حضور القلب في الصلاة / قراءة في كتاب ( الأربعون حديثاَ ) للإمام الخميني
حضور القلب في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من المعضلات الكبيرة التى تواجه الإنسان المؤمن هو كيفية تحصيل حضور القلب فى العبادة وخاصة فى الصلاه ، مما يُفقد الإنسان روح العبادة ، ونورها ، وجمالها ، بل يجعلها ثقيلة على النفس ، وهذا الشعور بالثقل لو تدبرنا فيه لوجدناه فيه ما فيه من الجفاء مع الله عز وجل ..
وللإمام الخمينى رضوان الله عليه مقالاََ فى موضوع ( حضور القلب ) ، وذلك فى شرح الحديث السابع والعشرون من كتابه ( الأربعون حديثاَ ) .. نحاول تبسيطه لعل الله يشرح قلوبنا لفهمه والعمل به
نص الحديث
ــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «في التوراة مكتوب يابن آدم تفرّغ لعبادتي املأ قلبك غنى ، ولا أكِلُك إلى طلبك ، وعليّ أن أسد فاقتك ، وأملأ قلبك خوفا مني . وإن لا تَفرّغ لعبادتي أملأ قلبك شُغلا بالدنيا ثم لا أسد فاقتك وأكِلُك إلى طلب )
1 ـ كيف يمكن تحصيل ( حضور القلب ) فى العبادة ؟
يمكن ذلك عن طريق :
أ ـ تكريس وتفريغ الوقت والقلب معاَ للعبادة
ب ـ إفهام القلب أهمية العبادة
يقول الإمام الخمينى فى هذا الشأن :
. والمقصود من تفريغ الوقت هو أن الإنسان يخصص في كل يوم وليلة وقتا للعبادة ويوطّن نفسه على العبادة في ذلك الوقت ، رافضا الانشغال في ذلك الوقت بأي عمل آخر
.
إن الإنسان إذا اقتنع بأن العبادة من الأمور الهامة ، وأنها أكثر أهمية بالنسبة إلى الأمور الأخرى ، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى ، لحافظ على أوقات العبادة وخصص لها وقتا .
الروايات الوارده فى أهمية الصلا
الرواية الأولى :
(عن محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «لا تتهاون بصلاتك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند موته : ليس مني من استخف بصلاته ، ليس مني من شـرب مسكرا ، لا يـَرِد عليّ الحـوض لا والله(.
الرواية الثانية :
وبإسناده عن أبي بصير قال : قال أبو الحسن الأول عليه السلام : «لمّا حضرت ابى الوفاة قال لي : يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة»
يقول الإمام تعقيباَ على الروايتين :
(ويعلم الله وحده حجم المصيبة العظمى الناشئة من الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، والخروج من تحت ظل حمايته كما ورد في الحديثين الشريفين ؟ كما أن الله يعلم مستوى الخذلان ، عندما يُمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام ؟
ثم يستطرد الإمام قائلاَ :
عزيزي : إجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس ؛ فماذا بك إذا تكلمت مع صديق ، بل مع شخص غريب انصرف قلبك عن غيره ، وتوجّهت بكل وجودك نحوه ، أثناء التكلم معه ، ولكنك إذا تكلمت وناجيت ولي النعم ، ورب العالمين ، غفلت عنه وانصرفت عنه إلى غيره ؟ هل إن العباد يُقدّرون أكثر من الذات المقدس للحق ؟ أو أن التكلم مع العباد أغلى من المناجاة مع قاضي الحاجات ؟
ليس لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يتحدث الإمام عن كيفية حضور القلب عن طريق لجم طائر الخيال فيقول :
يجب على الإنسان الذي يريد السلوك إلى الله من إمساك الخيال فترة من الزمان ، وإلجامه عندما يريد أن يتحول من غصن إلى غصن آخر ـ ويتشتت ـ وبعد مضي فترة من المراقبة ، يُدَجّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتت ويصير الخير من عادته ـ والخير عادة ـ فينصرف فارغ البال إلى التوجه نحو الحق والعبادة
وفى الروايات الشريفة :
( . في الكافي : بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا : «إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها ، فإن أوهمها كلها أو غفل عن آدابها لُفَّت فضُرب بها وجه صاحبها
»
صلى صلاة مودع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو عبد الله عليه السلام : «يا عبد الله إذا صليت فصل صلاة مودّع يخاف أن لا يعود إليها أبدا ، ثم اصرف ببصرك إلى موضع سجودك ، فلو تعلم من عن يمينك وشمالك لأحسنت صلاتك ، واعلم أنك بين يدي من يراك ولا تراه»
الإقبال بالقلب على الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه قال : «لأحب للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يُقبل بقلبه إلى الله ولا يشغل قلبه بأمر الدنيا ، فليس من عبد يُقبِل بقلبه في صلاته إلى الله تعالى إلا أقبل الله إليه بوجهه وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبة بعد حب الله إياه»
كمال الإنقطاع إلى الله
وفى هذا نتذكر المناجاة الشعبانية :
«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعز قدسك»
يكفى ركعتين يعلم ما يقول فيها
عن أبى عبد الله عليه السلام يقول : «يقول من صلى ركعتين يعلم ما يقول فيهما ، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب إلا غفر له»
وفى رواية أخرى :
( ركعتان خفيفتان فى تفكر خير من قيام ليلة )
مراتب حضور القلب
1 ـ حضور القلب فى العبادة :
وهى مرتبتان ( حضور القلب إجمالا وحضور القلب تفصيلا ) وتفصيلا يكون عن طريق معرفة أسرار الصلاة
2 ـ حضور القلب فى المعبود :
إحداهما حضور القلب في تجلّيات الأفعال .
ثانيتها حضور القلب في تجلّيات الأسماء والصفات
وثالثتها حضور القلب في تجلّيات الذات ،
ولكل واحد من هذه المراتب الثلاث بصورة كلية أربع مراتب :
المرتبة العلمية ،
المرتبة الإيمانية ،
المرتبة الشهودية ،
المرتبة الفنائية
رواية عن مقام الشهود والفناء وهو من المقامات الخاصة بالأولياء الكاملين :
« روي أن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه ، فلما أفاق سُئل : ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه ؟ فقال ما معناه : ما زلت أكرّر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة والعيان ، فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الإلهية»
روايات بعض أسرار العبادات وتجسيم الأعمال
إن للعبادت بل لسائر الأعمال تجسد وصور ملكوتية حية ، وهذه بعض الروايات فى هذا الشأن :
1 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «من صلى الصلوات المفروضات في أول وقتها وأقام حدودها ، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول : حفظك الله كما حفظتني ، استودعني ملك كريم . ومن صلاها بعد وقتها من غير علة ولم يُقم حدودها ، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف بـه ضيّعتني ضيّعـك الله كمـا ضيّعتني ولا رعاك الله كما لـم ترعني»
يقول الإمام الخمينى تعليقا على هذا الحديث :
ويستفاد من هذا الحديث الشريف مضافا إلى تحقق الصورة الملكوتية للعمل ، حياة الصورة الملكوتية وشؤونها الحياتية أيضا ، وهذا ضرب من البرهان على تجسم الأعمال . والأخبار تدل على أن لجميع الموجودات حياة ملكوتية ، وأن عالم الملكوت كله حياة وعلم .«وإن الدار الآخرة لهي الحيوان
2 ـ وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل : «إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يَقدم أمامه ، كلما يرى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل ، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج ، خرجت معي من قبري وما زلت تُبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله عز وجل منه لأبشّرك»
النافلة تتمم الفريضة
قال أبو عبد الله عليه السلام : «يُرفع للرجل من الصلاة رُبعها أو ثمنها أو نصفها أو أكثر بقدر ما سَها ، ولكن الله تعالى يُتم ذلك بالنوافل
التفرغ فى العبادة يوجب الغنى فى القلب
ويقول علي بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس «وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها)
ويقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام «إستنكف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف بطلبها من مخلوق مثلي)
مفهوم إيكال أمر العبد لنفسه
ويختم الأمام الخمينى رضوان الله عليه المقال بهذه العبارة :
. لكن العبد لمّا ينصرف عن الحق ويتوجه إلى الدنيا وتتحكم فيه الطبيعة وتتغلب عليه الأنانية ويبرز فيه العجب والذاتية والمحورية ، يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر إلى العبد . وأما الإنسان الذي يولي وجهه نحو الحق والملكوت الأعلى ، ويغمر جوانب قلبه نور الحق ، فلا محالة تكون تصرفاته حقا ، بل يتحول في بعض المراحل وجوده إلى وجود الحق . كما أشير إلى بعض هذه المقامات في الحديث الشريف المذكور في الكافي عند عرضه لبعض آثار التقرب إلى الله بالنوافل . والله العالم .