إيهاب شوقي
لسنا هنا بصدد مناقشة قضية فلسفية متعلقة بالخلاف الشهير بين المدارس الفلسفية حول دور الإنسان بالتاريخ، والذي تمحور حول مدرستين شهيرتين، أولاهما لهيجل حول السيرورة وأن الإنسان من صناعة التاريخ، والأخرى المعاكسة لسارتر حول أن الإنسان هو صانع التاريخ، وإنما بصدد بيان تأثير العوامل الشخصية في صناعة الأحداث وبالتالي دورها الكبير في الصراعات وكتابة التاريخ.
والأمر هنا ليس استعراضًا للتاريخ بل لوضع هذا الجانب في مكانة لائقة به عند تحليل السياسات، أو على الأقل مراعاته كأحد المعطيات في التشخيص والتخطيط.
ولعل الكاتب المصري الرحل محمد حسنين هيكل، كان من أبرز من أشار لهذه العوامل، حين ضرب مثلًا بذلك يخص رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “أنتوني إيدن”، والذي كان يريد أن يبدو أمام زوجته الشابة كلاريسا التي تصغره بخمسة وعشرين عامًا كبطل قومي لا يقل عظمة عن عمها “ونستون تشرشل”، مما دفعه للتمادي في العدوان والوصول بالأمور لحرب السويس والتي عرفت بالعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، بل وورد بمذكرات “وليام كلارك” المستشار الصحفي لإيدن، ان خطاب إيدن الى الأمة والذي أعلن به إرسال القوات للحرب كان بطلب أو بالأحرى أمر من زوجته!
نقول ذلك لأن هناك دوافع شخصية يبدو أنها تتحكم ببعض مسارات الامور في منطقتنا، وقد تفسر بعض الأحداث التي لا تتسق مع المسار العام للأحداث وتوازناتها.
وعلى سبيل المثال فإن طموح الأمير الشاب محمد بن سلمان للحكم وضع علاقات السعودية مع الراعي الاستراتيجي التاريخي وهو الولايات المتحدة، في أزمات كبيرة، لا تتعلق برفض أمريكي مبدئي او أخلاقي، بل تتعلق بحرج بالغ على الصورة التي تسعى أمريكا لتصديرها عن نفسها وللهيمنة من خلالها، ولعل قضية اغتيال جمال خاشقجي كانت مصداقا لذلك.
ولعل تحركات ابن سلمان وزيارته لمصر مثلًا بشكل مفاجئ والتي سعى الكثيرون لتفسيرها استراتيجيًا، ربما لم تكن إلا محاولة لتوسط الرئيس المصري لدى الإدارة الأمريكية لاستقبال ابن سلمان، بعد تحسن العلاقة بين بايدن ورئيس مصر بعد جهود وقف إطلاق النار في غزة، وخاصة بعد تسرب وثائق تفيد بأن إدارة بايدن ترفض استقبال ابن سلمان، مما حدا بالملك سلمان لتدشين حملة من العلاقات العامة لإقناع أمريكا بالعدول عن القرار!
كما يبدو تأثير الجوانب الشخصية في سياسات العدو الإسرائيلي، والتي تتمثل في مكايدات نتنياهو وبينيت والمزايدات التي تعبث بجميع صواعق تفجير الوضع والتي قد تنزلق لحرب إقليمية.
وتبدو في الحميمية المبالغ بها التي يتعامل بها بايدن مع بينيت فيما يبدو انتقامًا من محاولات نتنياهو توريط أمريكا في صراع أكبر من إمكاناتها الراهنة ومخالف لأولوياتها الضاغطة الراهنة.
وربما نجد بعض النوازع الشخصية لظاهرة الاندفاع الإماراتي العجيب نحو التوحد مع الصهاينة حيث يتخطى الوضع مفهوم التطبيع، وإرجاع ذلك لنوع من الطموح لدخول التاريخ حتى ولو من أسوأ الأبواب!
ولعل الرئيس الأمريكي جو بايدن ليس بعيدًا عن هذه العوامل الشخصية، فقد جاءت به المقادير في مرحلة تشهد حتمية انسحاب أمريكا من المنطقة وحتمية الاعتراف بالهزيمة أمام محور المقاومة، وحتمية الاختيار بين خيارات كلها سيئة وفقًا للمنظور الإمبراطوري الأمريكي، ولكنه يريد عدم الظهور بمظهر الرئيس الضعيف المهزوم، وهو ما يورطه في سياسات خطرة قد تنزلق لتكريس الهزيمة الأمريكية صراحة دون فرص لحفظ ماء الوجه.
والشاهد هنا هو تصريح الرئيس الأمريكي بأن إيران لن تحصل على سلاح نووي في عهده، وتزامن ذلك مع ضربات عسكرية على الحدود السورية – العراقية، وهي منطقة لها رمزيتها بتواصل محور المقاومة وامتداده، وهل هذا يعكس فائض قوة أمريكي أم قنابل دخانية لتغطية الانسحاب.
في مقال هو الأهم والأصرح فيما يتعلق بالملف النووي، للكاتب الأمريكي المهم “سايمون هندرسون”، عنوانه هل فشلنا بالفعل في ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي، يعترف هندرسون بعجز أمريكا عن التعامل مع ملف ايران النووي أو حتى تشخيص ما هي طموحات إيران النووية والى اين ستصل.
ويقول هندرسون انه في الثالث والعشرين من حزيران/يونيو اجتمع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع رئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، اللفتنانت جنرال أفيف كوخافي، وأكد التزام الرئيس الأمريكي بضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي.
ويستدرك هندرسون قائلا: إلّا أن الأسلحة النووية قد انتشرت ببطء مفاجئ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تُستخدم أبداً في حالة غضب. لكن هذا النموذج قد يتغير وسط غموض غير مستدام حول مستقبل برنامج إيران النووي.
ومما يقوله هندرسون ان الاتفاقية بمثابة مناورة أمريكية للتعطيل، حيث يقول إن انسحاب إدارة ترامب من “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي اتفاقية كانت بمثابة مناورة تعطيلية وليست حلاً دبلوماسياً، أدى إلى دفع إيران إلى التخلي عن التزاماتها وتشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر كفاءة، وبناء مخزوناتها من اليورانيوم شبه المخصب. وكان إعلان طهران الأخير بأنها بدأت بتخصيب نظير اليورانيوم-235 بنسبة 60%، وهي المادة المتفجرة الفعلية، خطوة مُفزعة. ففي تلك المرحلة يكون قد تم القيام بمعظم العمل الشاق للتخصيب اللازم لتحقيق الرقم السحري البالغ 90 في المائة، مضيفا: لذا، ينبغي ربما النظر في احتمالية – أو حتى أرجحية – فشل الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لمنع إيران من أن تصبح قوة شبه نووية.
وهنا يمكن أن نخلص إلى أن أمريكا تريد تعطيل طموحات إيران وإرجاء المواجهة لأنها لا تملك ضمانات الانتصار بها، وهو نفس الوضع الصهيوني الذي لا يرى الصراع وتفجيره يصب في الصالح الصهيوني، وبالتالي يجب تقليصه عبر هدنة طويلة.
وتلعب العوامل الشخصية جانبًا إلى جوار العوامل السياسية التقليدية التي تقود الى التفاوض عبر القوة أو الدبلوماسية القسرية، حيث تقود العوامل الشخصية إلى سياسات أكثر خطورة وهي ما تقود غالبا للانزلاقات.
فالظهور بمظهر القوي غير المهزوم قد يورط في قصف على الحدود السورية العراقية للحشد الشعبي، وقد يورط الصهاينة في مزيد من الانتهاكات والاستفزازات بالقدس المحتلة، وقد يورط العرب في مزيد من التفريط طمعا في رضا وهمي أو مساندات في ملفات كبرى لن تحدث، وبالتالي تنزلق الأمور ويتم التعجيل بالمواجهات الكبرى.