ودمتم بخير.
الاخ جنيد المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
للإجابة على السؤال يحسن بنا أن نذكر كيفية تشريع الأذان عند أهل السُنّة.
إذا رجعنا إلى الروايات التي وردت عند أهل السُنّة عن كيفية تشريع الأذان نجدها تذكر بأنّ التشريع جاء من رؤيا رآها صحابي، أو صحابيان، أو سبعة، أو أربعة عشر – حسب اختلاف الروايات – ومن ثمّ اقترح تلك الرؤية على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنبيّ استحسن ذلك الفعل وأمر الناس بفعله وأضافه إلى الصلاة.
وإليك نصّ الرواية: ((اهتمّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للصلاة، كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها أذّن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع – يعني الشبور، وقال زياد: يعني شبور اليهود – فلم يعجبه ذلك، وقال: (هو من أمر اليهود)، قال: فذكر له الناقوس، فقال: (هو من أمر النصارى)، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربّه وهو مهتمّ لهمّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأُري الأذان في منامه.
قال: فغدا على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره، فقال له: يا رسول الله! إنّي لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطّاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، ثمّ أخبر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له: (ما منعك أن تخبرني؟) قال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله)، قال: فأذّن بلال))(1).
وعند الرجوع إلى هذه الروايات الناقلة كيفية تشريع الأذان نجد الاختلافات الكثيرة فيها؛ ففيها:
1- إنّ الرواية عن ابن زيد مختلفة؛ ففي بعض النصوص أنّه رأى الأذان في المنام واليقظة، وفي نقل آخر تقول: رآه في المنام، وفي نقل ثالث تقول: إنّه قال: لولا أن يقول الناس لقلت: إنّي كنت يقظان غير نائم؟!
2- رواية تقول: إنّ عبد الله بن زيد رآه، فاخبر به النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأُخرى تقول: إنّ جبرائيل أذّن في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ جاء بلال فقال له: ((سبقك بها عمر))!!
3- رواية تنصّ على أنّ ابن زيد رآه، ورواية أُخرى تقول: إنّ سبعة من الأنصار رأوه، ورواية تقول: أربعة عشر صحابياً رأوه، ورواية تدخل عبد الله بن أبي بكر.
4- رواية تنصّ على أنّ بلالاً كان يقول: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله، حيّ على الصلاة، فقال له عمر: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فقال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبلال: ((قل كما قال عمر))!!
5- رواية تفرد فصول الأذان، ورواية أُخرى تثنّيها؟!
6- رواية تقول: إنّ عبد الله بن زيد هو الذي أخبر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، ثمّ أخبره عمر بن الخطّاب، فقال له النبيّ: (ما منعك أن تخبرني)؟!(2)
أوقع اختلاف الروايات الشرّاح والمحدّثين في كيفية الجمع بين هذه الأحاديث، فقالوا:
أوّلاً: إنّ هذه الرؤية هي رؤية غير الأنبياء(عليهم السلام)، ورؤية غيرهم لا يثبت بها حكم شرعي؟!(3).
وقد أجابوا عن هذا الإشكال بقولهم: باحتمال مقارنة الوحي لذلك(4)!
وهذا كلام بارد لا يمكن أن يبنى عليه حكم شرعي، ما دام أنّ مجيبه صدّره بالاحتمال؛ إذ الاحتمال لا يجري نفعاً في المقام ما دامت المسألة شرعية، وتحتاج إلى قطع ويقين من أنّ الوحي أمر بمثل تلك الرؤية!
وأُجيب أيضاً: أو لأنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر بمقتضى الرؤية لينظر أيقرّ على ذلك أم لا، ولا سيّما لمّا رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه(5)!!
وفيه بطلان واضح؛ إذ إنّ ذلك ليس من اجتهاده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) – على القول بكونه يجتهد في الأحكام الشرعية، كما يجوّزون ذلك – وإنّما هي رؤية لغيره فلا محلّ لإقحام مسألة جواز الاجتهاد له في الأحكام هنا من عدمه؟!
على أنّه لماذا لا يأتيه الوحي ابتداءً ويخبره بكيفية الأذان بدل إحالته إلى رؤية شخص، ثمّ إمضاء ذلك الفعل من قبله؟!
أضف إلى ذلك: إنّ الصلاة شُرّعت في ليلة معراج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلماذا لم يُشرّع معها الأذان، وترك النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حيرة من أمره لا يدري كيف يُعلم الناس بوقت الصلاة، حتّى فرّج عنه برؤيا عبد الله بن زيد، أو عمر بن الخطّاب، أو بلال، أو أبي بكر، أو غيرهم من الصحابة؟!
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): ((وقد حاول السهيلي الجمع بينهما، فتكلّف وتعسّف، والأخذ بما صحّ أولى؛ فقال – بانياً على صحّة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي ــ: أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سمعه فوق سبع سماوات وهو أقوى من الوحي، فلمّا تأخّر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابي المنام فقصّها، فوافقت ما كان(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سمعه فقال: إنّها لرؤيا حقّ، وعلم حينئذ أنّ مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سُنّة في الأرض، وتقوّى ذلك بموافقة عمر؛ لأنّ السكينة تنطق على لسانه، والحكمة أيضاً في إعلام الناس به على غير لسانه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): التنويه بقدره، والرفع لذكره بلسان غيره؛ ليكون أقوى لأمره، وأفخر لشأنه))(6).
وفي كلامه تكلّفات كثيرة نشير إليها تباعاً:
1- إقراره بأنّ الأذان سمعه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سواء كان في معراجه الأوّل أو الثاني، وهذا ما نقرّه ونصحّحه؛ لِما سيأتي، لكنّه تعلّل بأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يخبر به إلاّ بعد رؤيا عبد الله بن زيد وتأييده برؤيا عمر الذي تنطق السكينة على لسانه.
إلاّ أنّ هذا الكلام باطل؛ لأنّ الروايات تذكر أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقي حائراً في كيفية إعلام الناس بالصلاة، واقترح عليه الصحابة عدّة اقتراحات – كوضع راية، أو شبور، أو استخدام شعار النصارى – والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يقبل ذلك، وبقي حائراً، فإذا كان النبيّ قد سمع الأذان من فوق سبع سماوات فلا معنى للحيرة حينئذ، بل بنفسه يشرّع لهم الأذان الذي سمعه في السماوات بلا تردّد، وعدم الحاجة إلى رؤيا زيد وتأييد عمر!!
وإذا كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقدم على الفعل بعد تأييده برؤيا زيد وعمر، فهذا يعني تشكيك النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما سمعه من الأذان في السماء، وهذا باطل لأنّه يلزم منه خلاف ما فرضه السهيلي من الجزم بسماعه في السماء السابعة.
2- إنّ الرواية التي صحّحها السهيلي واردة بلفظ: إنّ مَلَكاً من السماء علّم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأذان كما علّمه الصلاة، ومن الواضح أنّ تعليم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الله تعالى حتّى يعلّم أُمّته، والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد فعل ذلك، فقد علَّم أُمّته الصلاة، فإذاً لا بدّ أن يعلّمهم الأذان، وإلاّ كان قد أخفى عليهم ما كان عليه تعليمهم، وهذا باطل لا يُرتضى في حقّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
3- إنّ الروايات صريحة في أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا اقترحوا عليه ما تفعله اليهود رفض، وما تفعله النصارى فرفض أيضاً، وعلّل ذلك بكراهة مشابهتم، مع أنّهم رووا في روايات أُخرى صحيحة أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل فيه وحي، والمفروض أنّ هذا لم ينزل فيه وحي، فعليه لا بدّ أن يوافقهم الرسول ولا يردّ اقتراحهم!!
4- إنّ تعليل الكلام بكون ((إعلام للناس به على غير لسانه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخم لشأنه)) تعليل عليل؛ لأنّ هذا الأمر يتعلّق بالشرع المقدّس، فإظهاره على لسانه أشدّ وأقوى من إظهاره على لسان غيره؛ لأنّه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) المكلّف بتبليغ الرسالة إلى الناس، وإلاّ إذا رضيت بهذا التعليل يلزم من أن تظهر تشريعات أُخرى على لسان غيره، لورد نفس التعليل فيها، مع إنّه لم يظهر ذلك ولم ينقل.
وفي الواقع إنّ هذه الأُمور التي يذكرونها ما هي إلاّ تعليلات عليلة اخترعتها عقولهم، وصوّرتها مخيّلتهم لأجل تبرير الواقع الذي نقلته هذه الروايات، من كون الأذان ناشئ عن رؤيا لعبد الله بن زيد، فالتجؤوا إلى هذه الأُمور العليلة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، بدل حفظ كرامة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والرسالة والإيمان بأنّ الأذان شرّعه الله تعالى على لسان نبيّه الكريم لا عن رؤيا لأحد الصحابة أو اقتراح التزم به النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!! فإنّ ذلك كلّه يؤدّي إلى استنقاص الرسالة والحطّ من قيمتها الإلهية!
وسوف نبيّن لاحقاً أنّ الأذان تشريع إلهي نزل من السماء، فكن على ذكر من ذلك.
وهناك إشكال عامّ يرد على جميع الروايات، وهو ما ذكره الحاكم في (المستدرك)؛ إذ قال: ((وإنّما ترك الشيخان – البخاري ومسلم – حديث عبد الله بن زيد في الأذان، والرؤيا التي قصّها على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا الإسناد؛ لتقدّم موت عبد الله بن زيد، فقد قيل: إنّه استشهد بأُحد، وقيل بعد ذلك بيسير))؟(7).
فإذاً تبطل الرواية من الأصل؛ لأنّها رويت بعد موت عبد الله بن زيد وهذا لا يمكن قبوله، ودليل على وضع الرواية، وبطلان كلّ ما يبنى عليها، واستند إليها.
وقال ابن حجر: ((وفي (الحلية) في ترجمة عمر بن عبد العزيز، بسند صحيح عن عبد الله العمري، قال: دخلت ابنة عبد الله بن زيد بن ثعلبة على عمر بن عبد العزيز فقالت: أنا ابنة عبد الله بن زيد، شهد أبي بدراً، وقتل بأُحد! فقال: سليني ما شئت، فأعطاها))، ونقل عن الحاكم: أنّه قتل بأُحد..
فالروايات كلّها منقطعة(8)!!
وعليه، تكون الروايات المروية عن رؤيا الأذان منقطعة، ولكنّنا مع ذلك نجد ابن حجر يستدلّ برؤيته على شرعية الأذان!!
فانظر إلى الأمانة العلمية والتقوى التي يحملها ابن حجر، وغيره من أقطاب المذهب السنّي!!
والصحيح: أنّ الأذان شرّعه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر الله تعالى، وقد وردت بذلك روايات عديدة من طرق أهل السُنّة، وهي صحيحة السند أيضاً:
الأولى: أخرج الحاكم بسنده عن سفيان بن الليل، قال: ((لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان، قدمت عليه المدينة وهو جالس في أصحابه، فذكر الحديث بطوله، قال: فتذاكرنا عنده الأذان، فقال بعضنا: إنّما كان بدء الأذان رؤيا عبد الله بن زيد بن عاصم! فقال له الحسن بن علي: (إنّ شأن الأذان أعظم من ذاك؛ أذّن جبرائيل(عليه السلام) في السماء مثنى مثنى، وعلّمه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأقام مرّة مرّة، فعلَّمه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)) فأذّن الحسن حين ولي))(9).
وعلّق الذهبي على الرواية بقوله: قال أبو داود: نوح كذّاب، وهو قول ابن الملقّن. انتهى(10).
نوح المقصود هو: نوح بن درّاج، اتّهم بالكذب والوضع! ولم يبيّن سبب كذبه، ولكن الجوزجاني كشف لنا عن سبب تضعيفه؛ فقال: زائغ(11).
ومقصود الجوزجاني بالزيغ هو: التشيّع، كما أفصح عن ذلك الذهبي في ترجمة الجوزجاني في (ميزان الاعتدال)(12).
وقال النجاشي في ترجمة ابنه أيوب: ((وأبوه نوح بن دراج كان قاضياً بالكوفة، وكان صحيح الاعتقاد))(13).
وعليه فسبب طعنه: كونه شيعياً، لا غير، وإلاّ إذا رجعنا إلى ترجمته نجدهم رموه بالكذب والزيغ والوضع بلا أي مبرّر أو دليل، أو قل: هو جرح مبهم، وقد كشف عنه الجوزجاني فصار جرحاً مفسّراً، وبما أنّه ليس بجرح حتّى على مبانيهم، فيكون جرحه لا قيمة له ويحكم بوثاقته، كما ذكر بعضهم! فإذاً الرواية صحيحة.
الرواية الثانية: عن زياد بن المنذر، حدّثني العلاء، قال: قلت لابن الحنفية: كنّا نتحدّث أنّ الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار، ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنّه كان رؤيا!! هذا والله الباطل!
ولكنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا عُرج به انتهى إلى مكان من السماء ووقف، وبعث الله ملكاً ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلّمه الأذان(14).
وهذا الحديث ضُعّف بسبب وجود زياد بن المنذر في الرواية!
وعند الرجوع إلى ترجمته نجد أن تضعيفه لم يكن لفرية ارتكبها، أو مروق عن الدين ركبه، وإنّما ضُعّف لأنّه شيعي يروي فضائل أهل البيت(عليهم السلام)؛ قال ابن عدي: ((ويحيى بن معين إنّما تكلّم فيه وضعّفه لأنّه يروي فضائل أهل البيت))(15).
وعلى ذلك تكون الرواية صحيحة السند، لأنّ تضعيف الراوي لم يكن ناشئاً عن جرح معتدّ به ومقبول، وإنّما ضُعّف لأجل التعصّب والهوى ضدّ أهل البيت(عليهم السلام).
ومن هذا يتّضح العداء الذي يكنّه علماء أهل السُنّة لأهل البيت(عليهم السلام)، والنفور من رؤية فضائلهم، ممّا أدّى بهم إلى جعل رواية فضائلهم موحية لتضعيف الراوي وإسقاطه عن المقبولية، وتتّضح لديك مقولة ابن حجر التي قال فيها: وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعة مطلقاً، ولاسيّما أنّ عليّاً ورد في حقّه: (لا يحبّه إلاّ مؤمن، ولا يبغضه إلاّ منافق)(16).
فالعداء متجذّر في كثير من علماء الحديث لغمورهم في النصب، فلذلك يطعنون برواة فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، ولك في النسائي، والصنعاني، والحاكم، وغيرهم خير شاهد.
وأمّا الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) والمروية في كتب علماء الشيعة فهي كثيرة، وتنصّ على أنّ الأذان تشريع من الله تعالى من دون مدخلية للأحلام والمنامات الليلية فيه(17).
ودمتم في رعاية الله