ليلى عماشا
يتغيّر الزمن، ومعه تتغيّر الكثير من المفاهيم الاجتماعية والسياسية، تنمو، تتطوّر، تتبدّل أو تضمحل. إلّا أنّ عبارة “هيهات منّا الذلّة” التي تختزن هذا القدر من المفاهيم الثابتة والأزلية كالثورة والتمسّك بالحقّ والصبر والتضحية، وككلّ ما حوت الثورة الحسينية من معانٍ إنسانية واجتماعية وسياسية، لا تتبدّل ولا تتغيّر.
منذ احتدام الأزمة المعيشية في لبنان، والعبارة الثورية الخالدة تتردّد في كلّ يوم وفي كلّ مناسبة وفي كلّ تحليل وتنظير سياسي أو اجتماعي. للوهلة الأولى يسرّك أن تسمع العبارة الأحبّ إلى الروح، بل رافعة الروح، من أصوات لم تقارب يومًا الإرث الحسينيّ الثوريّ. تُسرّ لأجلهم على اعتبار أنّهم تمكنوا من حفظ وفهم العبارة الأعمق والأوضح في رسم الحدّ بين الحق والباطل، بين الثورة والخضوع، وبين الصبر والاستسلام. دقائق قليلة تفضح سوء الفهم المزري الذي استحكم في عقول بعض الأصوات التي تردّد العبارة وتقودك إلى المزحة المدرسية: “حافظ مش فاهم”، وإلى شيء من الإشفاق على من مكّنه البصر من قراءة “هيهات مِنّا الذّلة”، ومكّنته نعمة النطق من قولها، لكنّه حُرم نعمة فهم المضمون البسيط والواضح والعميق والعالي في آن لعبارة ما زال الزمان يحمل صداها وينثر منها في كلّ كربلاء، في كلّ أرض قُدّر لها أن تحمل معركة يحضر فيها الحقّ كله ضدّ الباطل كلّه.
أرضنا أرض معركة يخوضها الحق منذ سنين، والحقّ لا يتعب ولا أرضه تملّ ولا ناسه يتخلّون عن “هيهات منّا الذلّة” أو يقايضونها مقابل استعادة حقوق عزيزة سُلبت أو أمور أتعبهم حبسها عنهم؛ فأبناء “هيهات منّا الذلّة” الأولى ما دفعهم العطش الحارق ولا الحصار ولا القتل اللئيم إلى التخلّي عن نصرة الحقّ وعن ركب الثورة التي وإن قلّ عديدها لم تزل قافلة تمضي إلى الأبد، وتسبق الزمان إلى مستقرّه السماويّ.
في أرضنا، استخدم العدوّ كل أسلحته المادية والمعنوية لأجل سلبنا نحن أهل الأرض حقّنا. ومن ضمن هذه الأسلحة أدوات ناطقة محليّة تستحيل بلحظة خنجرًا مسلّطًا على رقاب عيالنا، وبلحظة أخرى لسانًا ينطق كذبًا وتضليلًا وافتراءً وأذىً.
ولأن كلّ أرض تقاتل هي كربلاء، ولأن مهما تعدّدت أسماء العدو وأدواته وأساليبه لا يتغيّر معنى الذِلة التي هيهات أن نختارها ولو عطاشى.
ما الذلّة؟ لعلّ أبسط معانيها هو الخضوع للظالم، مهما استخدم الظالم من أسلحة لإخضاع من يقاومونه. وهنا تختلف الذلّة عن الإذلال، فالذلّة غاية العدو أمّا الإذلال فوسيلته. ولهذا، وصف الوضع المعيشي في لبنان حاليًا بكونه سلسلة مترابطة من الإذلال الذي يُراد له أن يقود الناس مرغمين إلى الذلّة.
وهنا، لا يمكن توصيف من يرفضون الذلّة حقًا بأنّهم غير جديرين بقولهم “هيهات منّا الذلّة” عبر أدلة تحوي الإذلال الذي يتعرّض له الناس بشكل يومي ويطاول لقمة عيشهم وكلّ سبل بقائهم.
صحيح أنّ الوقوف في طوابير يحكمها جشع المحتكرين من تجار الوقود ذلّ، والبحث عن الأدوية المفقودة بكل أنواعها والعجز عن تأمينها رغم تواجدها في دهاليز الاحتكار والاستثمار بأوجاع الناس ذلّ، وعجز العائلات عن تأمين أدنى مقوّمات الحياة الكريمة ذلّ، وغيرها مئات من المشاهد الحقيقية التي تتوخى إذلال الناس وتطويعهم وتحريضهم ضد فئة ما ارتضت الذلّة ولن ترتضيها تحت أي شكل من أشكال الضغط، لا سيّما وأنّ هذه الفئة هي الجهة الوحيدة التي تسعى إلى تحرير لبنان، الدولة والناس، من الحبل الأميركي الذي يربط اقتصاد البلد ومعيشة أهله بالرضا الأميركي وباستخدام أدوات “محليّة” تشكّل منظومة متكاملة ومترابطة فيما بينها، وربما تشكّل رأس حربة الأميركي في مواجهة من قالوا منذ ١٩٨٢ “هيهات مِنّا الذلّة” فكانت سرّ انتصاراتهم مما قبل أيار ٢٠٠٠ إلى ما بعد بعد أزمة ٢٠٢١.
بلغة السياسة اليومية، ليس حزب الله من يرضى بالذلّ الذي يتعرّض له النّاس وبمختلف الأشكال وما الحلول التي يطرحها إلّا الدليل الأشد سطوعًا على مساعيه لرفع هذا الذلّ عن كلّ من يتعرضون له دون المساومة لحظة على القبول بالذلّة، ومع الإصرار على بذل كلّ ما يمكن بذله في هذا الإطار، إلى حدّ حديث العزيز السيد حسن نصر الله عن الاستعداد لبذل ماء الوجه في سبيل حفظ الناس. هذه الجملة التي حفرت في قلوب الشرفاء جرحًا ودمعًا صدرت عن الجهة التي لم تشترك في صناعة الذلّ، وبذلت دمًا وأرواحًا في سبيل ردّه فأتى متسلّلًا عبر خنادق حُفرت على مدى سنوات طوال من مراكمة الارتهان الاقتصادي للأميركي، فما كان منها إلّا أن تحرّكت بكل ما أمكنها لمقاومته ولردّ خناجره عن الناس، سواء بالأعمال التكافلية الفردية أو بطرح العروض الاقتصادية الكفيلة بتحرير الاقتصاد والناس.
قوم “هيهات مِنّا الذلّة” بذلوا كلّ ما يمكن بذله وأكثر مع الحرص على عدم استفزاز مكوّنات التركيبة اللبنانية، بل ومن بدون أي محاولة استثمار في الأزمة. عرضوا كلّ ما يمكنهم عرضه من سبل التعاون الضروري مرحليًا من أجل الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة، أو على الأقل بحدّ للخسائر بشكل يوقف استمرارها وتراكمها. هم قوم يؤلمهم إذلال الناس ولا يقودهم إلى الذلّة التي لا يرضونها للناس قبل أنفسهم. وربّما، من هوان الدنيا على الله أن بات صُناع الذُلّ وأهل الجهل يتهمون أهل الإيثار والكرامة بالذلّة، حتى بدا للناظر أن القوم الحاقدين الخاضعين قد اجتمعوا ليحاضروا بأهل العزّة والثورة حول معاني “هيهات مِنّا الذّلة”.
لا يُعاب الزمان، ولا أهل الحق في كلّ زمان يُعابون، وما العيب إلّا في الأصوات التي ردّدت ما لا تفهمه وأوردته في خطاباتها شعارَ “حق” يُراد به كلّ الباطل.