد هذا الكلام أصابته الدهشة والاستغراب وعند الصباح ذهب إلى المدرسة واصطحب أصابته الدهشة والاستغراب، وذهب إلى المكان الذي أخبره به فوجد السند موضوعاً في صندوق صغير هناك. فأبطل السيد حكم مليكة الأرض الذي حكم به بالأمس، واستدعى وأراه سند الوقف.
وبعد ثمان ليال أخرى وفي نفس ذلك الوقت المتأخر من الليل أيضاً طرق الملا قلي باب السيد علي الشوشتري، فاستقبله السيد استقبالاً حاراً وأجلسه في صدر المجلس وقال له: لقد ظهر قولك، والآن ما هو تكليفي؟ فقال له الملا قلي: نعم لقد تبين لك أن جنوني لم يظهر بعد، بع ما تملك وأوف ديونك واحمل معك ما بقي من أثاثك وأذهب إلى النجف الأشرف، واعمل بهذا إلى أن اتصل بك.
وشرع السيد الشوشتري بتنفيذ ما أوصاه به الملا قلي وذهب إلى النجف الأشرف وسكن فيها، وفي يوم من الأيام رأى السيد الشوشتري الملا قلي في مقبرة وادي السلام وهو يدعو وعندما اقترب منه قال له الملا قلي: سأموت غداً في شوشتر، وتكليفك هو كذا وكذا، ثم ودع السيد وذهب.
هنالك محطات رئيسة في حياة السيد الكشميري كان لها الأثر البالغ في شخصيته العرفانية، وأهم هذه المحطات هي النجف الأشرف وعشقه المفرط لها، وليس بدعاً أن تكون النجف كعبته وقبلته كما عبر عنها بنفسه، ففيها ولد وترعرع وقضى أكثر من خمسين عاماً من حياته، فهي وطنه الذي يحن إليه، إضافة إلى وجود المرقد الطاهر لأمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام والذي لولاه لم تكن مدينة النجف، وكان السيد الكشميري يكن حباً جماً لأبي الأئمة الإمام علي عليه السلام، ولولاه لم يكن للنجف أي منزلة في قلبه، إذ هي أرض كأي أرض أخرى، وإنما تشرفت تربتها بجسد أمير المؤمنين عليه السلام بين أكنافها.
يقول السيد الكشميري: إن أرض النجف مربية، وهي تربة لا تضاهيها تربة أخرى، وخاصة لأعمال التزكية والسلوك، فهي تفتح الآفاق أمام الإنسان وتحلق بالروح عالياً. والنجف حسنها حسن جداً وسيئها سيء جداً، فأشرارها لا مثيل لهم، وأخيارها لا نظير لهم أيضاً، وهذه هي خصوصية مدينة النجف.
إن أكثر التوفيقات التي حصلت العلماء والأولياء في النجف الأشرف كانت بسبب أمير المؤمنين عليه السلام، ورعايته لهم. وهيبة النجف في النفوس هي من أثر هيبته عليه السلام يقول السيد الكشميري: إن للنجف هيبة عظيمة وهي من هيبة أمير المؤمنين عليه السلام بحيث أن اعلم العلماء فيها هو مثل أي طالب عادي.
وكان يقول أيضاً: أرض النجف منورة، وفي أحد الأيام عندما كنت راجعاً من كربلاء إلى النجف بالسيارة كانت هنالك طفلة صغيرة تخاطب أمها قائلة وذلك قبل وصولنا إلى النجف بفرسخ: اُماه كم هذه الأرض نورانية!
وبعد هجرة السيد الكشميري إلى إيران بقي قلبه متعلقاً بالنجف الأشرف، وكان يلهج بذكراها دائماً: يقول تلميذه السيد علي أكبر صداقت: كان أحياناً يصف النجف وكأنه لا يوجد في الدنيا مدينة سواها، فكان يقول: إن كل إيران لا تعادل النجف. وهنا نتذكر مجنون ليلي الذي كان يلهج بذكر نجد وهي الأرض التي تسكن فيها ليلى، بل كان يقبل أحيانا ترابها ويقول إن فيها رائحة ليلى.
يقول السيد الكشميري: النجف شيء آخر، وحتى مساجدها الصغيرة لها معنوية خاصة لا تضاهيها حتى مساجد إيران الكبيرة كمسجد كوهرشاد في خراسان.
ويقول أيضاً: ثلاثمائة وستون نبياً مدفون في النجف، ولكن دفن في كربلاء مائتان وستون نبياً فقط، وقبر نبي الله آدم ونبي الله نوح عليه السلام إلى جنب قبر أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاء في زيارة عليه السلام (السلام عليك يا مولاي وعلى ضجيعيك آدم ونوح).
نعم فالنجف هي الأرض التي حفر فيها نبي الله نوح عليه السلام قبر أمير المؤمنين قبل سبعمائة عام من الطوفان، وهو القبر الذي زاره أحد عشر إماماً، واليوم يذهب بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف لزيارة جده عليه السلام. ويظهر من الروايات أن زيارة أمير المؤمنين عليه السلام أكثر ثواباً من زيارة الأئمة الآخرين.
إن مكانة النجف رفيعة إلى درجة أن شخصاً مثل المرحوم الشيخ زين العابدين المرندي المسلم الاجتهاد ومن أهل التقوى كان يأتي أحياناً ويجلس في باب صحن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يجلس المتسولون، وحينما يقال له: يا شيخنا إن جلوسك في هذا المكان قبيح ولا يليق بك، كان يقول: إن هذا المكان يمر منه إمام الزمان عجل الله فرجه الشريف والخضر عليه السلام إلى حرم أمير المؤمنين عليه السلام، وأنا جالس هنا لعلهما يلتفتا إلي وتشملني عنايتهما.
إن أهم معالي النجف الأشرف هو ضريح أمير المؤمنين عليه السلام، وكان السيد الكشميري يواظب على زيارته في كل يوم منذ صغر سنه. تقول زوجته متحدثة عن برنامجه اليومي: كان يصلي الفجر في البيت، وبعد أن ينتهي من تعقيبات يبدأ بالمطالعة والتدريس. ويصلي الظهر في أغلب الأحيان في مسجد السوق الكبير، ويخرج من البيت أيضاً قبل الغروب ويصلي صلاتي المغرب والعشاء في صحن أمير المؤمنين عليه السلام وبعدها يجلس في الصحن الشريف قرب مقبرة جده يتباحث مع أقرانه، ثم يذهب في الليل إلى وادي السلام ويبقى هناك إلى منتصف الليل مشغولاً بالعبادة.
ويقول السيد الكشميري: كانت إذا عرضت لي مشكلة أذهب إلى صحن أمير المؤمنين عليه السلام وأقرأ سبع مرات (ناد علياً…) فتحل هذه المشكلة.
ويقول الحاج صاحب عضد الله الذي رافق السيد الكشميري خمسة وعشرين عامً في النجف الأشرف: تعرضت في إحدى الأيام إلى مشكلة كبيرة فقلت للسيد الكشميري: يا سيدنا أين أذهب فإن مشكلتي صعبة جداً؟ فقال لي: لا تقل صعبة فإن حلال المشكلات هو أمير المؤمنين عليه السلام، وأنا أريد الآن الذهاب إلى الحرم فإن كنت راغباً فتعال معي. فقلت له: الآن عندي شغل. فقال: اترك عملك وتعال معي. فذهبنا سوية ووقف يقرأ الأدعية من غير أن يفتح كتاباً، وقال لي: أدعو أنت أيضاً وتوسل بأمير المؤمنين عليه السلام وستحل مشكلتك. وعندما دعوت وخرجت من الحرم رأيت مشكلتي قد حلت.
ويقول السيد جواد صهر الكشميري: لقد حدث مرات عديدة أن دعوته للذهاب إلى وسط الكوفة حيث الماء والخضرة والأشجار، ولكن بعد فترة من جلوسه يقول لي: إن قلبي ينقبض هنا، فيرجع إلى النجف حيث درجة الحرارة تتراوح بين 45-50 درجة ويجلس في صحن أمير المؤمنين عليه السلام وينظر إلى الضريح، وكلما قلت له: أفي مثل هذا الحر؟ كان يقول هنا الحياة إن روحي تتجدد هنا.
وكان عندما يذهب إلى الحرم يبدأ بالحديث مع أمير المؤمنين عليه السلام منذ دخوله الباب، ويناجيه بهدوء وخفية، وبصوت عال تارة أخرى ويستغرق حديثه معه وقتاً أطول لو دخل الحرم أو وصل إلى مقابل الضريح وكان عندما يصل إلى الحرم يدخل بأدب ويجلس في زاوية تحت قدمي أمير المؤمنين عليه السلام، ويستغرق مع نفسه ويتلو زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، على ظهر الغيب:
السلام علي أبي الأئمة وخليل النبوة والمخصوص بالأخوة السلام على يعسوب الدين والإيمان وحكمة الرحمن السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال…
وعندما تقترب ذكرى شهادة أمير المؤمنين عليه السلام تتغير أحواله، ويبتعد عن الآخرين ولا يخرج من الدار، ويقول فقط: عندي شغل، ويخفي حاله عن الآخرين.
وعندما اضطر إلى الهجرة من النجف إلى قم كان دائم للنجف، وكان لسانه يردد دائماً يا أمير المؤمنين علي. تقول زوجته: عندما جئنا إلى إيران كان يذكر النجف دائماً، ويردد لسانه اسم علي عليه السلام في كل أحواله، وكان يكثر من قول (يا جداه) ويتباهى بذلك، فكنت أقول له أحياناً من باب المزاح: إنك تقول (يا جداه) بنحو وكأن علي عليه السلام جدك فقط وليس له أولادك سواك! وكان كثير التعلق بأمير المؤمنين عليه السلام وكان يعتقد في علي عليه السلام اعتقاداً فيه اُبهة وعظمة خاصة. وكان يحب كثيراً زيارة عاشوراء وزيارة أمين الله، وخاصة زيارة أمين الله والتي كان يرددها حتى في النوم، أي أنه كان نائماً ومع ذلك كان لسانه يتلوها، ولا أدري ما هي الحالة التي كان عليها، فلعله كان يذهب لحرم أمير المؤمنين عليه السلام ويقرأ الزيارة له وهو في عالم النوم.
ويقول نجله الأصغر المهندس السيد علي الكشميري: لقد كان عاشقاً للإمام الحسين ولأمير المؤمنين عليه والسلام، والجملة التي سمعتها منه هي: أتمنى أن أرجع إلى النجف وأكنس الحرم بلحيتي، لقد سمعت هذا منه، ولقد كان هذا العشق في باطنه.
ويقول المرحوم الشيخ جعفر المجتهدي عن السيد الكمشيري: إن قلب هذا السيد مملوء يحب أمير المؤمنين عليه السلام إلى درجة أنه في كل مرة يأتي فيها إلى دارنا تأتي معه أيضاً قبة أمير المؤمنين عليه السلام.
ويقول أحد تلامذة السيد الكشميري معبراً عن وثيق علامة السيد الكشميري وعظيم شوقه إلى جوار أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مرضه الأخير: كان يأمل دائماً أن يرجع إلى جوار مرقد أمير المؤمنين عليه السلام. وعندما اشتد به المرض كان يعوده أصدقاؤه ويطلبون منه الإذن في إحضار الطبيب، فيقول طبيبي مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، إذا رجعت إلى هناك ستزول كل هذه الأمراض. وبالفعل كان هكذا. لقد كانت له مع أمير المؤمنين علاقة قوية جداً وصميمية، وأن كل من رأى الطلعة البهية لعلي عليه السلام فأنه لا يستطيع أن يتحمل فراقه والابتعاد عنه، ولقد سمعته يقول: يضيق صدري جداً في بعض الأحيان لأمير المؤمنين عليه السلام فأقرأ سورة المؤمنين والتي هي سورة علي عليه السلام وأهدي ثوابها إلى روحه الطاهرة فاُشاهده في عالم الرؤيا أحياناً.
والمعلم الثاني في النجف الأشرف هو مقبرة وادي السلام حيث قبور عدد كبير من الأنبياء والأولياء والصالحين، بل هي مكان اجتماع أرواح المؤمنين بعد الموت، كما أن وادي برهوت في اليمن هو مكان اجتماع أرواح أهل النار، ولذا فأن وادي السلام روضة من رياض الجنة، فلا غرابة أن يتخذها الأولياء محللاً للعبادة.
وقد جاء في الرواية أن أمير المؤمنين عليه السلام قد اشترى الأراضي بين الكوفة والنجف إلى الحيرة بأربعين ألف درهم، وأشهد على شراءها. فسأله بعض أصحابه: لماذا اشتريت هذه الأرض التي لا دماء فيها ولا كلاء بهذا الثمن الغالي؟ فقال عليه السلام: سمعت رسول الله (ص) يقول: يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وأنا أحب أن يحشروا من ملكي.
ويوجد في وادي السلام مقامان: أحدهما مقام الإمام الصادق عليه السلام والثاني مقام الإمام صاحب الزمان عليه السلام، وهما المحل الذي صلياً عليه السلام فيه. كما يضم وادي السلام قبرين مبنيين أحدهما لنبي الله هود عليه السلام والآخر لنبي الله صالح عليه السلام وهما جارا أمير المؤمنين عليه السلام كما جاء في الزيارة: (السلام عليك وعلى جاريك هود وصالح).
ومن أعظم ما تمتاز به مقبرة وادي السلام عن غيرها من مقابر العالم أنها برزخ أرواح المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لأصبغ بن نباته في صحراء النجف: (يا بن نباتة لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر (ظهر الكوفة وهي النجف) حلقاً يتزاورون ويتحدثون إن هنا روح كل مؤمن).
ويقول السيد الكشميري: إن أول من عرفني على وادي السلام هو المرحوم الشيخ ذبيح الله القوجاني وأرشدني إلى قراءة الفاتحة وبعض السور وإهدائها إلى أرواح المؤمنين، وقال: إن فعلت ذلك فإن هذه الأرواح تدعو لك. وقد اصطحبني معه مرات عديدة عند الغروب إلى هذه المقبرة.
ويقول أيضاً: وكانت علاقتي بوادي السلام قوية إلى درجة أني كنت ألقي بعض دروسي فيها، وكنت أذهب في بعض الليالي إليها فأضع عمامتي تحت رأسي وأغطي جسدي بعبائتي وأنام، وهي مقبرة مخفية ولم أكن شجاعاً أيضاً، ولكن شوقاً في باطني يبعثني علي الذهاب إليها والمبيت فيها وأن اتحدى الخوف. وكنت أذهب إليها أحياناً في وسط النهار حيث الحر الشديد، وأذهب إليها في منتصف الليل في أحيان آخر, وهذا العمل دفع البعض إلى القول بأن سيد عبد الكريم يمتلك الاسم الأعظم. وقد ذهبت في صباح ليلة زواجي إلى وادي السلام، فأرسلوا خلفي أن ارجع إلى البيت فإن مجموعة من العلماء جاءوا لزيارتك وتهنئتك، فاضطررت إلى الرجوع.
وعندما سئل السيد الكشميري عن مشاهداته في وادي السلام قال: كنت في وادي السلام يوماً وأنا مستغرق بقراءة بعض الأدعية والأوراد إذ ارتفعت فجأة أصوات نزاع وتخاصم مجموعتين من الناس، ثم أخذوا برمي الأحجار على بعضهما، فرأيت أنهما لو استمر هكذا فأني لا استطيع إتمام هذه الأدعية والأوراد كما أن خطرهما سيصل إلي، فظهر فجأة كلب وهجم على هؤلاء الناس وفرقهم بعيداً عن وادي السلام.
وفي أحد الأيام ذهبت إلى وادي السلام والتقيت هناك بشخص يدعى شيخ مالك، ولم يكن من طلبة العلم، وقال لي: إنني سأقرأ من هنا زيارة الإمام الحسين عليه السلام فأقرأ معي هذه الزيارة أيضاً، فقرأ الزيارة وقرأت معه، فشاهدت كربلاء مع أن بين النجف وكربلاء مسافة شاسعة جداً.
وفي يوم كنت مشغولاً بأورادي في وادي السلام فظهر لي فجأة ثلاثة أشخاص نورانيون وهم يرتدون ملابس بيضاء وقالوا لي: يا سيدنا نلتمس منك الدعاء.
نلقي في هذا الفصل نظرة سريعة على الجانب العبادي في حياة السيد الكشميري، فلقد بذل جهوداً مضنية ورياضات شاقة في سبيل نيل درجة القرب من الله جل جلاله، شهد بذلك العارف الأوحد في عصرنا الحاضر الشيخ محمد تقي بهجت، يقول أحد تلامذته: ذهبت إليه في أحد الأيام فوجدته يعاني من ألوان الأمراض كآلام الظهر وضيق التنفس وغيرها، وقد تدهورت صحته جداً حتى لم يستطع الوقوف على رجليه، ويحترق قلبه من يراه لكنه لم يتفوه بشيء غير كلمة (الحمد لله) فخطر في ذهني سؤال: لماذا هو مبتلى بكل هذه الابتلاءات؟ وعندما ذهبت إلى آية الله بهجت قال لي قبل أن اتكلم: لقد تحمل السيد الكشميري رياضات شاقة وبذل جهوداً كثيرة، وهذه الأمراض من آثارها.
لقد أذاق بدنه مشقة الطاعات والسهر والتهجد في جوف الليالي خلال سنوات طويلة حتى أقعده المرض لينال وسام الاستقامة الذي أمرنا الله تعالى به، وهي الدرجة التي عانى رسول الله (ص) ما عانى من أجلها حتى قال: شيبتني سورة هود إلى قوله تعالى في هذه السورة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}.
يقول أحد تلامذة السيد الكشميري: لقد كان لكل وجوده استقامة، ومع كل الأمراض التي كان يعاني منها من الآم الظهر والقلب وإصابته بالجلطة القلبية مرتين لم أسمعه يشتكي آلامه قط، وعندما نسأله عن حاله يقول: الحمد لله فإذا ما سألناه مرة أخرى قال: أشعر بالألم. يقول هذا من غير شكوى وكأنه قد تقبل هذه الآلام بروحه وقلبه، لقد كان وجوده دال على الاستقامة، وكنت عندما أراه أفهم ماذا تعني الاستقامة.
نعم لقد تحمل كل هذه المعاناة ليكون دائم الحضور عند الله تعالى ودائم الذكر له، يقول نجله السيد محمود الكشميري: لا ندري ماذا كان يقول، وكل ما نعلمه أنه كان في حال الذكر خلال أربع وعشرين ساعة، وحتى عندما يمشي في الطريق، وكان لسانه ذاكراً لله في كل أوقاته. لقد كانت المسافة بين دارنا وصحن أمير المؤمنين عليه السلام طويلة جداً تتراوح بين الثلاث والأربع كيلومترات، وكان يقطع هذه المسافة لفي كل يوم أربع مرات مشياً على الأقدام وكان لسانه يلهج بذكر الله في كل خطوة يخطوها.
ويحكي أحد تلامذته حالة حضور الدائم في محضر الخالق جل جلاله التي يتمتع بها استاذه الكشميري قائلاً: لقد كان دائماً في حال الحضور، وكان دائماً متوجهاً لحضرة الحق سبحانه، كان يردد هذا الدعاء في أغلب أوقاته (وحالي في خدمتك سرمداً) وهذا أمر عظيم جداً، إذ هو طعام لذيذ جداً لا يشبع منه الإنسان بسرعة. وقد كانت حاله هكذا إلى آخر حياته، وكانت كل آلامه تسكن بهذا، أي أن توجهه إلى الله تعالى يسكن كل آلامه.
والخصلة الأخرى في الجانب العبادي من شخصية السيد الكشميري هي كتمانه لما يأتي به من عبادات، يقول أحد تلامذته: لقد كانت أحواله العبادية خافية علينا، إذ نحن لا نراه خلال الأربع والعشرين ساعة إلا وقتاً يسيراً، وكان خلالها مستغرقاً في سكوته. وقد سألته مرة: لقد كنت سابقاً مشغولاً بالأذكار والعبادات فلماذا أنت ساكت الآن؟ فأجاب: اشتغالي الآن أكثر من السابق، وأنا مشغول بالأذكار القلبية منذ استيقاظي صباحاً من النوم وحتى الليل.
ويحكي أحد تلامذته أيضاَ عمق ارتباط استاذه السيد الكشميري بالله تعالى قائلاً: كان قلبي يرغب جداً في معرفة كيفية ارتباطه مع الله سبحانه، وفي أحد المرات عندما كنت في زيارته أشار إلى قلبه وقال لي: ضع رأسك هنا فوضعت أذني على قلبه فسمعته يكرر كلمة دائماً، فقلت له: يا سيدنا هل ذكركم هي الكلمة الفلانية؟ فقال: نعم. وكان قلبه يردد تلك الكلمة كالساعة التي تعمل ليل نهار وتكرر دقاتها بانتظام. لقد كان ارتباطها بالله هكذا.
ويواصل القائمي حديثه قائلاً: لقد كان السيد الكشميري يتمتع بخاصية عجيبة في الذكر، فهو دائم الذكر على كل حال، وكانت له حالة عجيبة، ولم يكن يسمح لأي أحد بزيارته، وإذا ما أذن لشخص بالدخول فقد كان مشغولاً بذكر الله إلى درجة لا يدع له فرصة للحديث، وكان في أواخر حياته في حالة الذكر القلبي، وكثيراً ما يشعر الإنسان أنه يردد ذكر هو (هو الحي) ويقول عند جر أنفاسه (حي).
ويقول نجله السيد علي الكشميري: لم يكن والدي في هذا العالم، وحتى عندما كان يجلس معنا كنت أشعر أن نصف وجوده غائب عنا، وكانت عباداته قلبية، وكان يقول لي دائماً: القلب حرم الله فلا تسكن في حرم الله غير الله.
ولقد نافس السيد الكشميري استاذه السيد علي القاضي في هذه الخصلة، يقول أحد تلامذته: سمعت السيد الكشميري يقول: إن امتياز السيد القاضي هي أن قلبه كان في أعلى ولا ينزل إلى الأسفل. وهذه الحالة كانت محسوسة عند السيد الكشميري أيضاً، وكان سكوته سكوتاً ذكرياً وسكوتاً توجيهاً. ولقد اتفق كثيراً أن نجتمع عنده ست أو سبعة من الأصدقاء وينقل بعضهم كلاماً جميلاً لكي يؤثر فيه، ولكنه كان في حالة جذبة بحيث كان من الصعوبة أن ينزل إلى أسفل، وإذا ما نزل فأنه يريد أن يبين لنا أنه كان ملتفت إلى كلامنا لا أكثر، ولكنه كان مع ذلك مشغول، لقد كان باطناً مشغول بشكل كامل بذكر الله تعالى، وكان أحياناً ينظر إلينا ولكن كأنه لك يسمع أبداً الجزء المهم أو الحساس من الحديث الذي كنا نتحدث به، وكانت هذه إحدى الخصائص الملموسة فيه، وكثيراً ما اطلع الآخرون الذين كانوا معنا أيضاً على عمق توجهه، ولقد رأوه سابحاً دائما في أعلى وكانت آثار ذلك أيضاً واضحة بنحو جيد. لقد كان منصرفاً عن هذه الدنيا، وكأنه كان ينبغي أن يسحب إلى أسفل لكي يلتفت إلينا، وإذا كان فمه مفتوحاً علمنا أنه كان مشغولاً بذكر (لا إله إلا الله).
ويقول تلميذه السيد علي أكبر صداقت: ولقد كان المرحوم الأستاذ مجذوباً، وكان يرى العشق بذكر المحبوب أمراً مهما للغاية بنحو أن هذه الحالة الحالة لو حصلت للإنسان فإنه سيرفع يده عن كثير من الأمور، كما ورد في الزيارة الشعبانية: (إلهي وألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك).
وأما صلاته فهي صلاة العارفين التي تتجلى فيها أسمى مصاديق (الصلاة معراج المؤمن) فهي الرحلة اليومية المتكررة إلى الله تعالى والمثول بين يديه، ينتظر وقتها بفارغ الصبر، ويستعد لها استعداداً تاماً. يقول نجله الأكبر السيد محمود الكشميري: لقد كانت صلاته في البيت مناجاة، وخاصة أثناء القنوت الذي يستغرق أحياناً نصف ساعة، وكنت أشعر باللذة من صلاته مع أنني لم أكن في هذه العوالم.
ويقول الحاج صاحب عضد الله: كنت أتعجب من بعض الأمور عندما كان يصلي، لقد كانت صلاته محبوبة إلى قلبي، فمثلاً أنه يتأخر كثيراً في قراءة الحمد في بعض الأحيان، ويستغرق سجوده في أحيان أخرى وقتا طويلاً أيضاً. وقد سألته مرة عن علة ذلك فأجابني بأن هذه أمور غيبية ولا يستطيع البوح بها.
وعندما سئلت زوجته عن صلاته قالت: لقد كان مستغرقاً في صلاته إلى درجة كأنه يرى الله سبحانه، وكانت صلاته طويلة جداً وبحضور قلب.
ويقول أحد تلامذته: لقد كانت صلاته بحضور قلب بنحو كامل. ولقد رأيت تغير لون بشرته بعد الصلاة مرات عديدة، وتحصل له بعدها حالة معنوية عالية فيجلس ويتحدث مع الله سبحانه، وكان يؤكد على الصلاة في أول وقتها بحضور قلب ويقول: الصلاة تمنع من أمور أخرى.
وأما كيفية يفرغ الإنسان قلبه ليتوجه إلى الله سبحانه أثناء الصلاة فيجيب السيد الكشميري عن ذلك: إن الذهن البشري يجذب إليه مختلف المسائل بشكل سريع ويبدأ التفكير فيها بسرعة أيضاً، ولهذا فإن أفضل شيء للإنسان أن لا يكون لديه أي اشتغال فكري.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يبعد الإنسان عن نفسه أي اشتغال فكري؟ ويجيب السيد الكشميري: إن من مستحبات الصلاة هي أن يجلس المصلي قبل بدء الصلاة على سجاد الصلاة لأنه زائر الله. ومن أجل أن يكون المصلي متوجهاً في صلاته ومبتعداً عن اشتغالاته اليومية يستحب له أن يجلس قليلاً قبل بدء الصلاة ويفكر أنه في مقابل إله أبدي، كريم، عزيز، غفور، رحيم، جواد، واحد، وتر، أحد، صمد، وأنه يصلي له.
وأما عبادته وتهجده وصلاته في جوف الليالي فقد كانت مشهودة لذويه وبعض أصدقائه، يقول الحاج صاحب عضد الله: كنت أذهب معه في بعض الأحيان إلى مسجد الكوفة، فكان يبقى فيه مستيقظاً إلى الصباح يصلي ويتعبد، وأما نحن الذين كنا معه فيغشانا النعاس وننام فكان يقول لنا: ناموا أنتم أما أنا فسأنام غداً عند الظهر: وكان يتردد كثيراً على مسجد الكوفة ويتعبد فيه.
ويقول نجله السيد محمود: كان يصعد في الليل إلى سطح الدار ويتعبد هناك لكي لا نراه.
ويحكي أحد تلاميذه عن خصلة إحياء الليل عند السيد الكشميري قائلاً: لقد كان يستيقظ الشطر الأكبر من الليل، وكان يتلذذ من ظلام الليل، وأنا أعتقد أن مكاشفاته كانت في الليل.
وليس للسالك من سبيل لطي طريق العبودية لله سبحانه غير إحياء الليل، يقول الإمام العسكري عليه السلام: (إن الوصول إلى الله سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل).
وكان السيد الكشميري يقول: إن الاستيقاظ في السحر أفضل من الاستيقاظ بين الطلوعين لمن لا يقوى على الاستيقاظ فيهما معا.
ويقول أيضاً: إن إحياء الليل يوصل إلى المقام المحمود، والمقام المحمود هو جوار الله سبحانه.
وأما تلاوته للقرآن فهي أنسه بالله تعالى وكان يقول: إن أفضل ذكر للحق تعالى هو تلاوة القرآن الذي هو كلام الحق.
لقد كان مواظباً على تلاوة القرآن في داره باستمرار، كما كان لسانه يلهج بآياته وهو في الطريق من منزله إلى حرم أمير المؤمنين عليه السلام وبالعكس وكان يقرأ القرآن بصوت مرتفع، فكان أولاده يعرفون مجيئه إلى البيت بسماع صوت تلاوته. لقد كان من أهل القرآن وعلى معرفة كاملة بقواعد تلاوته، وإذا ما أخطأ أحد أمامه في قراءة آية نبهه إلى القراءة الصحيحة.
وعن مدى اهتمامه وعلاقته بالقرآن الكريم يقول أحد تلامذته: لم أر أحداً من أهل القرآن مثله، لقد كان اهتمامه به عجيباً وخاصة قبل إصابته بالجلطة القلبية حيث كان يختمه في كل ثلاثة أيام مرة. وعندما كان يقرأ القرآن تتغير لون بشر وجهه، وكان لديه قرآن كبير يفتحه أمامه ويقرأ فيه، فيشع وجهه كالقمر وهذا ما يدل على أنه كان في عالم آخر، لقد كان ذا علاقة عجيبة بالقرآن.
ويقول الحاج صاحب عضد الله: مما تعلمته من السيد الكشميري هو ختم القرآن مرة في كل خمسة عشر يوماً.
ونتيجة لتلاوته القرآن بتدبر فقد فتح الله تعالى له أبواب العلوم القرآنية الجديدة، يقول السيد صداقت نقلاً عن استاذه السيد الكشميري: حينما كنت في النجف مشغولاً ببعض الأذكار وردت على قلبي معان من القرآن غير موجودة في الكتب، ولكني لم أدونها لأنه لم يكن لي حال للكتابة.
ويقول أحد تلامذته: لقد كان يختم القرآن في شهر رمضان بل والأشهر التي تسبقه مرة في كل ثلاثة أيام، أي أنه يقرأ في كل يوم عشرة أجزاء، إضافة إلى أدائه الوظائف والأعمال الأخرى، وهذا خير وبركة في أوقاته حيث يستطيع أداء جميع تكاليفه وأعماله في وقت محدود. وعندما كنا نذهب إليه نجد القرآن مفتوحاً أمامه يقرأ فيه، وقد قال لنا مرة: إني أختم القرآن مرة في كل ثلاثة أيام.
وكان السيد الكشميري يوصي الكثير من أصدقائه ومحبيه بكثرة تلاوة القرآن، يقول السيد صداقت: وكان يوصي الكثير من الأشخاص الذي يراجعونه يلتمسون منه طريقاً لحل مشكلاتهم بقراءة القرآن، وفي يوم جاءه أحد أهل العلم وكان يعاني من مشكلة مع زوجته وطلب إرشاده إلى مخرج منها، فأوصاه السيد بتلاوة القرآن فقال ذلك الشخص: لم أقرأ القرآن منذ مدة طويلة.
وفاته: يفاجئ الموت الناس وهم غافلون، لاهية قلوبهم عن ذكر الله وعن ذكر الموت بينما أولياء الله يعلمون آجالهم وزمان وفاتهم فيستعدون للرحيل كما مما حكاه السيد الكشميري عن الشيخ الطالقاني والسيد القاضي، وما حكاه أيضاً عن الشيخ محمد باقر القاموسي البغدادي قال: كان من العلماء والزهاد والعرفاء العرب، وكان كالسيد القاضي، وكان يقتدي به الأتقياء والأبرار، وهو من تلاميذ الملا حسين قلي الهمداني والشيخ محمد طه، وكان آية الله محسن الحكيم من تلاميذه، لم يضع العمامة على رأسه إلى حين وفاته، وكان في أحد الأيام جالساً فقال: من الأفضل أن أرحل من هذه الدنيا، وبدأ بتلاوة سورة يس وعندما وصل إلى قوله تعالى (وجعلني من المكرمين) سلم روحه إلى بارئها.
وكان يتمنى الموت وهي العلامة التي ذكرها القرآن الكريم للتمييز بين الأولياء والأدعياء، يقول تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (6-7) سورة الجمعة.
يقول أحد تلامذته: سألته مرة: هل تعرف أحداً يتمنى الموت، فإن هذا الأمر صعب جداً للكثيرين.
فقال: نعم وسكت هنيهة ثم قال: أنا. فقلت له: هل رأيت مكانك في الجنة وأقسم لك بحق أمير المؤمنين بأني لا أخبر أحداً بذلك؟ فقال: مكان مريح والحمد لله.
وكان السيد الكشميري عاشقاً للنجف الأشرف ويتمنى الرجوع إليها وأن يدفن في جوار ضريح جداه أمير المؤمنين عليه السلام. ولكنه في أواخر عمره كان يذكر قم وحرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السلام ويقول: إذا مت فادفنوني في حرم السيد معصومة.
وكان في سنوات عمره الأخيرة يذكر الموت كثيراً ويردد أحياناً ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام على كفن سلمان المحمدي:
وفدت على الكريم بغير زاد ………. من الحسنات والقلب السليم
وعندما عاده أحد العلماء العرفاء قال: إن روحه لها سيطرة كاملة على جميع هذه المنطقة.
وكان يقول: الموت أمامي ولا مزاح فيه. وكان جوابه إذا سئل كيف حالكم يقول: في حال النزع. وقال لأحد تلاميذه مرة: رأيت السيد هاشم الحداد في عالم الرؤيا وهو يقول لي: لماذا أنت مغموم إن الفرج قريب! وكان يقول أيضاً: لقد ذهب الجميع وكان آخرهم السيد هاشم الحداد.
وكان بعض من يتردد إليه قد اقترح عليه أن يكتب رسالة علمية في الأحكام الشرعية كما فعل كثير من العلماء، فكان جوابه: الموت أمامي، ثم يتلو قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) سورة الأنبياء.
ومنذ مجيء السيد الكشميري إلى إيران تدهورت صحته بعد إصابته بجلطة دغامية في أوائل سكناه في قم، وفي أواخر حياته أصيب عدة مرات بالجلطة كان آخرها في شهر رمضان سنة 1419هـ نقل على أثرها إلى مستشفى شركة النفط بطهران حيث بقي فيها ما يقارب ثلاثة أشهر وهو في حالة الإغماء، ويئس الأطباء من علاجه.
يقول أحد تلامذة السيد الكشميري: عندما كان آية الله السيد الكشميري يرقد في مستشفى القلب بذكر الدكتور النوحي جهوداً كبيرة في علاجه. وقد قال السيد الكشميري مرة: إن له حق كبير في ذمتي. وقد توطدت العلاقة بينهما وتعلق الدكتور النوحي به كثيراً. وعندما كان السيد الكشميري راقداً في مستشفى شركة النفط عاده الدكتور النوحي مرات عديدة، وعند انعقاد مجلس الفاتحة على روحه الطاهرة كان الدكتور النوحي قد عاد تواً من مكة المكرمة، وهو إنسان صادق جداً ومؤمن ومتدين، وليس من أهل المبالغة أبداً. يقول الدكتور النوحي: في إحدى الليالي التي كنت أطوف فيها في المسجد الحرام رأيت السيد الكشميري جالساً على كرسي متحرك وهو يطوف أيضاً، فقلت في نفسي: أذهب إلى الأمام قليلاً لأسلم عليه وأهنئه على سلامته وصحته ومجيئه إلى الحج، وكان هذا في الأيام التي كان يرقد فيها في المستشفى، ولم يخطر في ذهني أبداً أن هذا أمر غير عادي، وظننت أن صحته قد تحسنت وجاء إلى الحج، وحاولت التقدم نحوه ولكني قلت في نفسي: من المؤسف أنني في حال الطواف، وهو في حال الطواف أيضاً، وأني لو سلمت عليه سأسلب منه توجهه واستغراقه في طوافه، وبقيت ماشياً إلى جانبه إلي أن أنهيت طواف سبعة أشواط فرجعت والتفت فلم أجد السيد الكشميري، فبحثت عنه كثيراً هنا وهناك ولكن دون جدوى، ولقد حدث كل ذلك وهو ما زال راقداً في المستشفى مغمى عليه.
ورجعت نفس المطمئنة إلى بارئها راضية مرضية في يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة 1419هـ عن عمر ناهز الأربعة والسبعين عاماً، وشيعت جنازته في قم وصلى عليه الشيخ بهجت ودفن في حرم السيدة المعصومة عليها السلام جوار قبر التلميذ الآخر للسيد القاضي العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب الميزان.
We use cookies to ensure that we give you the best experience on our website. If you continue to use this site we will assume that you are happy with it.Ok