كيف أضحت منظمة التحرير من دون مشروع تحرير؟ وكيف نعيد إليها مشروع التحرير؟ وفي حال تعذّر ذلك، كيف نحرر مشروع التحرر منها؟!
بدأت منظَّمة التحرير الفلسطينية كمشروع تحريرٍ وطني ومنظمةٍ ثوريةٍ مقاتلةٍ، تتخذ الحرب الشعبية طويلة الأمد أسلوباً، وتتبنّى الكفاح المسلّح وسيلةً، وتحرير كلّ فلسطين هدفاً، فوحّدت الشعب الفلسطيني، وعبّرت عن حقوقه وأهدافه، وأبرزت بالمقاومة هُويته الوطنية، وقادها شبّانٌ مبدعون ثوريون… وانتهت مشروع سلطةٍ وطنيةٍ، ومنظمةً سلمّيةً مهادنةً، تتخذ المفاوضات المباشرة الطويلة الأمد أسلوباً، وتتبنى العمل السياسي وسيلةً، وإقامة الدولة على جزءٍ من فلسطين هدفاً، ففرّقت الشعب الفلسطيني، وتخلَّت عن حقوقه وأهدافه، وميّعت بالمساومة هُويته الوطنية، وانتهت قيادتها إلى شيّابٍ هرمين متخاذلين، استبدلوا بالتحرير الدولة، ثم قايضوا الدولة بالسلطة، وحوّلوا السلطة إلى حوتٍ كبيرٍ ابتلع منظمة التحرير، فنبذها عاريةً من مشروع التحرير، حتى أصبحت في العراء من دون مشروعٍ للتحرير. فكيف أضحت منظمة التحرير من دون مشروع تحرير؟ وكيف نعيد إليها مشروع التحرير؟ وفي حال تعذّر ذلك، كيف نحرر مشروع التحرر منها؟!
شكَّلت منظّمة التحرير الفلسطينية مشروعاً تحررياً وطنياً، وجبهةً وطنيةً واسعةً، وإطاراً وطنياً معبّراً عن الهوية الوطنية والقومية والدينية للشعب الفلسطيني، ومؤسسةً سياسيةً ممثلةً للشعب الفلسطيني، تحمل أهدافه، وتطالب بحقوقه، وتوحّد صفوفه، وتنظّم كفاحه.
عندما كانت المنظمة كلّ ذلك، اكتسبت من شرعيتها الثورية الشرعية الشعبية، وانتزعت بشرعيتها الشعبية الشرعية العربية، فالدولية، فاعترف العالم بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. فكمن في باطن هذا الخير الشرّ، باعتراف المنظمة بالشرعية الدولية، كثمن باهظ لاعتراف العالم بها؛ تلك الشرعية القائمة على الاعتراف بـ”دولة إسرائيل” على معظم أرض فلسطين، ما يعني تحوّلاً في الفكر السياسي الفلسطيني للقبول بفكرة تقاسم فلسطين بين العرب واليهود، تبعه قبول المنظمة بتقاسم الأرض بين مالكها وسارقها، قبولاً تدحرج مع الزمن العربي الرديء والتراجع الفلسطيني البطيء إلى الاعتراف بـ”دولة إسرائيل”، مقابل اعترافها بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني، وإقامة سلطةٍ تحت الاحتلال، والوعد الوهمي بتحويل السلطة إلى دولةٍ منزوعة السلاح والسيادة والكرامة، من دون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية على أرضه ووطنه.
كان هوس الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني مستحوذاً على قيادة المنظمة، إلى درجة التضحية بمشروع التحرير الكامل مقابل هذا الاعتراف، وكان الفكر السياسي الفلسطيني حاضراً لتبرير الانهزامية باسم الواقعية، ولتسويغ الانتهازية بغطاء العقلانية، ولتمرير الانبطاحية بفلسفة المرحلية… فكان ذلك الهوس بالاعتراف بداية الانحراف وأوَّل الاعوجاج، فبدأ صغيراً في البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر في العام 1974م، وانتهى كبيراً بعد عشرين عاماً، بإقامة السلطة الفلسطينية في العام 1994م، فقد مهّد البرنامج المرحلي فكرياً وسياسياً لإقامة السلطة الفلسطينية مع فارق التوقيت الزمني والمضمون السياسي، إذ نصّ البرنامج المرحليّ على “إقامة سلطة الشّعب الوطنيّة المستقلّة المقاتلة على كلّ جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”، والسلطة في اتفاقية “أوسلو” أُقيمت تحت الاحتلال، وليست على أرضٍ محررةٍ، وأقيمت لتكون سلطة النخبة غير الشعبية والمنزوعة من الدسم الوطني، ومن دون استقلال وقتال، علاوةً على التنسيق الأمني والشراكة الاقتصادية مع الاحتلال والقمع الأمني والإقصاء السياسي للمقاومة.
اعترفت المنظّمة بـ”دولة إسرائيل”، واعترفت الأخيرة بها من دون دولةٍ، ولم تنجز المنظمة مشروعها الوطني بحده الأدنى – دولة مستقلة في الضفة والقطاع – فبعد السّلطة، لم تنقلنا إلى الدولة، ولم تعدنا إلى الثورة، وهي لم تطَل إنجاز التحرير، ولم تنَل الحفاظ على ديمومة الثورة. والأكثر سوءاً من ذلك أنها انفصلت تدريجياً عن مشروع تحرير فلسطين بقيادة فريق “أوسلو” الذي سيطر على المنظمة، فلم تعد تمثّل الشعب الفلسطيني تمثيلاً حقيقياً، وخصوصاً أنّ قوى فلسطينية وازنة ما زالت خارجها.
وبعد “أوسلو”، تجاهلت فلسطينيي الخارج، واستبعدت فلسطينيي الداخل. وبعد الانقسام، فرّقت بين شطري الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع. وانتهى الأمر بهذا الفريق بأن أخرج المنظَّمة من دائرة الصّراع المسلّح مع الاحتلال، من دون أن يفسح المجال لها لتشارك فصائل المقاومة في غزة قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المسلّحة، في جولات قتالٍ متتاليةٍ آخرها معركة “سيف القدس”، التي فرضت تحولاتٍ استراتيجية لمصلحة مشروع التحرير.
مشروع التّحرير بعد معركة “سيف القدس” شهد تحوّلاً مهماً، ولا ينبغي له أن يرهن مشروع التحرير بمنظمة التحرير الفلسطينية وجوداً أو عدماً، ولا ينبغي له أن يظلّ رهينةً لفريقٍ رهن القضية الفلسطينية ونفسه لفكرٍ سياسيٍ عقيم، ومشروعٍ سياسيٍ فاشل، ومصلحةٍ نخبويةٍ ضيقة. فمشروع التحرير بقيادة المنظَّمة لا يمكن أن يستأنف إلا إذا عادت المنظّمة لتكون بيتاً للكل الفلسطيني، ونهجاً للصمود والمقاومة، وطريقاً للتحرير والعودة، وقائدةً للمشروع الوطني بنسخته الأصلية، قبل أن تفسده عوامل التعرية الثورية وتشوّهه عوامل التآكل الوطني، ونهجاً للصمود والمقاومة، وطريقاً للتحرير والعودة والاستقلال، وقائدةً لمشروع التحرير الوطني بنسخته الأصليّة.
وقد تعذّر ذلك بسبب إصرار فريق “أوسلو” على أداء دور البطولة، بعد أن فقدوا لياقتهم الوطنية، وأصروا على إعطاء أدوار “الكومبارس” لمقاومي شعبهم. وبناء على ذلك، لا مناص من إعادة إنتاج مشروع التحرير وإخراجه، بإبعادهم عن أداء دور البطولة، لتحرير مشروع التحرير من سجن “أوسلو” ومسار التسوية وملهاة بناء نظام سياسي سقفه الاحتلال.
إنّ تحرير مشروع التّحرير من فريق “أوسلو” المهيمن على السلطة والمنظمة هو الخلاص من الدوران في الدائرة المفرغة التي تدور في فلكها الفصائل بطريقة لا نهائية، وهو ما يتطلَّب التحرر من تقديس الأطر والمسمّيات، والتركيز على المضامين والأهداف، فلا قيمة ولا تقديس للأطر الوطنية والمسمّيات السياسية إذا فرغت من مضامينها الثورية وأهدافها التحررية، فالأهمية تكمن في تقديس مضامينها ومسمياتها، وخصوصاً أنّ الشعب الفلسطيني أفرز قبل المنظمة العديد من الأطر الوطنية التي مثّلته، أهمها المؤتمر العربي الفلسطيني بين العامين 1919-1928م، واللجنة العربية العليا بين العامين 1936- 1946م، والهيئة العليا بين العامين 1946 – 1948م، وحكومة عموم فلسطين في العام 1948م، فلم يتوقّف الشعب الفلسطيني عند الأطر والمسمّيات، بل اهتمّ بالمضمون والأهداف.
المضمون والأهداف في الحالة الفلسطينية يتم تحقيقها بالاستناد إلى جبهة وطنية مقاومة وحركة تحرير وطني، تضم كلّ من يؤمن بمشروع التحرير والمقاومة من فصائل المنظمة وغيرها، بمن فيهم ثوار حركة “فتح” وأحرارها، وفصائل المقاومة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية، وفي مقدمتها حركتا “حماس” و”الجهاد”، على أساس الميثاق الوطني الفلسطيني الأصلي، وركيزتي الصمود والمقاومة، ووحدة فلسطين، الأرض والشعب والقضية، وأهداف التحرير والعودة والاستقلال، والعمق العربي والإسلامي، وفي طليعته محور المقاومة وكل من يدعم مشروع التحرير المقاوم.
رحم الله الشّهيد صلاح خلف (أبو إياد) عندما كتب في ختام كتابه “فلسطيني بلا هوية” مستشرفاً المستقبل، بعد أن وضع فرضية نجاح القوى الرجعية الجاهلية – بحسب تعبيره – في إجهاض الثورة بقيادة المنظمة:
“إنّ شعبنا سيلد ثورةً جديدة… فإرادة الفلسطينيين التي لا تردّ في مواصلة المعركة، مهما كانت الظروف، هي حقيقة لا تأتيها الريبة من بين يديها ولا من خلفها، بل إنّها إرادة تمليها طبيعة الأشياء، ونحن عازمون على البقاء كشعبٍ، وسيكون لنا ذات يومٍ وطن”.