المراقبة المستمرة
مردّ كل هذا التّأكيد والتّشديد على التّقوى حتى لا يغفل الإنسان عن نفسه، ويراقبها، ويحترز من أن يخطئ، أو يغفل عن حاله، وهدفه، ومصيره، وسبيله، ووظيفته. ويمكن تشبيه هذه الحالة بقيادة السّيارة في طريق متعرّج، ومنزلِق، وخطِر، فمن الممكن أن تنحرفوا وتزلّ أقدامكم إذا ما غفلتم ونسيتم في أي حال أنتم.
على الجميع أن يراقبوا أنفسهم. على الجميع أن يراقبوا أفعالهم، وإن هذه المراقبة لهي التقوى التي طُلب منّا في عيد الفطر أن نأمر بها أنفسنا والمستمعين لنا. فلنتأمل في أعمالنا،
وفي أفعالنا، وأقوالنا، وفي معاشرتنا، حتى فيما يجول في خواطرنا -من خواطر قلبيّة- فلنتأمّل فيها، ولنسعَ بأن لا نميل عن سبيل الله وطريق الحق. إن هذه هي التقوى، ولعلّ أحد أهداف صوم شهر رمضان المبارك، أو لعل الهدف الأساسي منه، هو أن نحصل بالصوم على ذخيرة من التقوى، وأن يحوّلنا (الصوم) إلى متّقين . إن لهذه المراقبة بركات جمّة. وهذه المراقبة هي التي تحفظ الإنسان على الصراط المستقيم الإلهي.
المراقبة الشديدة للأعمال الفردية
ماذا تعني التقوى؟ إنها تعني تلك الشِّدّة من المراقبة بحيث لا يحيد الإنسان عن جادة الحق في ممارساته الشخصية. وهذا ما تعنيه التقوى؛ أي أن يراقب المرء نفسه مراقبة تامّة في تداوله للأموال، في معاملة الناس وكراماتهم؛ في الاستخدام والتّوظيف، أو في الصّرف والاستغناء، وكذلك في الكلام حتى لا ينطق بما يخالف الحق. تصفّحوا نهج البلاغة فهو حافل بهذه المقولات.
المراقبة في جميع شؤون الحياة
إنّ التقوى هي الدرس الخالد الذي يُعطيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلو أنكم تراجعون نهج البلاغة ستدركون أنه لم يكرر أيّ توصية وطلب بالمقدار الذي دعا فيه إلى التقوى. إنّ التقوى في الواقع من أهم المفاصل في حياة أمير المؤمنين العملية، وفي إرشاداته وتوصياته.
والتقوى تعني: مراقبة النفس، فعلى العبد أن يراقب نفسه دائمًا، فيراقب أعماله وسلوكاته، أي أن يراقب عينه ولسانه وسمعه ويده، كما يراقب قلبه، أن يراقب عدم تغلغل الخصال الحيوانية الدنيئة [في وجوده]، وعدم الميل إلى الهوى، وعدم الانجذاب إلى المظاهر التي تؤدي به إلى الهاوية، فلا يضمر الحسد ولا يريد الشرّ لغيره، وأن لا يسمح للوساوس أن تصل إلى فؤاده، وعليه أن يجعل من قلبه مسرحًا للفضائل وذكر الله وحبّ أوليائه وعباده، وأن يراعي التقوى في الفكر والعقل، بأن يصون العقل من الانحراف والوقوع في الأخطاء والمزالق، وإنقاذه من الجمود، وتوظيف الذكاء في شؤون الحياة، إذاً فالمراقبة المستمرة للجوارح والقلب والفكر والعقل من التقوى.
التقوى ليست سوى مراقبة النفس، فلنراقب قولنا وفعلنا ومعاشرتنا ومواقفنا، ولنحذر؛ لئلا تتغلغل إرادة الشيطان في مواقفنا وأعمالنا وأفكارنا.
هذه هي التقوى وإنّ الله ليُعين كلّ من يتمتّع بهذه المراقبة، لا أنه لن يرتكب الخطأ، ولا أنه يصبح معصومًا عن الذنب والمعصية، ولكن الله يعينه ويأخذ بيده، ومن هنا ندرك ضرورة الاهتمام بالتقوى، والتوصية بها في كل صلاة جمعة، فإمام الجمعة نفسه يحتاج هذه الوصية. ونحن أيضًا بحاجة إلى أن يوصونا بالتقوى، وينبّهوا قلوبنا ويذكّروها بعروة الإسلام الوثقى هذه.
فعندما يوصي القرآن بالتقوى في جميع آياته، فإنه يعني الحذر ومراقبة النفس، فالطّمع من صفات النفس الإنسانية.
لم تتقيد التقوى في حياة إمامنا العظيم بمعنى القيام بالعبادات، فكانت التقوى (الملاك) في كل شيء. التقوى تعني المراقبة الصّحيحة للعمل والفعل، خاصّة فيما يرتبط بالأمور الهامّة. فكان من مظاهر التّقوى عنده: الدرس، والمعاشرة، والحضور في مراكز العلم، والحضور الفعّال في المجتمع والعائلة وفي مجالات الحياة.
التقوى حصن الإنسان
هي التقوى التي ظلَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي بها طوال فترة حكمه -ربّما لا تجد في نهج البلاغة موضوعًا حظي بالاهتمام مثلما حظي به موضوع التقوى- وكَثُر في الأدعية والروايات طلبُ التقوى، وكثيرًا ما كان الإمام الخميني (قدس سره) يحثّ في كلماته على التمسّك بالتقوى، على اعتبار أنها حصن. والمراقبة الدائمة لأنفسكم بمنزلة سياج يحيط بكم، فإيّاكم وأن يُكسر هذا الحصن. فأنتم تحتلّون حاليًا مكانة حساسة، وربّما يتسنى لكم -أو لا يتسنى- البقاء في المناصب ذاتها في السنوات القادمة. وليس هذا هو المهم، وإنّما المهم هو مراعاة هذا الجانب في كل لحظة إلى حين اليوم الأخير والساعة الأخيرة لوجودكم في هذه المسؤولية.
أهمية مراعاة التقوى في مرحلة الشباب
التقوى تعني مراقبة أقوالنا وأفعالنا وذلك بروح التّجدد
والابتكار وحيوية الشباب. فعندما تلازم التقوى روحكم الشابة وطاقاتكم الكامنة، ستظهر المعجزات. لقد تكرّر في القرآن الكريم ذكر التقوى مراراً. وإن المثل المناسب لكم أنت الشباب، هو قصّة النّبي يوسف (عليه السلام). حيث كان خير مثال على تقوى الشباب. تسرد قصة النبي يوسف (عليه السلام) في سورة كاملة من القرآن الكريم، وعبّر عنها بـ”أحسن القصص” أي أفضل قصّة، ولا تلتبس عليكم مفردة “القَصَص” بـ”القِصص”، فالقِصص جمع قِصّة، ويكون المعنى بها أفضل القِصص. لكن “القَصص” اسم مصدر، وهي مرادفة للقصة، وتعني أفضل قصة أو حكاية. ويعود سبب ذلك إلى أنكم تجدون في قصّة النبي يوسف نموذجاً كاملاً للتقوى، فتقوى إنسان أمضى ردحاً من الزمن ولديه تجاربه في الحياة تبدو أكثر واقعية من تقوى شاب هو في عنفوان شبابه (في غمرة الشباب). فالغمرة من خصائص فترة الشباب، وكل الشباب يتصفون بشيء منها، بالطبع فإن هذه الغمرة من النعم الإلهية، بحيث يمكن للشاب أن يجيد استعمالها، وهنا وفي هذه الحالة من الغمرة تظهر أهمية توظيف اليقظة والفطنة التي تُدعى بالتقوى. ولذلك تُعدّ قصة النبي يوسف (عليه السلام) أفضلَ وأبرز قصص القرآن.
مراقبة الحدود والضوابط الإلهية
التقوى تعني أن نراقب أفعالنا، أن نمشي بحذر، وأن نعدّ
برنامج حياتنا وفقاً للضوابط والحدود الشرعية الإلهية، وهذا لا يختصّ بزمن معين، وإن مجتمع اليوم أيضاً بأمسّ الحاجة إلى التقوى، وكلّما تطورت العلوم وحضارة الشعوب تبقى هذه الأمور مصدراً لسعادتها. على الأمّة الإسلامية أن تضع هذه الأمور نصب عينيها وتلتفت إليها، فتطلبها وتسعى في تحصيلها.
مزيّة المراقبة الدائمة والمستمرة: صفاء النفس
يتحقّق صفاء النفس أيضاً من خلال الالتزام بالواجبات واجتناب المحرمات، تجنّب الفساد وعدم الوقوع فيه، وبمراقبة النفس. بالطبع فإننا لن نصل بذلك إلى العصمة بحيث لا يصدر منا أي خطأ، لكن إن راقبنا أنفسنا، ستقلّ زلّاتنا وهفواتنا، وحتى إن زللنا وأخطأنا لن ينتج عنه سقوطٌ إلى الهاوية (لن نكبّ على وجوهنا)، هذه هي ميزة المراقبة. ما هو اسم هذه المراقبة في الثقافة الإسلامية؟ التقوى. وعندما يقولون التزموا بالتقوى (اتقوا الله) أي راقبوا أنفسكم، وراقبوا أفعالكم، وأقوالكم، وقراراتكم وإجراءاتكم. إن هذه المراقبة هي التي تحول دون الزلل، وحتى إن زلّت القدم فلن تكون الأضرار جسيمة.
التقوى؛ تتبع خطوة بخطوة
لا يشعر الإنسان بالتغييرات غالباً. والكثير من هذا الإغفال ينتهي إلى خسائر كبيرة. لو فرضنا أن ماشيًا يسير على طريقٍ
يغفل وينحرف عن طريقه بزاوية خمس أو عشر درجات. هذا الإنسان لا يلتفت أبدًا، فخمس درجات ليست بشيء يُلفت انتباه الإنسان. ثمّ فيما بعد كلّما سار مع هذا الانحراف البسيط -هذا لو لم تصل هذه الخمس درجات إلى عشر درجات وخمسين درجة وبقيت خمس درجات- عن الخط الصحيح الذي ينبغي أن يسير عليه، فإن الانحراف يزداد شيئًا فشيئًا. ثمّ يأتي وقتٌ يتنبّه هذا الإنسان ويرى أنه يا للعجب! كم صارت الفاصلة كبيرة. عندما تُذكر التقوى فلأجل هذا الأمر. فإن التقوى تعني الالتفات والتوجّه إلى الذات لحظة بلحظة ومراقبة النفس والالتفات إلى ما نقوم به. إن هذه الصلاة التي كُتبت علينا خمسَ مرّات في اليوم هي في الواقع من أعظم نعم الله. فلو لم تكن هذه الصلاة، لغرقنا في غفلة عميقة. هذه الصلاة هي التي توجّهنا إلى أنفسنا. فهذا ما يقتضي أن نؤدّي الصلاة بشكلٍ صحيحٍ وبتوجّه. فإنا لو أدّينا الصلاة بتوجّهٍ، لكانت لنا خير معين على النفس .
Check Also
الدرس الخامس: الموت وسكراته
الدرس الخامس: الموت وسكراته أهداف الدرس: على الطالب مع نهاية هذا الدرس ...