09 نزول القرآن الروحي والإيثار ، وكان كذلك منطق الوحي بتعليماته ، الواحدة تلو الأخرى .
7 ـ واشتد الأذى بالمسلمين ، فكانت قصص الغابرين إيذانا بحرب نفسية ، فما هم عنها ببعيد : ( وأنه أهلك عادا الأولى * وثمودا فما أبقى * ) (1) .
وكانت أحاديث الأنبياء مع أممهم ، واستقراء أحوالهم في العذاب ، نذيرا بما قد يصيب العرب نتيجة التكذيب ، والأمور تقاس بأضرابها : ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * ) (2) .
وهكذا الحال في كل من قوله تعالى :
( كذبت ثمود بالنذر * ) .
( كذبت قوم لوط بالنذر * ) .
( ولقد جاء ءال فرعون النذر * ) (3) .
وهي مؤشرات إنذارية في آيات من سورة واحدة ، فكيف بك في السور المكية كافة .
وقد ذكرت قريش بعذاب الاستئصال في الفترة المكية ، وكان ذلك مجالا رحبا من مجالات الوحي في هذه الحقبة العصيبة ، فثاب من ثاب إلى رشد ، وتجبر من تجبر في ضلال ، وأمثلة عديدة متوافرة ، ومن نماذجه قوله تعالى ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لأيات أفلا يسمعون * ) (4) .
وهكذا الإشارة إلى مجموعة الأمم المكذبة ، وقد مزقوا كل ممزق ، كما في قوله تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون * ) (5) .
(1) النجم : 50 ـ 51 .
(2) القمر : 18 ـ 20 .
(3) على التوالي : سورة القمر : 23 ، 33 ، 41 .
(4) السجدة : 26 .
(5) المؤمنون : 44 .
وما قصة نوح عليه السلام مع قومه ، وموسى عليه السلام مع آل فرعون ، وصالح عليه السلام وشعيب عليه السلام وهود عليه السلام إلا مؤشرات فيما سبق .
8 ـ وقد تناسق بشكل متقن عجيب استقراء اليوم الآخر ، والتذكير بأهواله ومظاهره ، والتحذيرمن عذابه وكوارثه ، والتصريح بفناء الأعراض وذهابها ، وتلاشي العوالم ونهايتها ، وصفة الجنة والنار ، وحال المؤمنين والكافرين ، وقد مثل ذلك بسور فضلا عن الآيات ، وبمجموعة مكية منها زيادة عن المتفرقات ، وما سورة الرحمن والواقعة ، والحاقة ، والمعارج ، والمدثر ، والقيامة ، والمرسلات ، والنبأ ، والنازعات ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، والانشقاق ، والطارق ، والغاشية ، والبلد ، والقارعة ، والتكاثر ، وغير ذلك إلا معالم في هذا الطريق مضافا إلى مئات الآيات الأخرى المتناثرة نجوما في معظم السور المكية .
9 ـ وزيادة على التشريع المناسب في المدينة المنورة ، وإقرار الأحكام ، وتوالي الفروض ، والدعوة إلى الجهاد ، وتصنيف معالم القتال ، وتحديد سهام الحقوق ، فقد عانت المدينة من ظاهرة النفاق متسترة بالدين تارة ، ومتأطرة بسبيل أهل الكتاب تارة أخرى ، فقد تعدد مكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعظم وقعهم على المسلمين ، فكانوا رأس كل فتنة ، وأصل كل سوءة ، فالدسائس تحاك ، والأراجيف تروج ، والأباطيل تلوكها الألسن ، فما كان من القرآن إلا أن تعقبهم بالتي هي أحسن تارة ، وبالإنذار تارة أخرى ، وبالتقريع والتوبيخ غيرهما ، فكان الوعيد على أشده ، والإغراء بهم على وشك الوقوع ، وقد عالج القرآن مشكلتهم ، وسلط الأضواء على تحركاتهم ، وتربصهم الدوائر بالإسلام ، وصور حالتهم النفسية والخلقية الجماعية والفردية ، وأبان واقعهم الدنيوي ومآلهم الأخروي ، وقد جاء ذلك متراصفا في سور عديدة ، لمعالجة كل حال بإزائها ، فكانت سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، والفتح ، والحديد ، والحشر ، والمنافقون ، والتحريم ، ميادين فارهة في تعقيب ظاهرة النفاق ، وحقيقة المنافقين ، فكان ذلك سمة لهم لا تبلى .
ولا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب وسواه فهو بديهي
لاستكمال الرسالة وضرورة تطبيقها ، ومواكبة الوحي لهذه الأحداث والأزمات والمؤشرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيا وزمنيا مع مرحلية الظروف .
10 ـ وهناك العلاقة الثنائية بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهناك التجاوب المطلق بينهما ، وكان تحقق ذلك في التدرج بالنزول ، وكانت الأزمات وهي تحاول أن تعصف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تضرب فجأة بإرادة الوحي الإلهي ، فهو إلى جنبه ، يشد عزمه ، ويقوي أسره ، ويسلّيه تارة ، ويعزيه تارة أخرى ، ويصبره ويؤسيه ، فيما يقتص له من الأنباء ، وما يورده من الصبر ، وما يحدده من الأحكام ، مفرقا بين الحق الثابت الرصين ، والباطل المتزعزع الواهن ، وفي ذلك تثبيت له على المثل ، وتحريض له على المثابرة ، وإعلام له بالنصر ، لأنها سنة الله مع رسله وأنبيائه .
وهناك أسئلة تتطلب الإجابة المحددة . وحوادث تستدعي القول الفصل ، ولا يضمن هذا إلا الوحي فيما ينزل به ، فقد سألوه عن الخمر والميسر ، وسألوه عن المحيض ، وسألوه عن القتال في الأشهر الحرم ، وسألوه عن الأهلة ، وسألوه عن الساعة ، وسألوه عن الروح ، وسألوه عن الأنفال ، وسألوه عن الجبال ، وسألوه عن ذي القرنين .. وهكذا ، فتصدر الوحي للإجابة الفاصلة …
واستفتوه في النساء ، واستفتوه في الكلالة ، فأفتاهم الوحي عن الله . ووقع الظهار ، والايلاء ، وحادثة الإفك وغنموا في الحرب ، وحصل الزنا ، ونزلت السرقة ، وبدأ القتل العمد والقتل الخطأ ، وهي حوادث متعددة ، وقد نزلت أحكامها المتعددة ، وهكذا .
إن الإحصاء الدقيق لهذه الجزئيات قد لا ينتهي إلا بصفحات كبيرة لا يتسع لها هذا البحث ، وفيما أشرنا له غنية في التمثيل التطبيقي .
11 ـ وهناك ملحظ جدير بالأهمية في الوحي التدريجي ، يعود إلى التنزيل نفسه ، ليحكم فيه ناحيتين :
الأولى : أنه ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله وحده ، وذلك أن هذه المراحل المتعددة التي مر فيها ، لم يحصل فيه تفاوت في
الأسلوب البياني ، فهو في الأول نفسه في الوسط والآخر ، ومع كثرة الأحداث وتعدد المسؤوليات في بيان الأحكام ، وتدارك النوازل ، واستيعاب المشكلات ، لم يبد فيه ـ ولو مرة واحدة ـ أي اختلاف وتناقض ، ولو كان من كلام البشر ، لحصل فيه التفاوت والتناقض معا ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( ولو كان من عند غير الله لوجودوا فيه اختلافا كثيرا ) (1) .
الثانية : أن قليل هذا التنزيل وكثيره ، هو الدليل المتعاقب ـ مرة بعد مرة ـ على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن مراعاة المناسبة ، والعقل في الأمر الجلل ، والتحدث عن الغيب المطلق ، كل ذلك بتحديد قاطع ، وحجة لا تقبل جدلا ، لا يمكن أن يكون إلا من قبل الله تعالى ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمي يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتع به غيره من الناس الاعتياديين في القراءة والكتابة ، فكيف إذن بمسائل التشريع ، وأخبار الغيب ، وقضايا الساعة ، ومختلف الأحكام ، ولم يسبق له أن مارس قبل بعثته أي نوع من أنواع الثقافة والمعرفة ، التي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي ، وفي هذه القضية الخارجة عن مقدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد لقوله تعالى : ( >ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين ) (2) .
(1) النساء : 82 .
(2) الحاقة : 44 ـ 47 .
1 ـ أن المكي ما نزل بمكة ، والمدني ما نزل المدينة .
2 ـ أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة .
3 ـ أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة (1) .
ولكل من هذه الاصطلاحات مبررها التأريخي ، فالقول الأول ينظر إلى مكان النزول دون الالتفات إلى حدث الهجرة ، فالمكي ما نزل في مكة وإن كان بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة لا خارج حدودها ، فالمكان جزء من التأريخ في عملية التحديد .
والقول الثاني ، وهو المشهور ، ينظر إلى الزمان من خلال حدث الهجرة ، والزمان جزء من التاريخ ، وإن لم يكن التأريخ بعينه ، فما نزل قبل الهجرة فمكي ، وما نزل بعد الهجرة فمدني .
والقول الثالث ، ينظر إلى الأشخاص ، فما وقع خطابا لأهل مكة فهو مكي بحكم من نزل بين ظهرانيهم ، وما وقع خطابا لأهل المدينة فهو مدني بلمح من نزل فيهم ، والأشخاص عنصر التأريخ ومادته الأولى .
إلا أن المشهور بين العلماء والمفسرين ، وهو الرأي الثاني لاعتبار الهجرة هي الحدث الفصل في تأريخ الرسالة الإسلامية ، فالمكي ما نزل قبلها ، وإن خوطب به أهل المدينة ، وإن نزل حواليها كالمنزل بمنى وعرفات والجحفة مثلا ، أو خارجها كالمنزل في الطائف أو بيت المقدس ، بل وإن كان حكمه مدنيا .
والمدني ما نزل بعد الهجرة ، وإن خوطب به أهل مكة ، وإن نزل حواليها كالمنزل ببدر وأحد وسلع مثلا ، أو خارجها كالمنزل في الحديبية أو في مكة في حجة الوداع ، بل وإن كان حكمه مكيا .
والحق أن علمائنا القدامى قد عنوا في هذا الجانب عناية فائقة ، تتناسب مع جلال القرآن وعظمته ، واعتبروا علم نزول القرآن زمانيا ومكانيا
(1) ظ : الزركشي ، البرهان : 1 | 187 .
من أشرف علوم القرآن ، حتى ذهبوا إلىأن من لم يعرف مواطن النزول وأماكنه وأزمنته ، ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله .
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري ( ت : 406 هـ ) :
« من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء ، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك ، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني ، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي ، وما نزل بمكة من أهل المدينة ، وما نزل بالمدينة من أهل مكة ، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني ، وما يشبه نزول المدني في المكي ، ما ثم ما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالحديبية ، ثما ما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيعا ، وما نزل مفردا ، ثم الآيات المدنيات في السور المكية ، والآيات المكية في السور المدنية ، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة ، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ، ثم ما نزل مفسرا ، وما نزل مرموزا ، ثم ما اختلفوا فيه [ فقال بعضهم : مكي ] وقل بعضهم : مدني . هذه خمسة وعشرون وجها ، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله » (1) .
والحق أن ابن حبيب النيسابوري قد نبه إلى جزئيات وحيثيات مهمة ، مضافا إلى تقسيمه المكي ، ومثله المدني ، إلى مراحل : أولية ، ووسطية ، ونهائية ، وهي تقديرات تعنى بالتأريخ الدقيق لنزول سور القرآن وآياته ، وكأنه بهذا قد فتح الطريق أمام المستشرقين للخوض في هذه التفصيلات في محاولة لترتيب القرآن زمنيا ، ووصف كل ما يتعلق بمراحل نزول الوحي القرآني ، وقد علقوا على ذلك أهمية كبرى ، وكان المستشرق الألماني الأستاذ تيوردنولدكه ( 1836م ـ 1930م ) من أبرز المقتنعين في هذا المنهج وضرورة استقصائه ، وقد أخضع في ضوئه الحوادث الهامشية في الحروب والمغازي والمراسلات والوقائع لاستنتاجاته العلمية .
(1) الزركشي ، البرهان : 1 | 192 .