ينقل مطّلعون في أروقة صناعة القرار السعودي أنَّ لدى المملكة قناعة بضرورة الانتقال من مرحلة وضع المصالح السعودية كلّها في السلة الأميركية.
يبدو لافتاً اهتمام المملكة العربية السعودية بالتشبيك مع الصين مؤخراً، وهو اهتمام بدا أكثر بروزاً بعد تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصب الرئاسة الأميركية، وما رافقه من مواقف ضاغطة على المملكة في ما يتعلَّق بملف حقوق الإنسان ومقتل الصّحافي جمال خاشقجي.
وبينما كانت واشنطن آنذاك تصعد لهجتها إزاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، استدار الأخير لفتح قنوات اتصال مع روسيا، وتوطيد العلاقة مع بكين، تحت عنوان تعزيز الترابط الاستراتيجي؛ ترابط يزيد من وتيرته سعي واشنطن لتخفيف التوتر مع إيران، والاقتراب من إحياء الاتفاق النووي، وهو الملف الذي يسبّب صداعاً بلا مسكن للرياض، والذي فاقمه قيام واشنطن بخفض عدد جنودها وأنظمتها الدفاعية الجوية في السعودية ودول الخليج، بما في ذلك بطاريات صواريخ “باتريوت” وأنظمة “ثاد” المضادة للصواريخ، فهل تستدير المملكة شرقاً نحو الصين أم أنها تساوم الغرب؟ ما هي مقومات هذا التشبيك؟ وهل يرقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي؟ وأخيراً، هل تتخلّى الرياض عن تحالفها التقليدي مع واشنطن؟
في هذا الصّدد، تقول الأوساط السعودية إن المملكة السعودية تتمسَّك بتحالفها العميق مع واشنطن، على الرغم من عدم ارتياحها للسياسية الأميركية “الساعية إلى تطبيع العلاقة مع إيران”، مع البحث عن خيارات أخرى تضمن أمنها الاستراتيجي ومصالحها الاقتصادية، والعين على “التنين” الصيني الَّذي يشهد صعوداً اقتصادياً وسياسياً في منطقة الشرق الأوسط.
وكما ينقل المطّلعون في أروقة صناعة القرار السعودي، فإنَّ لدى المملكة قناعة بضرورة التغير والانتقال من مرحلة ربط المصالح السعودية بواشنطن أو بشكل أدق وضع المصالح السعودية كلّها في السلة الأميركية إلى تشبيك العلاقات الدولية، نظراً إلى المتغيرات العالمية التي لم تعد فيها واشنطن اللاعب الأوحد والأقوى في الساحة الدولية.
المفتاح بالنسبة إلى المملكة هو التحول إلى بوابة رئيسية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”. هذا ما قاله ولي العهد السعودي خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، مؤكداً أن بلاده مستعدة لتعزيز الترابط الاستراتيجي بين رؤية المملكة 2030، الهادفة إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، ومبادرة “الحزام والطريق”، المعنية بالتجارة والبنية التحتية.
وانطلاقاً من المعطيات، تطمح المملكة إلى دور فاعل ورئيسي في إحياء طريق الحرير الصيني؛ فعلى المستوى الاقتصادي، تعتبر السعودية الشريك الأول للصين في المنطقة، بحجم تبادل تجاري بينهما يصل إلى 70 مليار دولار، ومن المتوقّع أن يصل إلى 100 مليار دولار. كما كانت الرياض أكبر مصدر للنفط قبل أن تخسر موقعها لمصلحة روسيا، وبعدها العراق، إذ كانت تؤمّن ما يعادل ثلث احتياجات بكين من النفط، وما زالت تطمح إلى استعادة مكانها.
وبعد إعلان الأمير محمد بن سلمان أنّ شركة “أرامكو” السعودية، وهي شركة النفط الأكبر في العالم، تفكّر في بيع حصة بنسبة 1%، أي ما يعادل 19 مليار دولار من قيمتها السوقية، لمستثمر أجنبي رئيسيّ، يدور الحديث عن أن هذا المستثمر هو الصين.
تتحرَّك السعودية أيضاً خارج الجغرافيا الخليجية في التشبيك مع الصين، عبر التوقيع على اتفاقيات استثمارية تبلغ قيمتها 20 مليار دولار مع باكستان ضمن الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، بإقامة مدينة نفطية في جوادرو.
أما على المستوى الجيوسياسي، فتمثل منطقة البحر الأحمر أحد أهم الممرات الاستراتيجية للمشروع الصيني، ما دفع المملكة إلى تدشين 3 مشاريع اقتصادية ضخمة، وعلى رأسها مدينة نيوم ومدينة البحر الأحمر، ناهيك بإنشاء مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، والذي يضم كلاً من السعودية ومصر والأردن واليمن والصومال وأرتيريا وجيبوتي، التي أُنشِئَت على أراضيها قاعدة عسكرية سعودية، في خطوة يمكن قراءتها في إطار محاولة المملكة محاكاة الطموح الصيني في تلك المنطقة، لتأمين ممرات التجارية الدولية وحماية البضائع الصينية.
التشبيك الاقتصادي والجيوسياسي يجعل المملكة في مواجهة تحدّي التوازنات، فبينما يرى الغرب أنّ مبادرة “الحزام والطريق” هي مشروع لإسقاط الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط بالقوّة الناعمة، تسعى الرياض للتحوّل إلى بوابة ضمن 56 دولة يمرّ عبرها طريق الحرير.
ثمة قلق غربي لا يمكن القفز عليه، بدا بارزاً خلال اجتماع الدول السبع الأخير الَّذي دار حول تحدّي صعود النفوذ الصّيني في جميع أنحاء العالم، وكيفية التصدي لمبادرة “الحزام والطريق”، ولكن لا يبدو أنَّ المملكة تحاكي هذا القلق، بل إنّها تغرد خارج السرب الغربي هذه المرة.
وكذلك الأمر مع أبو ظبي، إذ نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالاً عن القلق الأميركي من تنامي العلاقات الصينية الإماراتية، ما قد يؤثر في إتمام صفقة “أف – 35″، فهل يعدّ تحول المملكة تحولاً للخليج؟! كيف سيكون المشهد السعودي والخليجي أمام انقسام عالمي تكون فيه الصّين مقابل الدول السبع الكبرى؟ وكيف ستوازن الرياض بين تلك المتناقضات؟ هل تحقّق أقصى إفادة أو يتحوَّل المشهد إلى مأزق في خضمّ صراع الفيلة؟
ربما لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة في المدى القريب، ولكن يبدو واضحاً هنا أن السعودية تسعى لترتيبات سياسيّة ودبلوماسيّة جديدة بالشّراكة مع الصين، بغض النظر عن السياسية الغربية. قد لا ترقى هذه الترتيبات حتى الآن إلى مستوى الاستدارة والتحالف، ولكنها حتماً أكبر من تشبيك اقتصادي.