بغداد – عادل الجبوري
خلال أسبوع واحد فقط، اتخذت الولايات المتحدة الاميركية خطوات تصعيدية ضد محور المقاومة والحشد الشعبي في العراق، بدا من خلالها كما لو انها تسعى الى تهيئة الاجواء والارضيات لتصعيد جديد، وخلط الاوراق، بعد ان لاحت في الافق بوادر لرغبات في التهدئة في مجمل الفضاء الاقليمي.
فبعد أقل من أسبوع واحد على إقدام وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة التجارة الأميركية، على اغلاق مجموعة من المواقع الالكترونية التابعة لعدد من القنوات ووكالات الانباء العراقية والايرانية واليمنية والبحرينية والفلسطينية، قصفت طائرات اميركية مقاتلة فجر الثامن والعشرين من الشهر الجاري، مواقع تابعة للواء الرابع عشر للحشد الشعبي بمنطقة القائم على الحدود العراقية-السورية، ادت الى استشهاد واصابة عدد من مقاتلي الحشد.
وزارة الحرب الاميركية (البنتاغون)، أعلنت في بيان لها، تفاصيل العملية الاخيرة ضد الحشد، مدعية أنها استهدفت مواقع انطلقت منها صواريخ وطائرات مسيّرة (Drone)، قصفت قبل بضعة ايام قواعد عسكرية تتواجد فيها قوات أميركية تعمل تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة الارهاب.
وبما أن الاشارة الى ايران وردت أكثر من مرة في بيان وزارة الحرب الأميركية، فمن الواضح جدًا، أن واشنطن وضعت طهران في دائرة الاستهداف العسكري، مثلما وضعتها في دائرة الاستهداف الاعلامي، حينما أقدمت على اغلاق مواقع الكترونية على شبكة الانترنت تابعة لوسائل اعلام تنظوي تحت مظلة اتحاد الاذاعات والتلفزيونات الاسلامية، الذي كانت واشنطن في وقت سابق قد ادرجته ضمن قائمة الجهات والشخصيات المشمولة بعقوباتها. وفي نطاق اوسع واطار اشمل، فإن المستهدف الاول والاخير هو محور المقاومة، الذي تقوده ايران، والحشد الشعبي يعد جزءا اساسيا منه.
صحيح ان واشنطن، تحاول تشديد الضغط على طهران الى أقصى قدر ممكن، لارغامها على تقديم تنازلات وابداء مرونة فيما يتعلق بالموقف من ملف برنامجها النووي في سياق المفاوضات الجارية حاليا في العاصمة النمساوية فيينا، الا ان هناك اهدافا ابعد، تتمثل بإعادة رسم خرائط المنطقة وترتيب أوراقها بما يخدم ويضمن المصالح الأميركية والاسرائيلية بالدرجة الأساس، ويضعف ويهمش أي معارضة لذلك التوجه، والا لماذا تصر واشنطن على البقاء في العراق، رغم وجود إرادة شعبية وسياسية ومرجعية بإنهاء التواجد الأجنبي على أرض البلاد، وقد تجلى ذلك واضحًا، عبر خطب وبيانات المرجعية الدينية، والتظاهرات الاحتجاجية الشعبية الواسعة، وقرار مجلس النواب الصادر بعد اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الحاج ابو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الحاج قاسم سليماني مطلع العام الماضي قرب مطار بغداد بواسطة طائرات اميركية مسيّرة؟
وبينما كان من المفترض أن تستجيب واشنطن وتعيد النظر بتواجدها في العراق وسياساتها تجاهه، تمادت وأبدت إصرارا أكبر على بقاء الاحتلال واستمرار العدوان على العراق. ولعل أقصى ما فعلته هو اعادة انتشار وتوزيع لقواتها، وسحب جزء صغير منها الى قواعد خارج العراق، وأخطأ كثيرًا من تصور أن مغادرة المتهور والعدواني دونالد ترامب للبيت الابيض، ستساهم في حلحلة المشاكل والازمات، واتضح ذلك الخطأ جليا، عبر الاوامر المباشرة التي أصدرها الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن لقواته بقصف مواقع الحشد الشعبي العراقي، كما حصل في عهد ترامب مرات عديدة.
وهذه المرة، ربما كانت الرسالة العراقية الرافضة للانتهاكات الأميركية والتجاوز على السيادة الوطنية، أقوى وأبلغ، لأنها جاءت عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية، ومن خلال المنابر السياسية والاعلامية والجماهيرية. والتشييع الحاشد للشهداء الذين سقطوا جراء القصف الاميركي الأخير، مؤشر ودليل على ذلك، فضلًا عن الرسائل التي أطلقها الاستعراض العسكري للحشد بمناسبة الذكرى السنوية السابعة لتأسيسه.
إن فهم وإدراك حقيقة وجوهر المواقف والسياسات والتوجهات الأميركية حيال العراق والمنطقة، لم يعد أمرًا صعبًا وعسيرًا، في ظل ما تقوم به واشنطن على الارض، وما يطرح من أفكار ورؤى وسيناريوهات داخل أروقة مراكز التفكير ودوائر صنع القرار ورسم السياسات الاستراتيجية. ففي تقرير مفصل صدر مؤخرًا، يطرح السفير الأميركي السابق في العراق ورئيس معهد دول الخليج العربية للدراسات في العاصمة الأميركية واشنطن دوغلاس سيليمان، استراتيجية خطيرة للغاية من أجل إخضاع العراق للولايات المتحدة الاميركية لضمان استمرار نفوذها وهيمنتها على المنطقة، حيث يؤكد السفير أنه بعد خروج إيران من دائرة النفوذ والهيمنة الأميركية حينما انتصرت الثورة الإسلامية قبل أكثر من أربعة عقود، لم يبق من الدول الإسلامية الكبيرة والمهمة غير السعودية حليفة مضمونة لواشنطن، لذلك لا بد من جر العراق إليها حتى تتوازن معادلات القوة لصالحها.
ويرى السفير السابق في العراق، أن تحقيق هذا الهدف، يتطلب عدة أمور، من بينها تدمير الدين، والقضاء على مذهب التشيع بالخصوص، وإشاعة ثقافة التحلل والانحراف، وتسقيط المرجعية الدينية وانهاؤها عبر استهداف وتصفية المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، وكذلك القضاء على الحشد الشعبي أو إضعافه وتحجيم دوره في أدنى التقادير، وكل ذلك يستتبع تلقائيا إضعاف الأحزاب والقوى السياسية الاسلامية، وتحديدا ذات الهوية الشيعية التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ويقترح السفير سيليمان تقوية الأكراد والسنة وبعض الأطراف الشيعية القريبة من واشنطن، وتوظيف الأدوار والامكانيات السعودية والإماراتية والإسرائيلية للوصول إلى تلك الأهداف.
ربما لا يبدو أن هناك شيئا جديدا، وأن ما تم الحديث عنه من قبل السفير الأميركي السابق، معروف للكثيرين، ولكن الأمر المختلف، يتمثل في طرح الأمور بصراحة كبيرة وجرأة متناهية، ومن خلال مؤسسة بحثية تعنى بشؤون الخليج والمنطقة، لكنها تعد واحدة من بين مراكز التفكير وصنع السياسات الاستراتيجية الاميركية، وهو ما يعني بشكل أو بآخر، أن ما تطرحه وتتناوله يعد جزءًا محوريًا من توجهات الدوائر الرسمية في الولايات المتحدة وخططها ومشاريعها المستقبلية.
وعند هذه النقطة يمكن أن نفهم حقيقة ومغزى كل ما فعلته -وما زالت- واشنطن وحلفاؤها وأتباعها، في العراق طيلة أعوام -بل عقود- من الزمن، ويمكن أن نفهم لماذا كل هذه الحملات والاستهدافات السياسية والاعلامية والعسكرية للمرجعية الدينية والحشد الشعبي والقوى والشخصيات الوطنية، ومن ثم نفهم أن الاعتداء على الحشد لن يكون الأخير وفق خارطة تفكير دوغلاس سيليمان ومعهد دراسات الخليج الاميركي.