توأمان لا يفترقان
النصّ الروائي:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ” .
النقاط المحورية:
– الإيمان والعمل.
– العمل مكمِّل الإيمان.
– هل يجتمع الإيمان والمعصية؟
– الإيمان والعمل في القرآن.
الإيمان والعمل
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الْإِيمَانُ قَوْلٌ مَقُولٌ وَ عَمَلٌ مَعْمُولٌ وَ عِرْفَانُ الْعُقُول” .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “الْإِيمَانُ وَ الْعَمَلُ أَخَوَانِ تَوْأَمَانِ وَ رَفِيقَانِ لَا يَفْتَرِقَان” .
من خلال هاتين الروايتين وغيرهما يتّضح أنّ التربية الإيمانية لها جناحان لا تكتمل إلا بهما، وهما: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، أو بعبارة أخرى: الإيمان والعمل الصالح. فلو انصبّ اهتمامنا على أعمال القلوب، ولم نهتم بالعمل الصالح سيكون الإيمان محدودًا، ولن نستفيد بوجوده الاستفادة الحقيقية: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ .
وقبل الدخول في الدرس لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ الروايات المبيّنة للحقائق الدينية على قسمين:
روايات كاشفة بنحو عام وإجمالي دون الدخول في التفاصيل كاعتبار أنَّ الإيمان هو التصديق القلبي, وأخرى تُبيّن الحقائق الدينية بكامل تفاصيلها, وقد تجتمع هذه التفاصيل ضمن رواية واحدة أو تتفرّق ضمن عدّة روايات. وفي بحثنا عن الحقيقة لا بدّ من ملاحظة جميع الروايات في هذا المجال, والنظر إليها كباقة واحدة.
الإيمان والعمل في كلام الإمام علي عليه السلام
سُئِلَ أمير المؤمنين عليه السلام عَنِ الإيمان فَقَالَ: “الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ” .
يُبيّن الإمام عليه السلام في هذه الرواية أنّ الإيمان كلّ مركّب من ثلاثة أجزاء وهي:
مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع سواء أكان عن علم أم عن تقليد.
وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ: إظهار الإيمان بالقول حتى يعرف المؤمن ويعامل بما له من الحقّ.
وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ: تجسّد الإيمان بالعمل كالجهاد والصوم والصلاة والحج والزكاة وغيرها من العبادات والفرائض الشرعية.
وبناءً على كلام علماء الإمامية وغيرهم أنّ الإيمان حقيقته التصديق القلبي فالمقصود من الإيمان في هذه الرواية الشريفة وأمثالها هو الإيمان الكامل .
العديد من الروايات تدلّ على أنّ الإيمان هو التصديق، وأنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان بل هو كاشف ومصدق للإيمان, وبالعمل يكمل ويتمّ ويُرتقى الإيمان إلى الدرجة العليا ومرتبة الكمال كما يُشير إليه قول أمير المؤمنين: “وبِالإيمان يُعْمَرُ الْعِلْمُ”.
وقوله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “عِشْرُونَ خَصْلَةً فِي الْمُؤْمِنِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيه لَمْ يَكْمُلْ إِيمَانُه، إِنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ يَا عَلِيُّ: الْحَاضِرُونَ الصَّلَاةَ، والْمُسَارِعُونَ إِلَى الزَّكَاةِ، والْمُطْعِمُونَ الْمِسْكِينَ، الْمَاسِحُونَ رَأْسَ الْيَتِيمِ، الْمُطَهِّرُونَ أَطْمَارَهُمْ، الْمُتَّزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمُ، الَّذِينَ إِنْ حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وإِذَا تَكَلَّمُوا صَدَقُوا، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ أُسُدٌ بِالنَّهَارِ، صَائِمُونَ النَّهَارَ قَائِمُونَ اللَّيْلَ، لَا يُؤْذُونَ جَاراً ولَا يَتَأَذَّى بِهِمْ جَارٌ، الَّذِينَ مَشْيُهُمْ عَلَى الأَرْضِ هَوْنٌ، وخُطَاهُمْ إِلَى بُيُوتِ الأَرَامِلِ وعَلَى أَثَرِ الْجَنَائِزِ، جَعَلَنَا الله وإِيَّاكُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ” .
وحتى نستطيع فهم كلام الإمام عليّ، وفهم الروايات الواردة عن الأئمة في هذا المجال لا بد من ملاحظة الأمور التالية:
1- يُفرِّق الأئمة بين الإيمان والإسلام، فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عليهما السلام، قَالَ: “الإيمان إِقْرَارٌ وعَمَلٌ والإسلام إِقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ” .
2- إنّ الأئمّة بالرغم من قبولهم بإسلام مرتكب الكبيرة إلاّ أنّهم:
– لم يكونوا مستعدّين لإطلاق لفظ المؤمن عليه، لأنّ الإيمان هو الاعتقاد القلبي المرتكز في قرارة النفس.
– لم يقبلوا النتيجة التي توصّل إليها المرجئة من أنّ الإيمان أو الإسلام لا يقبل الزيادة والنقصان وإنّه أمرٌ ثابتٌ، بل إنّ الإيمان في الحقيقة من المفاهيم التي تقبل الزيادة والنقصان, وهذا ما دلّت عليه الروايات التي تحدّثت عن مراتب ودرجات الإيمان.
– لم ينفوا الدور المؤثّر للعمل في الإيمان بل أكّدوا عليه، حتّى إنّ الإمام الصادق تصدّى للمواقف الإفراطية للمرجئة حيث قال: “مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ قَالَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَل” .
1- إنّ اصطلاح الإيمان قد استُعمل في معنيين خاصٌّ وعامٌّ، فمرّة استُعمل في خصوص التصديق القلبي حيث يُراد به المعنى الخاص هنا، واستُعمل في موارد أخرى بمعناه العامّ حيث يُراد به معنى “الدِّين” و”الإسلام”. وفي نهج البلاغة قد استخدم الإمام في بعض الأحيان لفظ الإسلام وأراد الإيمان .
2- إنّ بعض الروايات عن أئمة أهل البيت تُعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان، وقد وردت لغاية ردّ المرجئة التي تكتفي في الحياة الدِّينية بالقول والمعرفة، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف .
العمل مكمّل الإيمان
أصبح واضحاً من خلال ما تقدّم أنّ العمل ليس جزءاً من ماهية الإيمان أي ليس من مقوّماته الذاتية. ولكنّه في نفس الوقت هو العامل الأهم في إثراء الإيمان وتكامله، فالإيمان والعمل يسيران جنباً إلى جنب والعلاقة بينهما علاقة تبادلية، فالعمل من دون إيمان حقيقي لا قيمة له، والإيمان من دون عمل لا يتكامل ولا يزداد أصلاً. ولذا فإنّ الإمام علي عليه السلام في تعريفه للإيمان ضمّنه العمل بالأركان، وذلك لبيان الفرد الأكمل من مصاديق الإيمان.
ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: “قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ مُؤْمِناً؟ قَالَ: فَأَيْنَ فَرَائِضُ الله؟
قَالَ (الراوي): وسَمِعْتُه يَقُولُ: “كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الإيمان كَلَاماً لَمْ يَنْزِلْ فِيه صَوْمٌ ولَا صَلَاةٌ ولَا حَلَالٌ ولَا حَرَامٌ.
قَالَ (الراوي): وقُلْتُ: لأَبِي جَعْفَرٍ: “إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً يَقُولُونَ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ: فَلِمَ يُضْرَبُونَ الْحُدُودَ؟ ولِمَ تُقْطَعُ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلَقَ الله عزّ وجلّ خَلْقاً أَكْرَمَ عَلَى الله عزّ وجلّ مِنَ الْمُؤْمِنِ لأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُدَّامُ الْمُؤْمِنِينَ وأَنَّ جِوَارَ الله لِلْمُؤْمِنِينَ وأَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ؟ ثُمَّ قَالَ: فَمَا بَالُ مَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ كَانَ كَافِر” .
“أي لو كان الإيمان كلاماً لسانياً وهو الإقرار بالشهادتين أو قلبياً أيضاً وهو التصديق لم ينزل هذه الأحكام التي وقع فيها الوعيد والتغليظ أو الكرامة والإثابة” .
والنتيجة التي نصل إليها أنّ المراد من الإيمان في هذه الروايات هو الإيمان الكامل والتصديق بالله وبرسوله وجميع ما جاء به وهذه النتيجة موافقة للآيات القرآنية.