د. علي مطر
تعد العلاقات الاقتصادية الدولية ذات أهمية بالغة في نسج العلاقات بين الدول، وفي تأثيرها على إدارة النظام العالمي، ولا يخفى مدى تأثرها وتأثيرها بالسياسة الدولية، ومدى تناسق وتنافر المصالح بين الدول، وهذا ما ينعكس عادة من خلال الصراعات التي تحصل في التجارة الدولية وعالم الطاقة والنفط. انطلاقًا من ذلك، تتجدد الخلافات حول إمدادات النفط بين الدول الكبرى المصدرة، وسط أزمة الوقود الحالية المتفاقمة، والتي انتقلت الآن إلى أزمة وخلاف جديد بين الولايات المتحدة ومنظمة الدول المصدرة للبترول.
النفط سلعة رئيسية في العالم، لا بل هو عصب الطاقة وشريان الحياة، حتى أنه معيار أساسي حالي من معايير الازدهار والبحبوحة، وقد ارتفعت أسعاره عقب حرب أكتوبر 1973، وشعرت الدول الصناعية الكبرى بإمكانية تحكُّم الدول المنتجة بالأسعار أو ربطها بالمواقف السياسية.
بعد اكتشاف النفط، تحوّلت الدول العربية التي تحوي جفرافيّتها هذه المادة الإستراتيجية، لا بل منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا ككل، الى موقع للصّراع الدّولي من أجل السّيطرة على هذه الثّروة، خاصّةً أمام الحاجة الغربيّة لمصادر الطّاقة، والتّي بدأت تتّسع بعد الحرب العالميّة الثانية، إلّا أنّ الغرب كان قد أدرك قبل ذلك أهمية الموقع الجغرافي لهذه المنطقة، خاصةً لجهة ما يتمتّع به العالم العربي من وفرة إمكاناته الاقتصاديّة الهائلة وثرواته النفطيّة، التي يُمكن أن تُزوّد الولايات المتّحدة وحلفاءها الغربيّين بها من دون أن تضطر إلى استخدام مخزونها من النفط.
صراع على الانتاج
يتفاقم الصراع النفطي اليوم بين الدول المصدرة والدول المستهلكة للنفط، وتتعرض منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وروسيا وحلفاء آخرون في “أوبك +”، لضغوط من كبار المستهلكين مثل الولايات المتحدة والهند بهدف زيادة الإمدادات لتهدئة ارتفاع الأسعار التي زادت بنسبة 50% هذا العام.
على إثر تزايد حدة الخلاف والتشابك أعلن البيت الأبيض أن كلًّا من الهند واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا ستنضم لأمريكا في أول تحرير طارئ لمخزون النفط الاحتياطي منذ عقد من الزمن، في تحالف بدأ خبراء بالفعل بتسميته “المضاد لأوبك”. وفي تحالف تمّ ضمن ظروف غير مسبوقة، ستستخدم الولايات المتحدة ودول أخرى، بينها الصين، المخزون النفطي الاستراتيجي في مسعى لخفض سعر الذهب الأسود. المصالح الاقتصادية جمعت هذه المرة أكبر قطبين عالميين وأكثرهما تصارعًا: أمريكا والصين.
وستحرر واشنطن وحدها 50 مليون برميل نفط من احتياطها الاستراتيجي بخطوة هي الأكبر في التاريخ، وتظهر أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بدأت باتخاذ مسار أكثر عدوانية ردًا على ارتفاع أسعار الوقود في المحطات. ويتميز الاحتياطي الاستراتيجي الذي يقدر بنحو 714 مليون برميل مخزنة في 4 مواقع تحت الأرض عن الاحتياطي التجاري من النفط الخام بأنه احتياطي تم تمويله بأموال الحكومة الأمريكية، لذا فهي تستطيع التصرف به، ويمكن لرؤساء الولايات المتحدة تنسيق السحب من الاحتياطي الاستراتيجي مع خطوات مماثلة من الدول الأخرى الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية في آن واحد. أما مشاركة الصين والهند في السحب من الاحتياطي فستكون المرة الأولى من نوعها التي تنسق فيها الولايات المتحدة عملية السحب بمشاركة هاتين الدولتين.
خلاف أميركي – سعودي
في إطار هذا الصراع النفطي، تتوتر العلاقة بين الإدارة الأمريكية والسعودية، وتحميل الأخيرة المسؤولية بشأن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية. وألمح الرئيس الأمريكي بايدن خلال كلمته في قمة غلاسكو للمناخ، إلى اتخاذ “إجراءات محتملة لن يتحدث عنها قبل تطبيقها” في حال لم تعمل روسيا والسعودية على خفض أسعار النفط، واعتبرهما على رأس الدول التي تنتهج سياسة إنتاج غير صائبة في أسواق النفط. ولا شك أن قضية التحالف السعودي الروسي المرتبط بمنظمة (أوبك+) تزعج الولايات المتحدة.
وتشهد العلاقات السعودية الأمريكية منذ تولي بايدن الرئاسة محطات شد وجذب، ويبدو إلى الان أن المملكة لن تضحي بمصالحها الاقتصادية من أجل إرضاء الولايات المتحدة ومستهلكي النفط. وهنا يشير جون ألترمان، مسؤول برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي (CSIS) الى أن “هناك خيبة أمل متبادلة بين الولايات المتحدة والسعودية فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية”.
وأضاف ألترمان: “السعودية تشعر أن فريق إدارة بايدن لم يقدم سوى القليل مقابل ما قدمته المملكة للولايات المتحدة، وتعبر المملكة عن دهشتها من عدم اهتمام واشنطن بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تشهدها”. وكان بايدن قد قال في إشارة إلى محمد بن سلمان إن هناك الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط الذين يريدون التحدث معه، وإنه ليس متأكدا من أنه سيتحدث معهم، وتابع أن الأمر يتعلق بإنتاج النفط، وأن هناك أشياء يمكن القيام بها في هذا الصدد.
هكذا يتفاقم الصراع على الطاقة وإمداداتها، بدءًا بالتنقيب عنها وصولاً إلى كمية الانتاج والكلفة والأسعار، وهذا ما يتعارض مع المصلحة الإستراتيجيّة للإدارة الأميركيّة، وبالتالي سيستمر النفط كمادة استراتيجية مؤثراً في السياسات والمصالح الدولية مع صعوبة إيجاد البدائل للطاقة، ما يجعل العالم بأسره تتصاعد فيه الخلافات وتحتدم، وتتبدل فيه التحالفات، وتتعقد آليات التشابك والاشتباك، من أجل السيطرة على منابع النفط وطرق إمداداتها، في غير منطقة من العالم.