المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير الورى والنبيّ المجتبى محمّد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين له بإحسان إلى قيام يوم الدّين.
قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾1 وقال عزّ من قائل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾2 وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾3، وورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؟ فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”4.
1- سورة المجادلة، الآية: 11.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- سورة فاطر، الآية: 28.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص 32.
وعن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: “من أحبّ أن ينظر إلى عتقاء الله من النّار فلينظر إلى المتعلّمين، فَوَالّذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف إلى باب العالم إلّا كتب الله له بكلّ قدم عبادة سنة، وبنى الله له بكلّ قدم مدينة في الجنّة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له، ويُمسي ويصبح مغفوراً له، وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء الله من النّار”5.
وقد ورد في فضل العالم والمتعلّم ما لا يسع ذكره في هذه الديباجة القصيرة الّتي نقدّم فيها لكتابٍ هو نفحة قدسيّة من نفس النبوّة وجذوة نورانيّة من قبس الولاية، فيه كلمات وعبائر لعالِم مؤيّد ومسدّد قد حُرمنا من سعادة لقياه والنظر إلى محيّاه، لكنّ بعضاً من كلماته وصلت إلينا، فكنّا نقرؤها فنجد فيها إنساناً قلّما تحمل به الأمّهات وتجود به الدنيا، ورث العلم من سلالة النبوّة والولاية، وأحاطت به الألطاف الإلهيّة، فوا أسفاه ثمّ وا أسفاه إذ ضاعت بعض كلماته وكتبه مع ما أحرقه الاستعمار الفرنسيّ من مكتبته إبّان الانتداب، فأحرق معه قلب الإمام العطوف وقلوب الملايين من العاشقين المؤمنين التائقين إلى المعارف، والساعين إلى بحار من اللطائف.
لقد كنّا وأثناء إعدادنا لهذا الكتاب وقراءتنا لكلمات السيّد رحمه الله لا نتمالك أنفسنا أمام بعضها إلّا والدمعة جارية على الخدّ والحرقة مستعرة في القلب، فكنّا نشعر
5- منية المريد، الشهيد الثاني، ص100.
وكأنّه يحدّثنا بل وكأنّه معنا، وكنّا نجد في بعض من كلماته فراسة تنبئ القارئ عن حال الأمّة وما سيجري عليها بعد حين، ولما لا “فالمؤمن ينظر بعين الله” فكيف إذا كان هذا المؤمن عالماً ربّانيّاً، ولنعم ما قال في مثله الشاعر:
جمع الصفات الغرّ وهي تراثه من كلّ غطريف6 وشهم سيّد
نعم لقد كان الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدِّين الموسويّ العامليّ عالماً جليلاً وسيّداً فاضلاً، ومجتهداً ورعاً، دقيق النظر بعيد الفكر، فخر الشيعة العامليّين، وتاج العلماء الراشدين، قويّ الحجّة ساطع البرهان، وله من قوّة العارضة في الأدب، وبُعد النظر في البحث، وسلامة الذوق في الفنّ وحسن التيسير في إيضاح المشاكل، وتحليل المسائل، ما لا يمكن وصفه.. تأتيه حين تأتيه مالكاً لأمرك، مسيطراً على نفسك، فإذا استقرّ بك المقام عنده، لم تتمالك دون أن تضع قيادك بين يديه، فإذا هو يتملّك زمام أمرك، ويدخل إلى قرارة نفسك، فيسيطر عليك بطبيعة قوّته وأدبه وعلمه.
وأنت لا تخشى مغبّة العاقبة من هذه السيطرة فإنّها سيطرة مضمونة الخير، مأمونة الشرّ، بعيدة عن الكيد والمكروه بُعد الصحّة عن الفساد، وكن واثقاً أكبر الثقة – حين يأخذك بيانه وبرهانه – أنّه إنّما يرد بك مناهل مترعة الضفاف، بنمير ذي سلسبيل، كلّما كرعت من فراته جرعة، تحلّبت
6- أي السيّد السخيّ.
شفتاك لجرعات تحسب أن ليس لظمئك راوياً غيرها7.
وقد قام مركز نون للتأليف والترجمة في جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة بجمع بعض من كلماته القصار – على نمط السلسة الّتي درجنا في إعدادها لعدد من علمائنا الأعلام – مع فهرسة موضوعيّة لها تسهّل للقارئ والخطيب الوصول إلى المعارف الّتي يبحث عنها والموضوعات الّتي للسيّد شرف الدّين تعليقات عليها أو كلمات فيها، وقد اعتمدنا في إعداد هذا الكتاب على موسوعة السيّد شرف الدّين الّتي قام بإعدادها وتحقيقها مأجوراً مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة، قسم إحياء التراث الإسلاميّ, حيث جمع فيها التراث العلمي للإمام شرف الدين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا في ميزان حسناتنا ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾8 وأن يُرضي وليّ الأمر عنّا ويحشرنا وسيّدنا الإمام شرف الدّين رحمه الله مع محمّد وآله الطيّبين الطاهرين إنّه سميع مجيب.
7- للاستزادة راجع ترجمة السيّد شرف الدّين لآية الله مرتضى آل ياسين رحمه الله في كتاب المراجعات.
8- سورة الشعراء، الآيتان: 88-89.
القرآن الكريم
* إنّ القرآن العظيم، والذكر الحكيم متواترٌ من طرقنا بجميع آياته وكلماته، وسائر حروفه وحركاته وسكناته، تواتراً قطعيّاً عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام، لا يرتاب في ذلك إلّا معتوه1.
* كان القرآن مجموعاً أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وسائر كلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، ولا تبديل ولا تغيير2.
* لا تخلو كتب الشيعة وكتب السنّة من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن، غير أنّها ممّا لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا أجمع, لضعف سندها، ومعارضتها بما هو أقوى منها سنداً وأكثر عدداً وأوضح دلالةً3.
1- الموسوعة، ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله ص 1622.
2- الموسوعة، ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله، ص 1622.
3- الموسوعة، ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله، ص 1623.
* إن واجهتم القرآن بالعاطفة القوميّة الأدبيّة وجدتم عنده جامعة قويّة، تلمّ أشتاتكم، وتجمع أوزاعكم، وتلائم أذواقكم، وتألفها طباعكم، وهي مع ذلك العنصر المقوّم الممسك حياة لغتنا العربيّة أن تندمج في لغات المستعمرين، وتذوب تحت أشعّة الحوادث، فلا يقوم لها ظلّ، ولا يشعّ منها ذبال4. 5
* ولولا هذا اللواء الأبيض المنشور في القرآن الحكيم خفّاق العذبات على لغة الضّاد لكانت لغة بائدة ملحودة إلى جنب أخواتها من اللغات المتقوّضة الّتي لا يُعنى بها إلّا الأثريّون، وإنّما يبحثون عنها ليضعوا نصوصها في المتاحف الأدبيّة كأثر قديم6.
* لكن القرآن العزيز بطبيعة قوّته القاهرة حفظ حياتها7، وكان منبعاً تستقي منه، وتمشي على ضفافه غير ملتوية عنه، برغم طغيان الخطوب، ومجاهدة العوادي الجامحة، الثائرة الحقودة في تمزيق شتات العرب ولغتها، وحلّ روابطها ووحدتها، وفرط نظامها، ونثر لآليها وغواليها8.
4- مفردها ذبالة: وهي الفتيلة الّتي تُسرج، لسان العرب 256:11.
5- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، ص 521-522.
6- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، ص 521-522.
7- أي اللغة العربيّة.
8- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، ص 522.
* وأنتم لو ذهبتم إلى ما وراء ذلك من أسرار القرآن لرأيتم أنّ العرب إنّما قطعت تلك الأشواط البعيدة، واجتازت تلك العقبات الكؤودة، بقانون القرآن وروحه العالية، الّتي كانت ترافقهم في غزواتهم وفتوحاتهم، فتطوي بنود الأكاسرة وتثلّ عرش الرومان، وتطّرد فتمسّ أرواح جنودها العرب، فيجوبون الآفاق، ويعبرون البحار، وينتقلون من فوز إلى فوز، ومن فتح إلى فتح يمتلكون العالم، ويمصّرون الأمصار، وتتّسق نظمهم، وهناك تطمئنّ النفوس إلى العدل، وتتعرّف برأفة الحكّام، ويجد الناس من الحضارة ما لم يحلموا به من قبل، وإنّ مدنيّة كهذه لآية باهرة، ومعجزة قاهرة، فالحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله9.
* أشربوا في قلوب الناشئة حبّ هذه المدنيّة، واطبعوهم على غرارها، واحفظوا نبيّكم العربيّ في كتاب ربّه، وفي عترته الطاهرة، فإنّهما الثقلان، لا تضلّ من تمسّك بهما، ولا يهتدي إلى الله من ضلّ عنهما، بثّوا هذه الروح ما استطعتم وأنتم مسؤولون عن ذلك ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾10. 11
9- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، ص522.
10- سورة الشعراء، الآيتان: 88-89.
11- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، ص 522 – 523.
* أجل, إنّ القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوّة مؤلّفاً على ما هو عليه الآن, وقد عرضه الصحابة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتلوه عليه من أوّله إلى آخره, وكان جبرائيل عليه السلام يعارضه صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كلّ عام مرّة, وقد عارضه12 به عام وفاته مرّتين13.
* وكيف كان, فإنّ رأي المحقّقين من علمائنا أنّ القرآن العظيم إنّما هو ما بين الدفّتين الموجود في أيدي الناس, والباحثون من أهل السنّة يعلمون منّا ذلك, والمنصفون منهم يصرّحون به14.
12- أي قابله، لسان العرب، 7: 167.
13- الموسوعة،ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله، ص 1623.
14- الموسوعة،ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله ، ص 1624.