يبدو السؤال لأوَّل وهلة غريباً، وفي غير مكانه، إذ يحمل الكثير من التناقض مع المستوى المرتفع من الاشتباك الحاصل بين طهران والرياض.
لا يستطيع أحدٌ من المتابعين في الإقليم أو العالم، ولو كان سعودياً، ومن العائلة المالكة بالتحديد، أن ينكر أن هناك تسلطاً أميركياً على السعودية، إذا لم يكن سياسياً – رغم أن ذلك حاصلٌ عملياً – فعلى الأقل مالياً. ربما كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأكثر جرأة – والأوقح طبعاً – على إظهار ذلك؛ فكلامه في أكثر من مناسبة، إحداها بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والأخرى أمام ناخبيه في أحد مؤتمراته الانتخابية، وما تضمَّنه من سخرية واستهزاء واستخفاف، كافٍ لوحده لجعل من ينكر هذه الهيمنة يقتنع بها، وبقوة.
طبعاً، لا يستطيع أحدٌ أيضاً أن ينكر أن السعودية ليست سعيدة بهذا الموقف، مهما كانت نظرتها أو أهدافها، فلا يمكن لأي عاقل أن يسمح بوضع نفسه في هذا الموقف. من ناحية أخرى، لا يمكن لأحد أن ينكر أنَّ المملكة مجبرة على هذا الموقف الضَّعيف أمام التسلّط الأميركيّ، والأسباب لذلك، ولو كانت غير مبرّرة بشكل كامل، ولكنها موجودة على الأقل في نظرة السعودية، وضاغطة عليها، ويمكن حصرها بعدد من النقاط.
أول هذه الأسباب خوف العائلة المالكة السعودية على عرشها وعلى مسار استلامها للحكم، إذ تعلم قدرة الولايات المتحدة الأميركية على قلب الطاولة على رؤوس أيّ سلطة سياسية، مملكة أو إمارة أو جمهورية أو ما شابه، والتجارب في تاريخ أغلب الدول بشكل عام، وتاريخ السعودية بشكل خاص، شاهدة على ذلك، وخصوصاً عندما حاولت المملكة اتخاذ قرار سيادي بتعليق مؤقت لإمداد النفط للغرب لمصلحة القضية الفلسطينية والعرب.
تخاف العائلة المالكة من خلق توتر أمني داخلي في المملكة، برعاية وعناية أميركية، وعلى خلفيات متعددة، سياسية أو أصولية أو إرهابية وما شابه، وهي تعلم جيداً أيضاً قدرة الأميركيين على ذلك، وتعدّ تجارب بعض دول الجوار، مثل العراق وسوريا، شاهدة على ذلك.
خوف العائلة المالكة من “إسرائيل” أيضاً، والتي تملك القدرة العسكرية (مقارنة مع قدرة السعودية) على أن تدمّر ما تريد من المنشآت الحيوية السعودية، وخصوصاً النفطية، وخلال ساعات، رغم ترسانة الأسلحة الضخمة التي تملكها السعودية، والتي تنقصها بعض المفاتيح التقنية التي تبعدها عن تحقيق تفوق أو توازن، رغم حداثتها وتطورها وإمكانياتها، وتمنعها حتماً من إمكانيّة استهداف “إسرائيل” في ما لو تغيّر الموقف السعودي ضد تل أبيب استثنائياً.
بالعودة إلى التساؤل الأساسي في الموضوع: “هل ينقذ رئيسي السعودية من الهيمنة الأميركيّة- الإسرائيليّة؟”، فهو يبدو لأوَّل وهلة تساؤلاً غريباً، وفي غير مكانه، إذ يحمل الكثير من التناقض مع المستوى المرتفع من الاشتباك الحاصل بين إيران والسعودية، والذي يظهر في العنوان العريض أن تعقيداته متشعبة ومتداخلة وغير قابلة للحلحلة بتاتاً، ولكن، أمام هذه التعقيدات، لماذا لا نقول: “لا شيء مستحيلاً”؟
إذا دخلنا تفصيلياً في أسباب الخلاف الإيراني السعودي، فهو لا يشبه بتاتاً أياً من الخلافات التاريخية بين الدول، والتي وقعت الحروب المدمرة بينها على خلفيتها، مثل الخلاف على أرض أو جزر أو مياه إقليمية أو مياه خالصة وما شابه.
كما أن الخلاف الديني الذي سبَّب حروباً تاريخية بين العديد من الدول، غير موجود بين السعودية وإيران، فالدين واحد، وما يجمعهما في هذه الناحية الكثير الكثير، وهو قادر على جعل التمايز المذهبي البسيط غير ذي معنى أو تأثير بتاتاً.
عملياً، الخلاف بين الدولتين سياسيّ تحت عنوانين رئيسين: الصراع على النفوذ، والموقف من الكيان الصهيوني. بالنسبة إلى الأول، تتّهم خلاله السعوديةُ إيرانَ بالتدخل في الدول والأحزاب العربية، وخصوصاً الشيعية، وتقول الرياض إنَّ طهران تعمل على تقوية هذه الأحزاب والمجموعات وتسليحها داخل بعض الدول العربية، بهدف مواجهتها وتقويض موقعها عربياً وإقليمياً، وخصوصاً إسلامياً.
في المقابل، تتهم إيران السعودية بأنها تساهم، من موقعها المؤثر في العالم العربي والإسلامي، في تثبيت موقع الكيان الصهيوني في احتلاله أراضي عربية، وفي اغتصابه مقدسات إسلامية ومسيحية في فلسطين المحتلة، وتقول أيضاً إنَّ السعودية تساهم في إضعاف الموقف العربي الذي يمكن أن يكون أقوى وأصلب، لو كان جامعاً، في وجه الهيمنة الغربية على الدول الإسلامية.
إذا بحثنا جيداً في هذا الخلاف السياسي، واعتبرنا استطراداً أن عناصره صحيحة، كما ذُكرت، من ناحية السعودية وإيران، لوجدنا أن “إسرائيل” تمتلك حصّة كبيرة فيه، فهي “الدولة” المحتلّة الّتي تغتصب الأرض والمقدسات. وبسببها، نشأت حركات المقاومة التي تدعمها إيران، على خلفية مقاومة “إسرائيل” في الأساس، لتدخل مع الولايات المتحدة الأميركية على خط العمل لشيطنة هذه الأطراف المقاومة، باعتبارها صنيعة إيرانية، بهدف استهداف وتقويض موقع السعودية ودورها.
ماذا لو أقدمَ الرئيس الإيراني اليوم، إبراهيم رئيسي، وهو الرئيس القوي بخلفيته الثورية وتاريخه المهني القضائي، على تجاوز هذه الخلافات والتقدم عدة خطوات باتجاه السعودية، ولو لم تقابل بداية بمثلها، فإيران تملك من الحكمة والصبر والذكاء الكثير لكي تستوعب بداية موقفاً صادماً من السّعودية، وهي قادرة على الاقتراب (حتى لو من دون تجاوب) من دون أن تستسلم، إذ ربما تكون بذلك قد ساهمت في تقوية موقف السعودية رغماً عنها بداية. وليس مستبعداً أن تصل الأخيرة إلى موقف التخلّي عن الخوف من التسلّط الأميركي، عندما تجد أنَّ هناك أخاً شقيقاً قوياً يقف إلى جانبها بمواجهة الأميركيين والصهاينة.
إنَّ تجربة وقوف طهران مع أطراف محور المقاومة في لبنان أو غزة المحاصرة، ولو بإمكانيات مقيَّدة ومحدودة بسبب الظروف الجغرافية والسياسية الصعبة، وانتصارها (المقاومة اللبنانية والفلسطينية) على “إسرائيل” في أكثر من واقعة، وآخرها عملية “سيف القدس”، يجب أن تشكّل النموذج الأمثل للسعودية لفعالية الدعم الإيراني، يضاف إليها النموذج الإيراني في المواجهة المفتوحة، وعلى الصعد كافة، بين واشنطن وطهران، إذ استطاعت الأخيرة الصمود والثبات، رغم المسار الضخم من العقوبات والضغوط المختلفة.
طبعاً، سوف يربح العرب والإسلام بشكل عام، والسعودية بشكل خاص، الكثير، في ما لو استطاعت إيران والسعودية دفن هذا الخلاف غير الواقعي بينهما. ولن تستطيع “إسرائيل” أو الولايات المتحدة الأميركية أن تفعل شيئاً لمواجهة ذلك، إذ إنَّ تجربة إيران أمام كلّ الاعتداءات والمحاولات الأميركية والإسرائيلية خير دليل على عجز هؤلاء عن مواجهة هذا الواقع، في حال تحقَّقت العلاقة الجيّدة والودّية بين السّعوديّة وإيران، وخصوصاً أنّ الدولتين تملكان إمكانيات ضخمة قادرة، في ما لو توحَّدت، أو على الأقل في ما لو تحرّرت كلّ منها من الضغط على الأخرى، على أن تشكل جبهة قوية متماسكة، مالياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً وقومياً، لا يمكن مواجهتها والتأثير فيها.