(وفاة الرسول(ص))
115 – أخْبَرَنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد، أنا شجاع بن علي، أنا أبو عبد الله بن مندة، أنا عبد الرَّحمن بن عبد الله الدِّينوري، نا محمد بن عمرو المكي، نا عبدالله بن محمد البَلَوي، نا عمارة بن يزيد، أنا إبراهيم بن سعد، نا أبو الأكارم الهُذَلي، عن الهرماس بن صَعْصَعة الهُذَلي، عن أبيه، قال: حَدَّثني أبو ذُؤيب الشاعر، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلّوا جميعاً بإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: هلك رسولالله(ص)، لم يزد عليه(122).
116 – وقد أخبرناه أبو محمد عبد الرَّحمن بن أبي الحسن بن إبراهيم، أنا أبو الفضل أحمد بن علي بن طاهر بن الفرات، أنا رَشَأ بن نظيف المقرئ، أنا عبد الوَهَّاب بن جعفر بن علي الميداني، أنا أبو سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد بن زَبْر، أنا أبي، أنا محمد بن عبدالسلام البصري، أنا محمد بن إسحاق المديني، أنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدَّثني أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حَدَّثني أبو الأكارم الهُذَلي، عن الهرماس بن صعْصَعة الهُذَلي، عن أبيه: أنَّ أبا ذُؤيب الشاعر الهُذَلي حدَّثهُ قال: بلغنا أنَّ رسول الله(ص) عليلٌ، وقعَ ذلك إلينا عن رجل من الحيّ، قدم مُغْتمّاً، فأوجس أهل الحيّ خيفة، واُشعرنا حزناً، فَبِتُّ بليلةٍ باتت النجوم طويلة الإباء، لاينجاب(123) ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أُقاسي طولها، وأقارن غُولها، حتى إذا كان دُوين السفر وقَرُبَ السحر خفتُ فهتف الهاتف وهو يقول:
خَطْبٌ أجلُّ أناخَ بالإسلامِ
بينَ النخيلِ وَمَعْقِدِ الآطامِ
قُبضَ النبيّ محمَّد فعيونُنَا
تُذري الدموعَ عليهِ بالتَّسْجامِ(124)
قال أبو ذُؤيب: فوثبتُ من نومي فزعاً، فنظرتُ إلى السماء فلم أر إلَّا سعدَ الذابح(125)، فتفاءلتُ به ذبحاً يقعُ في العرب، وعلمتُ أنَّ النبي(ص) قد قُبضَ، أو هو ميِّت، فركبتُ ناقتي وسرتُ، فلمَّا أصبحت طلبتُ شيئاً أزجره(126) فعنج لي شيْهَم – يعني القنفذ – قد قبض على صِلّ – يعني الحية – فهو يلتوي عليه، والشَّيهَم يقضمه حتى أكله، فزجرتُ ذلك، وقلتُ: تَلَوِّي الصّل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله(ص)، ثم أوَّلت أكل الشَّيهَم إياه غلبة القائم على الأمر، فحثثتُ ناقتي، حتى إذا كنتُ بالعالية(127)
زجرتُ الطائر، فأخبرني بوفاته، ونعب غرابٌ سانحٌ فنطق بمثل ذلك، فتعوّذتُ من شرِّ ما عنَّ لي في طريقي، وقدمتُ المدينة، ولأهلها ضجيجٌ بالبكاء، كضجيج الحجيج إذا أهلُّوا بالإحرام، فقلتُ: مه؟ فقيل: قُبضَ رسول الله(ص) فجئت الى المسجد فوجدته خالياً، فأتيت إلى بيت رسول الله(ص) فأصبته مرتجّاً،(128) وقد خلا به أهله، فقلتُ: أين الناس؟ فقيل لي: هُم في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار، فجئتُ إلى السقيفة، فأصبتُ أبا بكر، وعمر، وأبا عُبَيدة بن الجرَّاح، وسالماً، وجماعة من قريش، ورأيتُ الأنصار فيهم سعد بن عُبادة ومعهم شعراؤهم: حسَّان بن ثابت، وكعب وملأٌ منهم، فأويت إلى قريش، وتكلَّمتْ الأنصار، فأطالوا الخُطَب وأكثروا الصواب، وتكلَّمَ أبو بكر، فلله من رجل لا يطيل الكلام، ويعلمُ مواضع فصل الخصام، والله لتكلّم بكلام لا يسمعه سامع إلَّا انقاد له، ومال إليه، ثم تكلّم بعده عمر بدون كلامه، ومدَّ يدهُ فبايعهُ، ورجع أبو بكر، ورجعتُ معه.
قال أبو ذُؤيب: فشهدتُ الصلاة على محمد(ص)، وشهدتُ دفنه، ولقد بايع الناسُ من أبيبكر رجلاً حلَّ قُدَاماها ولم يركب ذُناباها.
وأنشد أبو ذُؤيب يبكي النبي(ص):
لمَّا رأيت الناس في أحوالهم
مابين ملحود له ومُضَرّح
فَهُناك صرتُ إلى الهموم ومن يبت
جار الهموم يبيت غير مروّح
كُسفت لمصرعه النجوم وبدرها
وتزعزعت آطامُ بطن الأبطح(129)
وتحركت أكام يثرب كلها
ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرتُ الطير قبل وفاته
بمصابه وزجرتُ سعد الأذبح
وزجرت إذ لقب المُشَحج سانحاً
متفائلاً فيه بفألٍ أقبح
قال: ثم انصرف أبو ذُؤيب إلى باديته فأقام بها(130).