التشكيك في نسبة نهج البلاغة
أهداف الدرس
1- أنْ يتأكّد الطالب من نسبة نهج البلاغة للإمام عليّ عليه السلام.
2- أنْ يجيب على شبهة الإضافات على نهج البلاغة.
التشكيك في نسبة النهج
لم يذكر الشريف الرضيّ في صدر كتابه المصادر الّتي رجِع إليها حين اختيار كلام الإمام عليّ عليه السلام أو الشيوخ الّذين نقل عنهم، إلّا أنّه – كما يبدو من تضاعيف الكتاب – نقل في بعض ما نقل عنه، عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ، والمقتضب للمبرِّد، والمغازي لسعيد بن يحيى الأمويّ، والمقامات لأبي جعفر الإسكافيّ وغيرها من الكتب.
وهذا الأمر كان سبباً هامّاً في تشكيك بعضٍ في مدى صحّة ما نسبه الرضيّ إلى الإمام عليه السلام في نهج البلاغة من كلام.
فقال بعضهم إنّه كلّه من كلام جامعه لا من كلام مَن نُسِب إليه، وبعضهم أخطأ في اسم جامعه فنسبه إلى الشريف المرتضى (أخي الشريف الرضيّ)، وادّعى أنّه من وضعه لا من كلام الإمام عليّ عليه السلام، وبعضهم تنازل عن هذه الدعوى إلى ما هو أخفّ منها فقال إنّه قد دخل فيه ما ليس من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
ولعلّ أوّل من بذر بذرة التشكيك في نسبة النهج إلى الإمام عليّ عليه السلام وفي جمعه هو ابن خلّكان صاحب كتاب (وفيّات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان) حيث قال في ترجمة سيرة وحياة السيّد المرتضى:
“وقد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، هل جَمْعُهُ أم جَمْعُ أخيه الرضيّ؟ وقد قيل: إنّه ليس من كلام عليّ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هو الّذي وضعه، والله أعلم”1.
ثمّ جاء من بعد ابن خلّكان من يتابعه على هذا الرأي الفاسد، فنسج على منواله شُبهاً وأوهاماً هي أوهى من بيت العنكبوت، ومن هؤلاء:
1- ابن تيميّة(توفي سنة 728هـ) في (منهاج السنّة) حيث يقول: “وهذه الخطب المنقولة في نهج البلاغة لو كانت عن عليّ ومن كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنّف (أي كتاب نهج البلاغة)، منقولة عن أعلى الأسانيد”2.
2- الذهبيّ (توفي سنة 748هـ) في (ميزان الاعتدال)، حيث يقول في ترجمة الشريف المرتضى: “عليّ بن الحسين الحسينيّ الشريف المرتضى.. وهو المتّهم بوضع كتاب نهج البلاغة. وله مشاركة قويّة في العلوم. ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين عليه السلام، ففيه السَبُّ الصراح، والحطّ على السيّدين أبي بكر وعمر، وفيه التناقض والأشياء الركيكة والعبارات الّتي من له معرفة بنفَس القرشيّين الصحابة وبنفَس غيرهم ممّن بعدهم من المتأخّرين جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل”3.
3- الصفديّ (توفي سنة 764هـ) في (الوافي بالوفيات).
4- اليافعيّ (توفي سنة 768هـ) في (مرآة الجنان).
5- ابن حجر (توفي سنة 852هـ) في (لسان الميزان).
6- جرجي زيدان (توفي سنة 1332هـ) في (آداب اللغة العربيّة).
________________________________________
1- وفيّات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن خلّكان (ت، 681)، ج3/ص3، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2- راجع الإسلام والحضارة العربية، محمّد كرد علي،ج 2، ص 61.
3- ميزان الاعتدال، الذهبي، ج3، ص124 دار المعرفة، بيروت.
7- محمّد كرد عليّ (توفي سنة 1372هـ- 1953م) في (الإسلام والحضارة العربية).
8- أحمد أمين (توفي سنة 1373هـ- 1954م) في (فجر الإسلام).
9- أحمد حسن الزيّات (توفي سنة 1968م) في (تاريخ الأدب العربيّ).
10- محمّد سيّد كيلانيّ (معاصر)في (أثر التشيّع في الأدب العربيّ).
ومن الّذين سلكوا هذا المسلك في عصرنا الحاضر الأستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم حيث قال في مقدّمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:
“وعلى مرِّ العصور والأزمان كانت نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام مثاراً للشكّ عند العلماء والباحثين المتقدّمين والمتأخّرين”4.
الجواب عن التشكيك
أوّلاً فيما يتعلّق بجامع النهج:
جامع النهج هو الشريف الرضيّ، دون غيره مطلقاً، والدليل على ذلك:
أ- اتفاق محقّقي العلماء والمؤرّخين على أنّ نهج البلاغة من جمع الشريف الرضيّ وحده، لا من جمع غيره، بحيث إنّه انفرد وحده في القيام بهذا العمل ولم يشترك أحدٌ معه في ذلك. وعليه لا يضرُّ بذلك ما يقوله بعض الشُذَّاذ.
ب- إجازات تلاميذ الشريف الرضيّ وسلسلة تلاميذه من بعدهم خلفاً عن سلف بما يصل إلى حدّ التواتر. وهذه الإجازات تتضمّن نسبة هذا الكتاب إلى الشريف الرضيّ وحده.
ج- تصريحات الشريف الرضيّ نفسه في مواطن كثيرة بأنّ النهج من جمعه وحده شخصيّاً، مثل ما ورد في مقدّمة كتابه (خصائص الأئمّة) الّذي هو
________________________________________
4- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد، مقدّمة أبو الفضل ابراهيم، ج 1، ص7.
من تأليفه بإجماع العلماء حيث يقول فيه:
“ابتدأت تأليف كتاب (خصائص الأئمّة) عليهم السلام… وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب. ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة”.
وعلى هذا الأساس وبعد تصريح الرضيّ نفسه بأنّه هو الجامع للنهج وأنّه من كلام الإمام عليّ عليه السلام، فنحن نسأل لماذا لم يدّعِ الرضيّ أنّ الكتاب من تأليفه؟ وما الداعي لأن يُخفي ذلك؟ ولماذا لم ينسب الكتاب إلى نفسه رغم أنّه لو ادّعى ذلك لاعتُبِر الرضيّ من الرجال الأفذاذ ولكان ذلك مفخرةً وزيناً له؟
ومن المفيد جدّاً أن نذكر هنا ما قاله الأمير شكيب أرسلان عندما سُِئل عن رأيه فيما ذكره أحد الجالسين في محضره من أنّ نهج البلاغة موضوع على لسان الإمام عليّ عليه السلام حيث قال:
إذا كان نهج البلاغة موضوعاً فمن هو واضعه؟ هل هو الشريف الرضيّ؟ فقالوا له: نعم.
فقال: إنّ الشريف الرّضي لو قُسِّم أربعين رجلاً ما استطاع أن يأتي بخطبةٍ واحدة قصيرة من خطب نهج البلاغة، أو جملةٍ من جمله، ونهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام دون شكٍّ أو ريب، ولكنّ الّذي أوجب الشكّ فيه اشتماله على القدح في الصّحابة الّذين هم مقدّسون في أنظار الناس5.
ثانياً: في ما يتعلّق بكون ما بين دفّتي (نهج البلاغة) من جمع الرضيّ، وهذا ما يُثبته:
________________________________________
5- أعيان الشيعة، السيّد الأمين، ج 1، ص54.
أ – إنّ خطب أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه وكتبه وأوامره حظيت بعناية العلماء والأدباء والمتكلِّمين من قبل أن يولد الشريف الرضيّ، حيث اهتمّ كثير منهم بجمع الكثير منها حتّى تكوّن من ذلك مجاميع عديدة ذكر منها صاحب كتاب (مصادر نهج لابلاغة) ثمانية وعشرين كتاباً في الخطب والكتب والرسائل والكلمات والعظات، وكلّها لمؤلِّفين توفُّوا جميعاً قبل أن يولد الشريف الرضيّ بما لا يقلّ عن مائة عام6.
ب -إنّ بعضهم كان يحفظ كثيراً من كلام الإمام عليّ عليه السلام ويستعين به في إنتاجه الفنّي من أمثال: الحسن البصريّ، وعبد الحميد الكاتب، وابن نباتة، وابن المقفّع كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ج – إنّ خطبه عليه السلام وحدها الّتي كانت متداولة بين الناس تجاوزت الأربعمائة خطبة كما ذكر اليعقوبيّ المتوفّى سنة 292 هـ في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم) حيث قال: “حفظ الناس عنه عليه السلام الخطب، فإنّه خطب بأربعمائة خطبة، حُفِظت عنه وهي الّتي تدور بين الناس ويستعملونها في خطبهم”7.
بالإضافة إلى ما ذكره المسعوديّ المتوفّى سنة (346) في (مروج الذهب) حيث قال: “والّذي حفظ الناس من خطبه، في سائر مقاماته أربعمائة ونيّف وثمانين خطبة يوردونها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً”8.
هذا وقد تصدّى جماعة من علماء السنّة والشيعة لدحض هذه الشبهات والأقوال وتناولوها بالبحث والتدقيق، وممّن تعرّض للدفاع عن نسبة النهج إلى
________________________________________
6- راجع مصادر نهج البلاغة الجزء الأوّل منه. وراجع ما تقدّم في الدرس الأوّل فقرة هل كان الرضيّ أوّل من جمع كلام الإمام عليّ عليه السلام.
7- نهج السعادة، المحمودي، ج1، هامش ص 12.
8- مروج الذهب، المسعودي، ج2، ص 431.