الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / العبادة الواعية

العبادة الواعية

الدرس العاشر

شوق اللقاء وألم الفراق

الصلاة في أول الوقت:

تقدم في البحوث السابقة أن الصلاة حوار مع المعبود ولقاء به. ولهذا الاعتبار نجد أولياء الله الصالحين الذين لا يعرفون لهم ولياً غير الله سبحانه وتعالى، ينتظرون بفارغ الصبر كل فرصة، ليبعثوا الحياة مرة أخرى في أرواحهم وأبدانهم المرهقة من عالم المادة. حيث يستعدون للمثول بين يدي المعشوق، ويأخذون للأمر عدّته، حتى قبل أن يحين وقت الصلاة، فيأتون بالمقدمات واجبة ومستحبة، وينظفون أبدانهم وثيابهم، ويعطرونها بمختلف العطور تهيّؤاً للقائه.

ونؤكّد هنا ما مرّ في بحث الاهتمام بالصلاة ضرورة أداء الصلوات في أوّل وقتها. فان كلّ صلاة وإن كان لها وقتاً موّسعاً. لكن ما يدعو إليه المؤذن تأكيد على لزوم المبادرة إلى الصلاة، والتعجيل في إقامتها في أوّل الوقت، وعدم صلاحية جعل العمل مبرراً لتأخيرها.

فقد كان أمير المؤمنين (ع) في أوج الحرب واحتدام القتال يتحيّن وقت الصلاة ويقول ما معناه: “نقاتل لإقامة الصلاة”[1].

وأقام نجله الإمام الحسين (ع) ظهر العاشر من محرم الصلاة في ساحة القتال رغم انهيال السهام والحراب عليه[2]. وقطع الإمام الرضا (ع) الحوار مع أحد اتباع الأديان السالفة ـ مع أنّ البحث بلغ مرحلة مهمّة ورغم إصرار الطرف المقابل على مواصلة النقاش، وإعلان استعداده لاعتناق الإسلام ـ وأسرع نحو الصلاة[3].

وقد قيل له مرّة: “ننتظر يلحق بنا أصحابنا” فأوصاهم بإقامة الصلاة في أول وقتها في مختلف الظروف ما أمكنهم ذلك، ثم أقام الصلاة.

وعندما كان الإمام الخميني (رض) في باريس اجتمع في منزله يوماً حوالي ثلاثمئة صحفي في مقابلة صحفية، ليسألوه عن آرائه حول فرار الشاه (الملك) من إيران والتطورات الحاصلة لكنه لم يكد يُسأل سوى بضع أسئلة إذ حلّ وقت الصلاة فنهض الإمام، وأسرع نحو الصلاة رغم الإصرار عليه بالاستمرار في المقابلة ولو لفترة قصيرة[4].

وفي أسفاره لم يدع الإمام (رحمه الله) الصلاة في أوّل وقتها رغم ما كان يسبّب له السفر من تعب وعناء، وفي مرضه أيضاً رغم ما يعانيه من الوجع والألم. وفي المدة التي قضاها في المستشفى طلب من الأطباء يوماً ـ بعد تناوله قرصاً منّوماً ـ إيقاظه عند أذان الظهر إذ لم يكن واثقاً من استيقاظه أوّل الوقت، فلما حلّ وقت الصلاة لم يشأ الأطباء إيقاظه وإزعاجه من النوم، فاستيقظ (رحمه الله) وقد مضى على الأذان مدة، فقام منزعجاً وصلى ثم تناول طعامه.

وسأل موسى (ع) ربّه في مناجاته: “إلهي ما جزاء من صلى الصلاة لوقتها؟ قال: أعطيه سؤله وابيحهُ جنتي”[5].

وفي رواية عن النبي الأكرم (ص) قال: “ما من عبد أهتم بمواقيت الصلاة، ومواضع الشمس إلاّ ضمنت له الروح عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار”[6].

تعقيبات الصلاة:

إن مفارقة الأعزّة، وتوديع الأخلّة أمر صعب جداً، ولا يحصل إلاّ بتثاقل وإكراه. والصلاة قرّة عين الرسول (ص) وأتباعه، وعزيزة نفوسهم كيف يمكن توديعها بسهولة؟! إن تعقيبات الصلاة علامة على أن المصلّي لا يختم الصلاة متجاهلاً أو متهاوناً، بل مصراً على مواصلة الارتباط بالله سبحانه، وأن لقائه بالصلاة لقاء عشق ومحبّة، وتوديعه إياها وداعاً صعب التصديق.

وتنقسم الأدعية التي يدعو بها المصلي عقب الصلاة إلى قسمين: عامّة (تقرأ عقب كل صلاة يومية)، وخاصة (تقرأ عقب صلاة معينة) منها. وجميعها وارد عن الأئمة المعصومين (ع)، فعن الإمام الصادق (ع) قال: “ثلاثة أوقات لا يُحجب فيها الدعاء عن الله عزّ وجلّ: في أثر المكتوبة، وعند نزول القطر، وظهور آية معجزة لله في أرضه”[7].

وفي حديثٍ آخر عن الرضا (ع) قال: قال رسول الله (ص): “من أدى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة”[8].

وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: “يا ابن آدم اذكرني بعد الغداة ساعة، وبعد العصر ساعة اكفك ما أهمك”[9].

وروي أن أحد أصحاب الإمام الباقر (ع) قال له: جعلت فداك! أنهم يقولون أن النوم بعد الفجر مكروه، لأن الأرزاق تقسّم في هذا الوقت؟ فقال: “الأرزاق موظوفة، مقسومة، ولله فضل يقسمه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وذلك قوله”: (واسألوا الله من فضله)[10].

وتضمنت رواية أخرى الوعد للمصلي بزيادة الشرف، ومحو السيئات، وكتابة الحسنات، ما دام جالساً في مصلاه عقب الصلاة حتّى ينصرف[11]:

وجاء في رواية أخرى: “إذا قام المؤمن في الصلاة بعث الله عزّ وجلّ الحور العين حتّى يحدقن به (ليرين ما يطلب)، فإذا انصرف ولم يسأل الله منهنّ شيئاً انصرفن متعجبات (كيف غفل عن اغتنام هذه الفرصة”[12].

وفيما يلي جملة من أهم الآداب والتعقيبات المستحب قراءتها بعد الصلاة:

1 ـ التكبير: في رواية عن رسول الله (ص) أنه عندما فتح مكّة، وزار الكعبة، وصلّى الظهر عند الحجر الأسود، كبّر ثلاثاً بعد التسليم، ودعا بدعاء الوحدة مع أصحابه قال مخاطباً أصحابه: “لا تدعوا هذا التكبير، وهذا القول في دبر كل صلاة مكتوبة، فإن من فعل ذلك بعد التسليم، وقال هذا القول كان قد أدّى ما يجب عليه من شكر الله تعالى ذكره على تقوية الإسلام وجنده”[13].

2 ـ تسبيح الزهراء (ع): هو أدب خاص علّمه رسول الله (ص) ابنته يقول فيه المصلي “الله أكبر” (34) مرّة، ثمّ “الحمد لله” (33) مرّة، ثمّ “سُبحان الله” (33) مرّة. وقد جاء في رواية أن هذا التسبيح يوجب غفران الذنوب، ويدفع الفقر، والأمراض الروحية والجسميّة[14].

وعن الإمام الباقر (ع) قال: “ما عبد الله بشيء من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة (ع) ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله (ص) فاطمة (ع)”[15] وفي رواية أخرى قال الصادق (ع) لأحد أصحابه:

“أنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة، كما نأمرهم بالصلاة، فإنه لم يلزمه عبد فشُقي”[16].

3 ـ البراءة من أعداء الإسلام ولعنهم: إن الإرتباط بالله سبحانه لابد وأن يقترن بالبراءة من غيره. فعن اثنين من أصحاب الإمام الصادق (ع) قالا: سمعنا أبا عبد الله (ع) وهو يلعن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال، وأربعاً من النساء[17].

فإن هذه الرواية تعكس بوضوح أن البراءة واللعن كانا قد وقعا بصوت عالٍ، غير أنه لابدّ من الالتفات إلى أن اللعن والبراءة يجب أن ينصبّا على أعداء الإسلام والمسلمين المعروفين بعداوتهم، وأن يكونا سبباً في وحدة المسلمين وصلابتهم.

4 ـ الاستغفار: يذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وجود عنصرين بين المسلمين هما اللذان يحولان من عذاب أُمّة الرسول (ص) حيث يقول:

(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله مُعذبهم وهم يستغفرون)[18].

وعن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة قال: “كان رسول الله (ص) والاستغفار حصنين لكم في العذاب، فقضى أكبر الحصنين، وبقي الاستغفار، فاكثروا منه”[19].

5 ـ سجدة الشكر: روي عن الإمام الرضا (ع) قال: “السجدة بعد الفريضة شكراً لله عزّ وجلّ على ما وفّق له العبد من أداء فريضة. وأدنى ما يجزي فيها من القول، أن يقال: شكراً لله، شكراً لله، شكراً لله، ثلاث مرات.

يقول العلامة المجلسي (رحمه الله) في ذيل الحديث المذكور ما نصُه:

“فإن كان في الصلاة تقصير لم يتم بالنوافل تمّ بهذه السجدة”[20].

هذا وقد تقدمت بعض الإيضاحات حول فضل وأهمية سجدة الشكر في باب السجود.

فبعد أداء العبادة وسجدة الطاعة يحين الوقت للاستغفار، وطلب الصفح، والعفو من الله سبحانه. ففي رواية عن الصادق (ع) قال بعد تعليمه الاستغفار ما مضمونه: “فما من أحد قال هذا إلاّ غفر الله له في كل يوم 40 كبيرة”[21].

6 ـ التبرّك بالمسجد: المصافحة خاتمة كل لقاء، فقد أُمر في وداع الصلاة أيضاً بأن يمرّ المصلي يده على موضع السجود، ويمسح بها وجهه وجسمه، وهو ما يضمن السلامة من كل مرض وضعف[22].

[1]  إرشاد القلوب.

[2]  منتهى الآمال.

[3]  عيون أخبار الرضا (ع).

[4]  وقائع من حياة الإمام الخميني (رض).

[5]  بحار الأنوار، ج82، ص204.

[6]  بحار الأنوار، ج83، ص9.

[7]  الأمالي للشيخ الطوسي ج1، ص287.

[8]  عيون أخبار الرضا (ع) ج2، ص28.

[9]  أمالي الصدوق (رحمه الله) ص193.

[10]  سورة النساء، الآية:32.

[11]  بحار الأنوار، ج85، ص323.

[12]  بحار الأنوار، ج85، ص18.

[13]  علل الشرائع ج2، الباب78.

[14]  بحار الأنوار ج85، ص7.

[15]  وسائل الشيعة ج4، ص1024.

[16]  فروع الكافي ج3، ص343.

[17]  فروع الكافي، ج3.

[18]  سورة الأنفال، الآية:33.

[19]  نهج البلاغة، الحكمة88.

[20]  بحار الأنوار ج86، ص198.

[21]  بحار الأنوار ج85، ص5.

[22]  امالي الشيخ الطوسي ج1، ص167 وبحار الأنوار ج85، ص206 و210.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...