الرئيسية / الاسلام والحياة / الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)- ج01 / الصفحات: ٣٠١ – ٣٢٠

 

٣٠١

الحنفية ليست من سبي أبي بكر:

أن أم محمد ابن الحنفية كانت سبيّة من سبايا الردة، قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد لمّا ارتدت بنو حنيفة، وادَّعت نبّوة مسيلمة.

وقالوا: إن أبا بكر دفعها إلى علي “عليه السلام” من سهمه في المغنم(١).

وقد اختلفوا فيها: هل هي أمة لبني حنيفة سوداء سنديّة؟!(٢)

أم هي عربية من بني حنيفة أنفسهم؟!

١- راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١ ص٢٤٤ وبحار الأنوار ج٤٢ ص٩٩ وسير أعلام النبلاء ج٤ ص١١٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٥ ص٩١ والمنتخب من ذيل المذيل ص١١٧ ووفيات الأعيان لابن خلكان ج٤ ص١٦٩ وقاموس الرجال ج٩ ص٢٤٦ وأعيان الشيعة ج١ ص٤٣٣ وتاريخ مدينة دمشق ج٥٤ ص٣٢٣ والمجموع للنووي ج١٩ ص٢٣٩ والبداية والنهاية ج٧ ص٣٦٨.

٢- الطبقات الكبرى لابن سعد ج٥ ص٦٦ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص٥٨ وذخائر العقبى ص١١٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٥٤ ص٣٢٣ وسير أعلام النبلاء ج٤ ص١١٤ والمعارف ص٢١٠ والمنتخب من ذيل المذيل ص١١٧ ووفيات الأعيان ج٤ ص١٦٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٦ ص١٨٣.

٣٠٢

الإستدلال على خلافة أبي بكر:

وانطلاقاً مما تقدّم، حاول البعض أن يتخذ من ذلك دليلاً على صحة خلافة أبي بكر.

يقول السمعاني: “كانت من سبي بني حنيفة، أعطاها إيّاه (كذا) أبو بكر الصديق، ولو لم يكن إماماً لما صحّ قسمته، وتصرّفه في خمس الغنيمة، وعلي “عليه السلام” أخذ خولة، وأعتقها، وقد تزوج بها”(١).

كما أن ابن الجوزي جعل ما يذهب إليه الرافضة في أبي بكر من أعجب التغفيل، بعد أن كانوا يعلمون باستيلاده الحنفية من سبيه. الأمر الذي يدل على رضاه ببيعته..(٢).

ونقول:

لاحظ ما يلي:

أهل السنّة في غنى عن هذا الإستدلال:

واستدلال هؤلاء بهذا الدليل غريب وعجيب:

١ ـ فإن صحة سبي المشرك، وصحة بيعه وشرائه، والإستيلاء عليه لا تتوقف على أن يكون السابي له عادلاً، أو حاكماً، أو خليفة، بل وحتى مسلماً أيضاً، إذ يجوز ذلك حتى ولو سباه مشرك مثله، أو سباه غير الحاكم، وغير

١- الأنساب للسمعاني ج٤ ص٢٩٩ و ٣٠٠ و (ط دار الجنان) ج٢ ص٢٨١.

٢- أخبار الحمقى والمغفلين (بتحقيق الخاقاني ـ ط سنة ١٣٨٦هـ) ص٩٩ ـ ١٠٠.

٣٠٣

الخليفة، ولا دلالة فيه على صحة خلافة أحد.

٢ ـ إن من يجوّز خلافة كل متغلب، ويرى وجوب طاعته، والإيتمار بأوامره، وعدم جواز الخروج، بل ولا الإعتراض عليه، وصحة كل تصرفاته.. كما هو مذهب هؤلاء المستدلين أنفسهم لا يفيده أخذ علي من سبي أبي بكر لإثبات مشروعية خلافته.. ولا يدل ذلك على تبرئة أبي بكر من غاصبيته لمقام ليس له.

ولعله لأجل هذا بعينه لم يرتض الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني، المعلق على أنساب السمعاني، هذا الإستدلال. حيث قال: “.. أهل السنّة في غنى عن مثل هذا الإستدلال”(١).

الحنفية من سبي بني أسد!!:

ونزيد على ما تقدم: أن كون الحنفية من سبي أبي بكر غير معلوم، بل نكاد نقطع بخلافه، وذلك استناداً إلى الأمور التالية:

١ ـ قال المعتزلي: “وقال قوم، وهم المحققون، وقولهم الأظهر: إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر الصديق، فسبوا خولة بنت جعفر، وقدموا بها المدينة، فباعوها من علي “عليه السلام”.

وبلغ قومها خبرها، فقدموا المدينة على علي “عليه السلام”، فعرفوها، وأخبروه بموضعها منهم، فأعتقها، ومهرها وتزوجها، فولدت له محمداً،

١- الأنساب للسمعاني ج٤ هامش ص٢٩٠.

٣٠٤

فكنّاه أبا القاسم..

وهذا القول هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بـ: (تاريخ الأشراف)”(١).

وقد ذكر البلاذري عن علي بن المغيرة الأثرم، وعباس بن هشام الكلبي نحو ما تقدم.. ثم قال: “وهذا أثبت من خبر المدائني”(٢).

ولكن نص رواية الكلبي عن خراش بن إسماعيل كما يلي: إن خولة سباها قوم من العرب في خلافة أبي بكر، فاشتراها أسامة بن زيد بن حارثة، وباعها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “عليه السلام”، فلما عرف أمير المؤمنين صورة حالها أعتقها، وتزوجها، ومهرها.

وقال ابن الكلبي: من قال: إن خولة من سبي اليمامة فقد أبطل(٣).

١- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١ ص٢٤٤ و ٢٤٥ وقاموس الرجال ج٨ ص١٦٠ و(ط مركز النشر الإسلامي سنة ١٤١٩ هـ) ج٩ ص٢٤٦ وأنساب الأشراف ص٢١٠ وبحار الأنوار ج٤٢ ص٩٩ وأعيان الشيعة ج١ ص٤٣٣ وج٩ ص٤٣٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٢٧ وتنزيه الأنبياء للمرتضى “رحمه الله” ص١٩١.

٢- أنساب الأشراف (تحقيق المحمودي ـ ط مؤسسة الأعلمي سنة ١٣٩٤هـ) ج٢ ص٢٠١.

٣- عمدة الطالب لابن عنبة ص٣٥٢ و ٣٥٣ والمجدي في أنساب الطالبين ص١٤ والمنمق ص٤١٠.

٣٠٥

ولكن الحقيقة هي: أن ما ذكروه من شراء علي “عليه السلام” لها، وإن كان صحيحاً، ولكنهم غلطوا في قولهم: إن شراءها كان في زمن أبي بكر، بل كان ذلك في زمن الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله” كما ذكره الآخرون، وتؤيده القرائن والشواهد الآتية.

٢ ـ قال البري التلمساني: “وأما أبو القاسم محمد بن علي، ابن الحنفية، فأمه من سبي بني حنيفة، اشتراها علي، واتخذها أم ولد، فولدت له محمداً، فأنجبت. واسمها: خولة بنت أياس بن جعفر، جانّ الصفا.

ويقال: بل كانت أمة لبني حنيفة، سندية سوداء، ولم تكن من أنفسهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق، ولم يصالحهم على أنفسهم”(١).

٣ ـ إن بعض ما ذكروه في وفاة ابن الحنفية، وفي مدة عمره يؤيد: أنه ولد في زمن الرسول “صلى الله عليه وآله”.

وعدم ذكره في جملة الصحابة ولو على سبيل الإحتمال، لعله غفلة منهم، أو لعدم ذهابهم إلى تلك الأقوال التي يقتضي الجمع بينها ذلك..

أو لأنهم قد سلّموا بأن أمه كانت من سبي أبي بكر، ولم يخطر على بالهم غير ذلك.. وبيان ذلك:

أن ابن الحنفية قد عاش على أشهر الأقوال خمساً وستين سنة.. بل لقد وجد في هامش عمدة الطالب: أنه مات وله “سبع وستون سنة”(٢).

١- الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص٥٨.

٢- راجع: عمدة الطالب، هامش ص٣٥٢.

٣٠٦

وإذا أضفنا إلى ذلك: أن ابن حجر يختار: أن وفاته كانت سنة ٧٣، وينسب سائر الأقوال إلى (القيل)، والظاهر: أن دليله هو ما رواه البخاري في تاريخه، حيث قال: “حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي حمزة، قال: قضينا نسكنا حين قتل ابن الزبير، ثم رجعنا إلى المدينة مع محمد، فمكث ثلاثة أيام ثم توفي..”(١).

فإننا لا بد وأن نستنتج: أن ولادة ابن الحنفية قد كانت سنة ٨ للهجرة، بل قبلها.

وعلى هذا.. فلا يصح أن تكون من سبي أبي بكر على يد خالد بن الوليد، كما يدَّعون..

وقولهم: إن علياً “عليه السلام” لم يعرف في حياة فاطمة “عليها السلام” غير فاطمة، لا يتلاءَمُ مع هذا البيان، فإنه لما أرسله الرسول “صلى الله عليه وآله” ليأخذ الخمس من خالد وأصحابه اصطفى جارية، وأصابها، وشكوه إلى رسول الله “صلى الله عليه وآله” فناصره عليهم(٢).

١- راجع: تهذيب التهذيب ج٩ ص٣٥٤ و ٣٥٥ و (ط دار الفكر سنة ١٤٠٤هـ) ج٩ ص٣١٥ و ٣١٦ وراجع: التاريخ الكبير للبخاري ج١ ص١٨٢ وتاريخ مدينة دمشق ج٥٤ ص٣٥٦ و٣٥٠ و٣٥١.

٢- نيل الأوطار ج٧ ص١١٠ والعمدة لابن البطريق ص٢٧٥ والبداية والنهاية ج٧ ص٣٤٤ و ٣٤٥ عن كثير من المصادر، ومسند أحمد ج٥ ص٣٥١ و ٣٥٩ وصحيح البخـاري ج٥ ص١١٠ والسنن الكـبرى للبيهقي ج٦ ص٣٤٢ = = وخصائص أمير المؤمنين “عليه السلام” للنسائي ص١٠٢ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص١٩٤ و ١٩٥ وأسد الغابة ج١ ص١٧٦ وتهذيب الكمال للمزي ج٢٠ ص٤٦٠ وسبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢٣٦ وراجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي “صلى الله عليه وآله” (الطبعة الرابعة) ج٥ ص٣١٧ و (الطبعة الخامسة) ج٦ ص٢٧١ خطبة علي “عليه السلام” بنت أبي جهل.

٣٠٧

وذكر لهم أنه لا يفعل إلا ما يأمره به.

فلا مانع بناء على ذلك من ولادة ابن الحنفية في عهد رسول الله “صلى الله عليه وآله”.

لكن يبقى الإشكال، بأن ذلك يتنافى مع روايات تحريم النساء على علي “عليه السلام” ما دامت فاطمة “عليها السلام” على قيد الحياة.. إلا أن يجاب بما قدمناه، من أن المقصود هو حرمة ذلك عليه، إلا إذا طلبت منه ذلك فاطمة “عليها السلام” نفسها، أو أمره رسول الله “صلى الله عليه وآله” بذلك لمصلحة تقتضيه أو يكون المحرم هو الزواج الدائم، لا التسري.. فراجع.

٤ ـ هناك نصوص تدل على أنه تزوجها وولدت له بعد استشهاد الزهراء “عليها السلام”، فلاحظ ما يلي:

ألف: قال أبو نصر البخاري الذي كان حياً سنة ٣٤١هـ: “..روي عن أسماء بنت عميس، أنها قالت: رأيت الحنفية سوداء، حسنة الشعر، اشتراها علي “عليه السلام” بذي المجاز ـ سوق العرب ـ أوان مقدمه من اليمن، فوهبها فاطمة “عليها السلام”، وباعتها فاطمة من مكمل الغفاري،

٣٠٨

٣٠٩

الرسول “صلى الله عليه وآله” حيث سمى باسمه، وكنى بكنيته، فاستشهد علي “عليه السلام” بنفر من قريش، فشهدوا: أن رسول الله “صلى الله عليه وآله” قال: إنه سيولد لك بعدي غلام، فقد نحلته اسمي، وكنيتي، ولا تحل لأحد من أمتي بعده(١).

هـ: قال المعتزلي: “.. وقال قوم، منهم أبو الحسن، علي بن محمد بن سيف المدائني: هي سبية من أيام رسول الله “صلى الله عليه وآله”، قالوا: بعث رسول الله “صلى الله عليه وآله” علياً “عليه السلام” إلى اليمن، فأصاب خولة في بني زبيد، وقد ارتدوا مع عمرو بن معدي كرب، وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم، فصارت في سهم علي “عليه السلام”.

فقال له رسول الله “صلى الله عليه وآله”: إن ولدت منك غلاماً فسمه باسمي، وكنه بكنيتي، فولدت له بعد موت فاطمة “عليها السلام” محمداً، فكناه أبا القاسم..”(٢).

١- الطبقات الكبرى لابن سعد ج٥ ص٩١ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٠٨ وج٥٤ ص٣٣٠ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج٤ ص١١٥ وإمتاع الأسماع ج١٣ ص١٨٧ والوافي بالوفيات للصفدي ج٤ ص٧٦ وكنز العمال ج١٤ ص٢٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٢٨ وج٢٣ ص٢٦٥.

٢- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١ ص٢٤٤ وقاموس الرجال للتستري ج٨ ص١٦٠ و (ط مركز النشر الإسلامي ١٤١٩هـ) ج٩ ص٢٤٦ عنه، وأنساب = = الأشراف (تحقيق المحمودي) ج٢ ص٢٠٠ وأعيان الشيعة ج٩ ص٤٣٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٢٧.

٣١٠

وأخيراً.. فلو كانت الحنفية أمة، وسوداء سندية، لرأينا عبد الله بن الزبير والأمويين يعيرون ابن الحنفية بها ولو مرة واحدة، ولا سيما إبان استفحال الخلاف بينه وبينهم، كما هو معروف ومشهور، وفي كتب التاريخ مسطور، مع أننا لا نجد لذلك أثراً أبداً. رغم المراجعة الدقيقة للمحاورات القاسية التي كانت تجري فيما بينهم..

خاتمة المطاف:

وبعد كل ما تقدم يتضح بما لا مجال معه للشك: أن ما يرسله الكتّاب والمؤرخون إرسال المسلمات من أن الحنفية كانت من سبي أبي بكر.. ليس له ما يبرره.. بل إن المحققين وقولهم هو الأظهر ـ على حد تعبير المعتزلي ـ يرون خلاف ذلك تماماً.. وعليه فالإستدلال بأمر كهذا ـ لو صح الإستدلال به ـ على خلافة أبي بكر ليس له ما يبرره، ولا منطق يساعده..

٣١١

ملحق الفصل الثامن

رقم (٢)

٣١٢

٣١٣

زينب (عليها السلام) عالمة غير معلمة:

أما بالنسبة للسيدة زينب “عليها السلام”، وهي بنت علي والزهراء “عليهما السلام”، فلا نريد أن نؤرخ لها هنا بل نكتفي بالإشارة إلى أمور ثلاثة:

الأول: انها هي التي حفظت حركة الإمام الحسين “عليه السلام”، وابلغتها مأمنها. ومنعت من تزوير الحقائق.. وقد بحث ذلك علماؤنا، وبينوا شطراً كبيراً من مواقفها الجهادية، التي لا تخفى على أحد.. فلا حاجة، بل لا مجال لنا للدخول في هذا البحث العميق، في مثل هذا الكتاب..

الأمر الثاني: إن الإمام السجاد “عليه السلام” وصفها بأنها “بحمد الله عالمة غير معلمة”، وثمة من يسأل عن المراد من هذه الكلمة، فنقول لأجل البيان والتوضيح:

يحتمل في هذه الكلمة أحد معنيين:

الأول: انها عالمة بالله تعالى وبآياته الظاهرة، من خلال فطرتها الصافية، وعقلها الراجح، وتدبرها في آيات الله تعالى، فلا تحتاج إلى من يعرفها بما يتوجب عليها في مثل هذه المواقع الحساسة من التحلي بالصبر، وجميل العزاء، والكون في مواقع القرب من الله تعالى، راضية بقضائه، صابرة على

٣١٤

نزول بلائه..

ولعل هذا المعنى هو المناسب لواقع الأمور التي تواجهها.. والتي دعت الإمام السجاد “عليه السلام” لأن يقول لها ذلك..

الثاني: أن يكون مراده “عليه السلام”: أنها قد بلغت مراتب عالية جعلتها أهلاً لتلقي الإلهامات الإلهية الهادية، لأن الله تعالى فتح باب فهمها، وأيقظ فطرتها، وأصبحت محلاً لنور العلم الذي يقذفه الله في قلب من يشاء، على قاعدة {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}(١). بل قد يكون ذلك بواسطة الملك المحدث، تماماً كما كان الحال بالنسبة لسلمان وغيره من الصفوة الأخيار، والأبرار.

فهي عالمة غير معلمة من أحد من الناس. وإن كانت معلمة بتعليم الله، وتوفيقه، وهداياته، وشتان ما بين علم الله تعالى وعلمها “عليها السلام”، فإنه تعالى عالم بالذات، أما زينب “عليها السلام” فهي عالمة بتعليمه تعالى، تماماً ككون الله غنياً بالذات، وفلان من الناس غني بالله تعالى.. والله قادر بالذات وغيره قادر بإقداره تبارك وتعالى.. وهكذا..

الأمر الثالث: بيان موضع دفن السيدة زينب “عليها السلام” حيث قد يستبعد بعضهم أن تكون قد دفنت في دمشق، بلد أعدائها، وعاصمة ملك قتلة وارث الأنبياء، أخيها الإمام الحسين “عليه السلام”، وأهل بيته وصحبه “عليهم السلام”.

١- الآية ١٧ من سورة محمد.

٣١٥

ونجيب بما يلي:

١ ـ إنه لم يكن ليزيد في ظلم بني أمية لأهل البيت “عليهم السلام” سكناهم في دمشق الشام عاصمة الحكم الأموي، ولا ليخفف منه سكناهم في مصر، أو في المدينة، أو فيما سواهما من البلاد..

بل قد يكون ظلم بعض ولاتهم أبلغ وأعظم، إذا كانوا يرون أن ذلك يؤكد مواقعهم لدى أسيادهم، ويرسخ ثقة مستخدِميهم بهم. كما ظهر من حال الحجاج بن يوسف، وخالد القسري، وسواهما..

٢ ـ قد كان ثمة قرار بإضعاف تأثير المدينة في إيقاظ مشاعر الناس، وفي تحريكهم ضد أهل البغي والإنحراف.. وخصوصاً إذا كان ذلك من قِبَلِ أعلام أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة..

وفي سياق تنفيذ هذه السياسة اشتدت وطأة الحكام على ساكني المدينة من أهل البيت “عليهم السلام”، ومارسوا ضدهم مختلف أنواع العسف والظلم، فهدموا بيوتهم، وشردوهم في البلاد، وأخافوا العباد، فلم يعد يجرؤ أحد على التفكير في الإتصال بهم، والإهتداء بهديهم صلوات الله وسلامه عليهم..

والشواهد كثيرة على ذلك، ومنها:

ألف: ورد: أنه كان من بر الإمام السجاد “عليه السلام” بآل عقيل: أن المختار أرسل إلى الإمام “عليه السلام” أموالاً كثيرة، عشرين ألف دينار،

٣١٦

فبنى بها دور آل عقيل التي هدمتها بنو أمية..(١).

ب: صرحوا أيضاً: بأن عبد الملك بن مروان قد هدم دار الإمام علي بن أبي طالب “عليه السلام”، التي كان وُلْدُهُ فيها.

وقد حاول الحسن بن الحسن منعهم من ذلك، فقال: لا أخرج ولا أمكن من هدمها.

فضرب بالسياط وتصايح الناس، وأخرج عند ذلك، وهدمت الدار، وزيدت في المسجد(٢).

ج: قال زيد بن علي بن الحسين “عليهما السلام”: “ألستم تعلمون أنا وِلدُ نبيكم، المظلومون المقهورون، فلا سهم وُفينا، ولا تراث أُعطينا، ما

١- غاية الإختصار ص١٦٠ وبحار الأنوار ج٤٥ ص٣٤٤ و ٣٥٢ وسفينة البحار ج٢ ص٧٥٤ والعوالم (الإمام الحسين “عليه السلام”) للشيخ عبد الله البحراني ص٦٤٩ ورجال ابن داود ص٢٧٧ وجامع الرواة للأردبيلي ج٢ ص٢٢١ وطرائف المقال للبروجردي ج٢ ص٥٩٠ وقاموس الرجال للتستري ج١٠ ص٨ وعقيل ابن أبي طالب للأحمدي الميانجي ص٣٨ وذوب النضار لابن نما الحلي ص٦٦ وراجع: رجال الكشي ص١٢٨ و (ط أخرى) ج١ ص٣٤١ (٢٠٤).

٢- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج٢ ص٣٨ وبحار الأنوار ج٣٩ ص٢٩ وسفينة البحار ج١ ص٤٢٦ وج٨ ص١٣١ ومستدرك سفينـة البحار ج١٠ ص٤٩٢ ونهج الإيمان لابن جبر ص٤٤٣ والأنوار العلوية ص٥٨.

٣١٧

زالت بيوتنا تهدم، وحرمنا تنتهك الخ..”(١).

د: قال جعفر بن عفان الطائي في هذا المعنى:

ما بال بيتـكم تخرَّب سقفـه وثيابـكم من أرذل الأثواب(٢).

هـ: في وقعة الحرة، حين دخل مسرف بن عقبة المدينة: “قتل من آل أبي طالب(٣): عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب “ابن الحنفية”. ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب ثلاثة. وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش، ومن سائر الناس لا تعد ولا تحصى، ثم دخل المدينة، وخرب بيوت بني هاشم، ونهب المدينة”(٤).

وفي الشام قبر يقال: إنه قبر عبد الله بن جعفر، فإن صح أنه مات بالشام، فيكون قد ذُكر في النص المتقدم خطأً.

و: يذكرون أيضاً: أن الحكم بن المختار الثقفي، دخل على أبي جعفر

١- تفسير فرات الكوفي ص١٣٦ ولا بأس بمراجعة ص٣٨٢ وبحار الأنوار ج٤٦ ص٢٠٦ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٤٩٢ وسفينة البحار ج٨ ص٦٣١.

٢- الأمالي للطوسي ص١٩٨ وبحار الأنوار ج٤٧ ص٣١٤ وسفينة البحار ج٨ ص٦٣١ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٤٩٢ وبشارة المصطفى ص٩٤ ومختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص١١٦ وأعيان الشيعة ج٤ ص١٢٨.

٣- وفي مقاتل الطالبيين ص١٢٤ و ١٢٣: أن ابني عبد الله بن جعفر هما المقتولان في وقعة الحرة، وهما: أبو بكر، وعون الأصغر.

٤- شجرة طوبى ج١ ص١١٣.

٣١٨

“عليه السلام”، فقال له: “أصلحك الله، إن الناس قد أكثروا في أبي، وقالوا، والقول ـ والله ـ قولك.

قال أبو جعفر: وأي شيء يقولون؟!

قال: يقولون: كذاب. ولا تأمرني بشيء إلا قبلته..

فقال “عليه السلام”: سبحان الله، أخبرني أبي والله: إن مهر أمي كان مما بعث المختار. أولم يبن دورنا؟! وقتل قاتلينا؟! وطلب بدمائنا؟! رحمه الله”(١).

ز: إنهم يذكرون: أن الإمام السجاد “عليه السلام”، كان قد اتخذ منزله بعد قتل أبيه الحسين “عليه السلام” بيتاً من الشعر، أقامه بالبادية، فلبث عدة سنين كراهة المخالطة للناس، وملابستهم..

وكان يصير من البادية إلى العراق، زائراً لأبيه، وجده أمير المؤمنين “عليهما السلام”، ولا يُشْعِر أحداً بذلك(٢)..

١- ذوب النضار لابن نما الحلي ص٦٢ وبحار الأنوار ج٤٥ ص٣٤٣ و ٣٥١ وقاموس الرجال للتستري ج١٠ ص٦ والعوالم (الإمام الحسين “عليه السلام”) للشيخ عبد الله البحراني ص٦٥١ و ٦٧٠ وإختيار معرفة الرجال للطوسي ج١ ص٣٤٠ ورجال ابن داود ص٢٧٧ وطرائف المقال للبروجردي ج٢ ص٥٨٨ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج١٩ ص١٠٣.

٢- الغارات للثقفي ج٢ ص٨٤٨ ومعالي السبطين ج٢ ص٢١٢ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج٢ ص٢٧٣ وفرحة الغري لابن طاووس ص٧٣ وبحار الأنوار ج٩٧ ص٢٦٦.

٣١٩

غير أن لنا تحفظاً على التعليل المذكور، وهو: أنه “عليه السلام” قد سكن البادية كراهة مخالطة الناس، فإن ذلك إما محض اجتهاد من الراوي، والمتحدث، أو أنهم أرادوا أن لا يصرحوا بأن السلطة فرضت ذلك عليهم. أو أنهم هم اختاروا ذلك بسبب تعرضهم لظلم السلطة، لأنهم يخشون على أنفسهم من الملاحقة لو شاع عنهم أنهم صرحوا بهذا الأمر..

على أن هذه الكراهية لو كانت لمجرد المخالطة، لجاز لنا القول: بأن هذا الأمر إذا كان مكروهاً في تلك السنوات، فما الذي رفع كراهته في السنوات التي تلتها؟! فإن الحكام لم يغيروا سياساتهم تجاه أهل البيت وشيعتهم، كما أثبتتة الوقايع..

ولماذا لم يكره غير الإمام السجاد “عليه السلام” من بقية الأئمة الأطهار، مخالطة الناس، ولم يفعلوا مثل فعله، من سكنى البادية في خيمة من شعر؟!

٣ ـ فيما يرتبط بدفن السيدة الحوراء زينب “عليها السلام” في دمشق نقول:

قد ظهر مما تقدم: أن انتشار بني هاشم في البلاد مع ما كان يمارسه الحكام ضدهم من سياسات كان أمراً متوقعاً، بعد أن أصبحت الإقامة في المدينة متعذرة إلى حد بعيد؛ مع ظهور حرص الحكام بأن يُبقوا من يخشونهم من بني هاشم تحت رقابتهم الصارمة، وهيمنتهم الظالمة.. كما هو الحال بالنسبة لأئمتنا الأطهار، ومنهم الإمام الصادق، والعسكريان صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين..

بل لقد كان الحكام أحياناً يطالبون بني هاشم بالعرض عليهم في كل

 

 

شاهد أيضاً

الصلاة على محمد وآله في الميزان – البغدادي 5

اليومية الواجبة وغيرها من سائر الواجبات، وفي كل تلك البيانات الثابتة عن النبي (ص) في ...