ابرهيم صالح
أفصح النائب السابق والأمين العام السابق لتحالف قوى 14 اذار الذي انفرط عقده بعد مضي عامين فقط على اعلانه، عن ضيقه واستيائه من مفاعيل الهجمة الشرسة التي شنت أخيرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي على البطريرك الماروني بشارة الراعي ردًا على الموقف الاستفزازي غير المسبوق والكبير الخطورة بأبعاده ودلالاته، والمتضمن دعوة الى الجيش لمنع اطلاق الصواريخ من الجنوب باتجاه الاراضي المحتلة وذلك على خلفية رد المقاومة الأخير على العدوان الجوي الاسرائيلي على منطقتين في الجنوب.
أكثر من ذلك، يهدد فارس سعيد الذي سقط في ثلاثة انتخابات متتالية ترشح لها عن دائرة جبيل، بإطلاق حملة تحركات مضادة.
بطبيعة الحال، لن تجد بكركي سوى شخصية بوزن سعيد البالغ الخفة، منبريًا ومتطوعًا للدفاع عن مواقف استفزازية واشكالية وخلافية أطلقها سيدها في محطة من محطات الصدام والمواجهة مع عدو أراد في لحظة معينة أن يحقق أمرين اثنين معًا:
ـ كسر قواعد الاشتباك والردع المرسخة بقوة منذ صيف عام 2006، مقدمة للعودة إلى معادلة سابقة كان فيها لهذا العدو اليد العليا في استباحة أجواء لبنان من دون أن يأبه لرادع أو يخشى من عقاب.
ـ محاولة الاستثمار واللعب بتناقضات الداخل اللبناني وتعقيداته بغية المساهمة في إرباك قوى الممانعة والمقاومة وفي طليعتها حزب الله، وإظهاره بمظهر العاجز والمغلول اليدين عن أي فعل، اعتقادًا من هذا العدو أن التطورات الدراماتيكية في لبنان منذ 17 تشرين الى اليوم قد أفقدت الحزب ومحوره زمام المبادرة وأعادته قسرًا الى موقع الدفاع عن النفس.
لم يعد من المبالغة الاستنتاج بأن قلة قليلة جدًا بمن فيهم المتطوعون ليكونوا في عداد المكتب السياسي المخطط لبكركي، بمقدورهم التجرؤ واتخاذ موقف الدفاع عن بكركي بعد أن اطلق سيدها ذلك الكلام، فالأكيد ان هذا الموقف الآتي عن سابق وعي وتصميم ينطوي على 3 مخالفات وخروقات وطنية ودستورية جلية:
1ـ أنه يغاير ضمنًا مسلمة وطنية ـ دستورية تعتبر أن الكيان الصهيوني عدو لا لبس فيه للبنان.
2ـ أن البيانات الوزارية لكل الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ سريان اتفاق الطائف الى حكومة تصريف الأعمال الحالية قد نصت بكل وضوح على شرعية المقاومة بأركانها الثلاثة الجيش والشعب والمقاومة، ونصّت أيضًا على أحقية دورها في مواجهة الاحتلال كواجب دفاعي ووقائي في آن.
3ـ إن موقف البطريرك قد ركز على رد فعل المقاومة وجهّل وغيّب تمامًا فعل العدوان الإسرائيلي الفاضح والواضح والمتجسد في غارتين جويتين.
ويضاف الى ذلك بطبيعة الحال أن هذا اللون من المواقف يدفع بشكل أو بآخر في اتجاه حقن المشهد السياسي بمزيد من عوامل التوتير وتسعير الاحتقان الداخلي الى حد تحضير المسرح والأجواء للاحتمالات الأدهى والأشد خطورة ووبالًا على كل الاجتماع اللبناني بكل تلاوينه ومركباته.
ربما صار من باب لزوم ما لا يلزم التذكير بأن فعل المقاومة وثقافتها لم يكونا منذ انطلاقتها الواسعة بعد اجتياح عام 1982 موضع اجماع لبناني، فثمة ولا شك من لا يزال يذكر كيف أن الاعلام الرسمي في عهد الرئيس أمين الجميل قد أطلق مصطلح “الاعتداءات” على عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي التي كانت في حينه تحتل ما يقرب من نصف الأراضي اللبنانية وصولًا الى العاصمة بيروت، وهو مصطلح ظل حاضرًا الى منتصف عام 1986. وثمة بالطبع من لا يزال يختزن في ذاكرته واقعة رثاء بكركي للعميل القتيل عقل هاشم في عام 1999، ويذكر ايضًا تمجيده ووضعه في مصاف الابطال حسبما ورد في طيات “الرقيم البطريركي” الذي تلاه أحد المطارنة الراحلين على جثمانه (هاشم) قبيل مواراته، وصولًا الى التذكير بالكلام المستغرب الذي قاله “سيد الصرح قبل اعوام” في “حضرة” محفل العملاء الفارين الى الاراضي المحتلة واطلاق صفة “المظلومين” عليهم توطئة لتبرئتهم من شبهة العمالة وخدمة العدو طوعًا. علمًا أنهم هم من صعب عليهم مفارقة المحتل فاختاروا عن سابق تصور التعلق بدباباته الخارجة من الأراضي الجنوبية بعد احتلال استمر نحو عقدين من الزمن.
ربما ثمة من يضع كل تلك الوقائع في دفتر حساب الماضي الذي تولى وانقضى تحت عنوان عفا الله عما سلف ولنفتح صفحة جديدة حرصًا على وحدة وطنية منشودة دومًا وانطلاقًا من قناعة خفية فحواها أنه ربما علمت التجارب والخيبات هؤلاء يوما ما عقم رهاناتهم وتهافت حساباتهم وانه ربما عاد لروؤس بعض هؤلاء “عقل الرحمن” على غرار كثر كوتهم نيران التجارب المرة في ظروف ومراحل لها خصوصياتها. لكن الاكيد “ان زمن التوبة قد استنفد وانتهى مفعوله وفترة سماحه وأوصد بابه”. وبناء عليه من الحكمة والكياسة أن يبادر المعنيون تلقائيًا الى فتح باب آخر ودفتر حساب مختلف من الآن فصاعدًا.
وتجد هذه القناعة ما يعززها ويرسخها انطلاقًا من اصرار بيّن من “سيد الصرح” على المضي قدمًا في مسار ومسيرة تفضي في خاتمتها الى اطلاق قفاز التحدي والاستفزاز في وجه قوة أساسية ومكون أكثري من مكونات البلاد له هذا الحجم من التمثيل والحضور ويتسلح بوقائع دستورية لا تحتمل اللبس والتاويل. وهذه المسيرة بدأت كما هو معلوم بأكثر محطاتها وقاحة واستفزازًا وخروجًا على الإجماع وعلى مندرجات الدستور وروحيته والمتمثلة في الزيارة الشهيرة الى الأراضي المحتلة قبل أعوام.
ومع فداحة تلك الخطوة وجسامتها والتي لم يجرؤ أي من أسلافه حتى على التفكير بها، فإن كثرًا حاولوا إيجاد مبررات لها أو تناسيها، إلا أن المفارقة هي أن الذين نظموها فعلوها في مرحلة من مراحل اختلاط الأوراق في الاقليم بعد وقوع الحرب الكونية على سوريا، لكن يبدو ان سيد الصرح والمحيطين به قرروا استئناف ما بدأ ووصل ما انقطع.
وليس خافيًا أن محطة الانطلاق الجديدة قد بدأت منذ حراك 17 تشرين الماضي. فحينها فاجأ سيد الصرح الجميع بدعوة الرئيس سعد الحريري الى تقديم استقالته فكانت تلك الوصفة الجاهزة والمضمونة للانحدار نحو الانهيار الذي ما زال يتوالى فصولًا في التداعي الاقتصادي والمالي وفي الاستعصاء السياسي الفارض وطأته.
وكانت المحطة الثانية في اطلاق الدعوة الشهيرة الى الحياد ثم الى التدويل ورعاية الصرح اياه لمهرجانات التاييد لهما. واخيراً وليس آخرًا استغلال انفجار مرفا بيروت ومعاناة اهالي الضحايا والمتضررين وتحويل محطة الذكرى الاولى لهذه المحطة التي يفترض انها وطنية بامتياز الى منصة للمتاجرة والمناورة وتصفية الحساب مع مكونات بعينها وتكريس أمر واقع مختلف يغطي على الجاني الحقيقي.
وكان لافتا في هذا السياق خطاب سيد الصرح في يوم 4 آب خصوصًا لجهة استعادة مقولة إن “مجد لبنان أعطي لصرحه حصراً” وهو ما فسر على أنه ينطوي على رغبة تتوسل وجع اللحظة لاستعادة حقبة خلت حيث كانت الظروف حينها تسمح بمعادلة أن مجد لبنان قد وهب لصرح ما. ولا ريب أن مثل تلك الدعوة تستبطن رغبة باستعادة الدور المحوري لهذا الصرح في القرار الوطني، توطئة للقبض مجددًا على القرار السياسي المسيحي استهلالًا لكي يباح له تاليًا النطق بلسان لبنان في المحافل العالمية، انطلاقًا من أن ثمة “حاضنة خليجية” جاهزة لرفده ودعمه غب الطلب.
ومع أن هذا التوجه قد مُني بنكسة كبرى تجلت في رفض الفاتيكان تغطية طرحي الحياد والتدويل والطلب اليه طي صفحتهما، فالواضح أن سيد الصرح قد وجد الآن ضالته المنشودة لاستئناف ما انطلق به من باب آخر وهو التصويب على المقاومة وقيادة الحملة ضدها.
من حق أي كان أن يختار السلوك والاداء الذي يريد ولكن على الراغب في قيادة مرحلة ما وتنكّب مهمة بعينها أن يعي سلفًا المعطيات والوقائع والعواقب خصوصًا أن الجميع مقتنع بأن زمن المجد الذي يعطى قد انطوى إلى غير رجعة منذ أن بزغ نجم آخرين دافعوا عن السيادة ولم يستجدوها من أي مستعمر أو محتل.
قديمًا قالت القاعدة السياسية البديهية إن لكل عصر دولة ورجالًا وإن ثمة شيئًا باد بعد أن ساد، والأكيد أنها قاعدة ما انفكت صالحة.
لذا من حق سعيد أن يحنق ولكن الأكيد أن السياسة معطيات ومعادلات ووقائع عنيدة تفرض نفسها وليست نوستالجيا الى ماض قد تولى وانقضى ولا سبيل الى إعادته.