الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 27

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 27

والأصل في ذلك : هو ما قالته الملائكة الَّذين هم عباد مكرمون ، لا يسبقون اللَّه في القول ، وهم بأمره يعملون ، فلا يشاهدون إلَّا معبودهم ، حيث قالوا * ( « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَه ُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » ) * « 1 » ، لدلالة هذه الآية الكريمة على أمور :
الأوّل : أنّ نزول الملك إنّما هو بأمره الذي إذا أراد شيئا يقول له : كن ، فيكون ، وحيث إنّ الصعود كالنزول فلا يتصعّدون إلَّا بأمره تعالى .

الثاني : أنّ ما تقدّم الملك وسبقه ممّا كان وجوده – أي : الملك – يتوقّف عليه فهو للَّه تعالى .
الثالث : أنّ ما تأخّره ولحقه ممّا كان وجوده – أي : الملك – سببا له ومؤثّرا فيه – لتوقّف ذلك الشيء على وجوده – فهو للَّه تعالى .

الرابع : أنّ ما تخلَّل بين ذلك القادم وهذا الغابر – أي : نفس وجود الملك المحفوف بما تقدّم عليه ، وبما تأخّر عنه – فهو للَّه تعالى ، وهذا الأمر الرابع غامض غايته ، ولا ينكشف إلَّا لمن شاهد صمديّة اللَّه تعالى ، وأجوفيّة ما عداه واعتماله ، وإلَّا لمن تدبّر قوله تعالى * ( « وَاعْلَمُوا أَنَّ ا للهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه ِ » ) * « 1 » ، إذ القلب هو الأصل المحقّق لموجوديّة الإنسان ، فإذا كان اللَّه الذي لا حدّ لوجوده حائلا بين الإنسان ونفسه بلا امتزاج يكون خارجا عنه أيضا بلا تزايل ، ولا خصيصة لذلك بالإنسان ، بل يعمّه ، والملك والفلك من الذرّة إلى الدرّة ، ومن الثرى إلى الثريا ، وأيّ موجود من الثقلين . فعليه ، لو شاهد أيّ شيء ما شاهدته الملائكة لقال أيضا ما قالته هؤلاء الكرام ، من : أنّ للَّه سبحانه ما تقدّم ، وما تأخّر ، وما تخلَّل بين السابق واللاحق ، فلا يبقى هناك إلَّا وجه اللَّه الباقي ، ويظهر فناء ما عداه البالي .

والحاصل : أنّ المصلَّي المناجي ربّه يتحلَّى بحلية الصلاة ، ويتصوّر بصورتها ، والصلاة ليست إلَّا المناجاة مع اللَّه ، ولا حقيقة للنجوى إلَّا وجه اللَّه الباقي ، فلا سهم للصلاة الَّتي اتّحد بها المصلَّي إلَّا شهود وجه اللَّه ، الحافّ للصلاة بحدودها الداخليّة ، وحواشيها الخارجيّة ، ومن هنا يظهر سرّ فاتحة الصلاة السابقة عليها ، وسرّ خاتمتها اللاحقة لها ، ولعلَّه لذا قال اللَّه سبحانه * ( « فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ » ) * « 2 » ، أي : إذا فرغت من صلاتك ( على احتمال ) فانصب نفسك لإدامة العبادة بتعقيبها ، ولتكن رغبتك إليه تعالى دون ما عداه ، وحيث إنّ الرهبة على وزان الرغبة فإذا انحصرت الرغبة إلى اللَّه تعالى ، لإفادة تقديم الجارّ ذلك تنحصر الرهبة فيه تعالى ؛ لأنّ مساقهما واحد . وقد روى مسعدة بن صدقة ، عن أبي جعفر – عليه السّلام – أنّه قال في قوله تعالى : « * ( فَإِذا فَرَغْتَ ) * . إلى آخره » أي : إذا قضيت
الصلاة . فانصب في الدعاء « 1 » .

ولمّا لم يعيّن للتعقيب أمد خاصّ ، كما أنّه لم يحدّد للاستقبال زمان مخصوص ، وكان أيّ شيء يأتي على العبد السالك سبيل معبوده إنّما هو واجب أو مستحبّ ، ولا ينافي ما يفعله ما يقوله ويدعو به ويتلوه فهو دائم في صلاته ، فلذا يصحّ له أن يقول متأسّيا بمواليه الكرام الَّذين جعلهم اللَّه أسوة حسنة للناس * ( « إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ » ) * « 2 » ، وهذا العبد الصالح لا يهتمّ إلَّا بوجه اللَّه ، فهو من روح اللَّه كما نطق به الصادق المصدّق عليه السّلام ، ناقلا عن رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه : « من أصبح من أمّتي وهمّه غير اللَّه فليس من اللَّه » « 3 » ، لدلالته على أنّ همّه هو اللَّه فهو منه تعالى ، أي : من وجهه الخاصّ .

وقد جعل لذلك ميزان القسط يزن به كلّ سالك نفسه ، حتّى يتبيّن له أنّه من اللَّه الباقي ، أو من غيره الهالك ، وهو قول الصادق عليه السّلام : « من أراد أن يعلم ما له عند اللَّه فلينظر ما للَّه عنده » « 4 » ، إذ القلب مرآة لمقلَّب القلوب ، كما أنّه تعالى أيضا مرآة للقلب ، بل لكلّ ما عداه ، حيث إنّه ينكشف به كلّ ما عداه ، فمن أراد أن يرى ماله عند اللَّه فليتدبّر في قرآن قلبه الذي : إن كان صالحا يكتب اللَّه تعالى فيه الإيمان ، ويؤيّده بروح منه ، فإذا شاهد مرآة قلبه وتدبّرها يرى ما انطبع فيها ، أو تمثّل لها ممّا هو عند اللَّه ؛ لأنّ قلب المؤمن مرآة للَّه الذي هو المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر ، فينعكس فيها ما في مرآة ربّه ، فيعلم : أنّ له عند اللَّه شأنا من اللَّه ، وهو عنده تعالى وجيه أم لا . وهذا السالك وإن كان همّه هو اللَّه ولا يهتمّ بما عداه ولكنّه بعد يشاهد في مرآة قلبه ماله عند اللَّه ، فهو الآن يشاهد قلبه وما فيه الحاكي
ما عند اللَّه ، فهو بعد لم يصل إلى حدّ لا يرى غير اللَّه تعالى .

وحيث إنّ التعقيب كلفة زائدة على الصلاة الواجبة الَّتي هي بنفسها تكون كبيرة إلَّا على الخاشعين ، مع ما له من الأثر الهامّ في دوام العبادة ، ورد في حقّه عن الصادق عليه السّلام : « ما عالج الناس شيئا أشدّ من التعقيب » « 1 » ، وللاهتمام بأمر التعقيب قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : « من أدّى للَّه تعالى مكتوبة فله في أثرها دعوة مستجابة » « 2 » ، وقال الصادق عليه السّلام : « ثلاث أوقات لا يحجب فيها الدعاء عن اللَّه تعالى : في أثر المكتوبة ، وعند نزول المطر ، وظهور آية معجزة للَّه في أرضه » « 3 » ، وقال – عليه السّلام – أيضا : « من صلَّى صلاة فريضة وعقّب إلى أخرى فهو ضيف اللَّه عزّ وجلّ ، وحقّ على اللَّه أن يكرم ضيفه » « 4 » ، بل قد نهى عن ترك التعقيب ؛ لإيهامه الاستغناء عن اللَّه تعالى ، حسبما روي عن النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه قال : « إذا فرغ العبد من الصلاة ولم يسأل اللَّه حاجته يقول اللَّه تعالى لملائكته : انظروا إلى عبدي ، فقد أدّى فريضتي ولم يسأل حاجته منّي ، كأنّه قد استغنى عنّي ، خذوا صلاته فاضربوا بها وجهه » « 5 » .

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...