أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 17
10 مايو,2020
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
1,026 زيارة
المجلسيّ – قدّس سرّه – بعد وصفه الحديث بأنّه صحيح احتمل في قوله عليه السّلام : « المتعمّقون » ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن يكون أمرا بالتعمّق ، فالمعنى : ليتعمّقوا فيه .
الثاني : أن يكون نهيا عنه ، فالمعنى : لا يتعمّقوا كثيرا بأفكارهم ، بل يقتصروا في معرفته سبحانه على ما بيّن لهم .
الثالث : أن لا يكون بمعنى الإنشاء ، سواء كان أمرا كالأوّل ، أو نهيا كالثاني ، بل هو إخبار ، ومبيّن للضابط والمعيار الذي يعرضون أفكارهم عليها ، فلا يزلَّوا ولا يخطأوا ، ثم قال رحمه اللَّه : والأوسط أظهر ، أي : كونه نهيا عن التعمّق بأفكارهم أظهر ؛ للزوم الاقتصار على ما بيّن لهم « 1 » .
أقول : الظاهر هو الأخير ، إذ لا مجال لحمل قوله عليه السّلام : « متعمّقون » على الإنشاء أوّلا ، ولكفاية الآيات الدالَّة على أنّه تعالى * ( لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ ) * ، وأنّهم * ( لا يُحِيطُونَ بِه ِ عِلْماً ) * ، وأنّه * ( لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ ) * ثانيا بلا فاقة إلى نزول هاتين السورتين ، ولأنّ نطاق هاتين السورتين مفيد لغير واحد من الأوصاف الإلهيّة الَّتي ترتعد فرائص العقول حولها ثالثا ، ولو كان الهدف السامي لنزولهما هو النهي عن التعمّق ونحو ذلك لكان لهما لسان آخر ، فالصواب هو : أنّ محتواهما بيان للمعيار النهائيّ في التوحيد حتّى تعرض عليه الأفكار والآراء كما استنبطه أساطين الحكمة ، فمحتوى السورتين ميزان قسط لا يحيد ، فلا بدّ من عرض المعارف عليه .
ومن هنا يظهر : أنّ ما أفاده بعض مشايخنا « 2 » – قدّس سرّه – من : أنّ الأظهر أنّ الرواية ذمّ للمتعمّقين إلى الَّذين يتصدّون لمعرفة ما لا يناله الإنسان من ذات اللَّه تعالى ، وأمر لهم بالاكتفاء بمفاد الآيات « 3 » ليس بتامّ ؛ لأنّ المطلب المذكور وإن كان حقّا في نفسه – لأنّ التصدّي لما لا ينال تهلكة وتيه – ولكنّ السورتين قد اشتملتا على معارف جمّة لم يكن في وسع من قدّمه الدهر أن ينالها ، كما لم يؤثر عنهم ما نالته رجال من فارس ، ولو لم يصدّر قوله – رحمه اللَّه – بما نقل عن صدر المتألَّهين – قدّس
سرّه – لكان لمقالة وجه وجيه ، ولكنّه – رحمه اللَّه – نقل أوّلا قول صدر المتألَّهين رحمه اللَّه ، ثمّ أتى بما نقل ، ولقد أجاد – قدّس سرّه – في تعليقته على شرح المولى الصالح للأصول من الكافي ، حيث فصل بين التعمّق المذموم والممدوح ، وقال رحمه اللَّه : وأمّا المذموم فالتعمّق فيما لا تصل إليه العقول من الكلام في الذات وتشبيهه تعالى بالأجسام . وأمّا الممدوح فالتفكَّر في عظمته وقدرته وحكمته وما يصل إليه العقول من صفاته « 1 » . كما أنّه أجاد الشارح – أي : المولى الصالح – في شرحه فراجع .
وبالجملة : أنّ سورة التوحيد وأوائل الحديد لاشتمالهما على الضابط الإلهيّ المصون عن أيّة مغالطة تكون ذريعة لنيل أسرار الصلاة وشهودها ؛ لأنّ المعرفة الحصوليّة بذر المشاهدة الحضورية كما قيل .
ولا مساغ لأحد أن يخالف ما في هاتين السورتين ، أو يختلف عنه ، أو يخلَّفه ، إذ المخالف له مناقض للقرآن الذي لا ريب فيه ، فالمخالف يتردّد في ريبة ، إذ مخالف ما لا ريب فيه مريب ، وأمّا المختلف معه المتخلَّف عنه فهو قاصر مفرّط . ومن المعلوم أنّ المتأخّر عن الحقّ زاهق ، والمتقدّم عليه المخلَّف له – أي : الذي يجعل نفسه إمام القرآن وأمامه ، ويجعل القرآن خلفه – فهو متعدّ مفرط . ومن الواضح أنّ المتقدّم على الحقّ مارق ، ومن سار على ما تهديه السورتان وسلك سبيلهما كاد أن يصل إلى سرّهما الذي هو الموجود العينيّ المتجلَّي بصورة السورة ، والمكتسي بكسوتها ؛ لأنّ اللازم للحقّ لا حق .
وليعلم : أنّ في بعض نصوص المعراج : أنّه قد أوحى اللَّه تعالى إلى رسوله – صلَّى اللَّه عليه وآله – الذي عرج به – في قراءة الركعة الأولى : اقرأ يا محمّد نسبة ربّك تعالى * ( « قُلْ هُوَ ا للهُ أَحَدٌ ا للهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ كُفُواً أَحَدٌ » ) * ، وفي قراءة الركعة الثانية : اقرأ « إنّا أنزلناه » فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة .
والذي يستفاد من هذا التعبير هو : أنّ نسبة كلّ موجود وما ينتمي هو به إنّما هو
الوجود الخاصّ ، والكمال الوجوديّ المخصوص . وأمّا العنوان الاعتباريّ والإضافة الطارئة الَّتي لا مساس لها بذات الشيء فلا دخل لشيء من ذلك في الانتماء .
والذي يصلح لأن يجعل نسبة الربّ تعالى هو الهويّة المطلقة الأحديّة البحتة الصمديّة الصرفة ، مسلوبا عن ذلك كلّ ما يرجع إلى النقص ، والذي يصلح لأن يجعل نسبة الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – وأهل بيته – أي : انتماء الإنسان الكامل ، والخليفة الشامل الجامع – هو كون قلبه مهبط الوحي ، وموطن الملائكة النازلة به فيما يرجع إلى التشريع أو غيره في خصوص الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله ، وفيما يؤول إلى غير التشريع في غيره صلى اللَّه عليه وآله ، والغرض : هو أنّ نسبة كلّ موجود إمكانيّ فإنّما هي تربطه إلى الأحد الصمد الذي هو المنسوب إليه لكلّ ما سواه .
وقد يلاحظ الترتيب في قوس النزول عكس ما في قوس الصعود ؛ لأنّ الصاعد إلى اللَّه يقرأ نسبة أهل البيت عليهم السّلام – أي : « إنّا أنزلناه . » في الركعة الأولى – ونسبة الربّ تعالى ، أي : « قل هو اللَّه أحد . » – في الركعة الثانية ؛ لأنّ الربّ تعالى مدينة الحقّ والتحقّق ، والإنسان الكامل بابها ، حسبما يستفاد من أدعية التكبيرات الافتتاحيّة كما تقدّم ، ويؤيّده ما في الزيارة الجامعة « . من أراد اللَّه بدأ بكم » ، وما في رواية الفقيه « 1 » . وإن كان الأمر في قوس النزول هو ما مرّ ؛ لأنّه تعالى أوّل كلّ شيء . نعم ، أوليّة كلّ شيء بأوّليّته تعالى ، وآخريّة كلّ شيء بآخريّته تعالى ؛ لأنّ ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات ، وأمّا هو تعالى فهو الأوّل بلا شيء كان قبله ، وهو الآخر بلا شيء يكون بعده .
أمّا القراءة في غير الأوليين فتجوز الفاتحة كما يجوز التسبيح ، أي : سبحان اللَّه ، والحمد للَّه ، ولا إله إلَّا اللَّه ، واللَّه أكبر ، والنصوص في بيان ما هو الأفضل فهما – أي :
القراءة والتسبيح – متعدّدة ، وفي بعضها تفصيل بين الإمام وغيره « 2 » . وعلى أيّ
تقدير : لو اختير التسبيح لكان اللازم على السائر سبيل السرّ الصائر إليه أن يتنبّه بما ورد من سرّ تربيع التسبيح ، وأنّه واقعيّة عينيّة ينتظم بها العرش وما دونه ، حيث إنّه ورد في سبب تكعّب الكعبة وبنائها على الجدران الأربعة من التعليل بكون البيت المعمور مربّعا ، المعلَّل تربيع ذلك البيت المعمور بكون العرش مضلَّعا بأضلاع أربعة ، وجهات أربع ، المعلَّل تربيع العرش بكون التسبيح أربعا ، وهي : « سبحان اللَّه . »
2020-05-10