الرئيسية / بحوث اسلامية / البدعة مفهومها وحدودها

البدعة مفهومها وحدودها

تطبيقات حول البدعة

لقد تقدم القول إنّ البدعة في المعنى الاصطلاحي الشرعي هي إدخال ماليس من الدين في الدين، وهذا التعريف، أي الادخال في الدين، يحتمل معنى الزيادة ومعنى الانقاص أيضاً.

وسوف نتعرض في هذا الفصل وهو خاتمة البحث في موضوع البدعة إلى عددٍ من الاَمثلة والنماذج هي عند البعض تعني الزيادة في الدين وعند البعض الآخر تعني الانقاص في الدين.

إنَّ هناك الكثير من النماذج والاَمثلة يمكن أن نخضعها للمناقشة والتطبيق على ضوء التعريف المتقدم لكننا خشية الاطالة نقتصر على ذكر عدد قليل من النماذج التطبيقية.

إنَّ الهدف من ذكر هذه الاَمثلة التطبيقية هو نقل البحث النظري المتقدم إلى مساحة التطبيق العملي ورائدنا في ذلك المناقشة الموضوعية العلمية.

أولاً: النهي عن متعة الحج

الحج باتفاق الفقهاء ينقسم من ناحية النوع إلى ثلاثة أنواع: تمتّع،


الصفحة 80


وقران، وإفراد.

والمقصود من حج التمتع هو: إحرام الشخص بالحج في أشهره المعروفة «شوال، وذي القعدة، وذي الحجة» والاتيان بأعمالها، وهو الاحرام من الميقات بالعمرة إلى الحج ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت سبعة أشواط، ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم يقُصّر، بأن يقلم شيئاً من أظفاره، أو يأخذ شيئاً من شعره فيحلّ له حينئذٍ جميع ما حرّم عليه بالاحرام.

ثم ينشيء بعد ذلك إحراماً للحج من مكة يوم التروية والاتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والافاضة إلى المشعر الحرام.. الخ.

ويصحّ هذا النوع من الحج ممن كان آفاقياً، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام بحيث يبتعد بيته عن مكة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة، والمسافة هي عند الاِمامية 48 ميلاً من كل جانب وهي لا تتجاوز عن 16 فرسخاً.

وقد تظافرت الرّوايات المروية عند الفريقين أنّ متعة الحج ورد ذكرها وأحكامها في القرآن، وهو قوله تعالى:(فَإذَا أمنْتُم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَدي فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِ وَسَبعَةٍ إذَا رَجَعْتُم تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ واتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوَا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)(1).

وتفسير الآية الشريفة: إنّ من(تَمَتّعَ)بسبب الاتيان(بِالعُمْرَةِ)بما

____________

(1) البقرة 2: 196.


الصفحة 81


يحرم على المحرم، كالطيب، والمخيط، والنساء ومتوجهاً(إلى الحجِ)(فما استَيْسَرَ مِنَ الهَدْي)أي عليه ما استيسر من الهدي من البدنة أو البقرة أو الشاة، ثم تبيّن الآية الشريفة حكم من لم يقدر على ذلك، وهو الصيام عشرة أيام، وكيفية الصيام هي(ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِ)متواليات و(سَبْعَة إذَا رَجَعْتُم)إلى أوطانكم(تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)،(ذَلِكَ)أي التمتع بالعمرة إلى الحج فرض(لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ)أي لم يكن من أهل مكة وقراها(واتَّقُوا اللهَ)فيما أمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج(واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدَ العِقَابِ).

والآية صريحة في جواز التمتّع بمحظورات الاحرام بعد الاتيان بأعمال العمرة وقبل الاحرام للحج، ولم يدّع أحد أنّ الآية نُسخت بآية أُخرى أو قول أو فعل من قبل النبي الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أكدها وأمر بها.

فقد روى أهل السير والتاريخ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يذكُر ولا يذكّر الناسُ إلاّ الحج، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه الهدي، وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلّو بعمرة إلاّ من ساق الهدي ـ إلى أن قالت ـ: ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، فحلّ كل من كان لا هدي معه، وحلّ نساؤه بعمرة،… لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساؤه أن يحللن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول الله أن تحلَّ معنا ؟ فقال: «إني أهديتُ فلا أحلّ حتى أنحر هديي»(1).

____________

(1) السيرة النبوية، لابن هشام 4: 248 ـ 249 حجة الوداع.


الصفحة 82


وتظافرت الروايات حول هذه الواقعة وما أمر به النبي وسنأتي هنا على قسم منها.

1 ـ روى ابن داود أنّ النبي أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصِّروا ويُحلّوا إلاّ من كان معهُ الهدي، فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر ! فبلغ ذلك رسول الله فقال: «أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديتُ، ولولا أنّ معي الهدي لاَحللت»(1).

2 ـ عن أبي رجاء قال: «قال عمران بن حصين: نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات..»(2).

متى ظهر النهي عن متعة الحج

لقد تقدّم من بعض الروايات أنّ بعض المسلمين حين نزل التشريع بمتعة الحج وأمرهم الرسول بذلك، استغربوا الاَمر وتساءلوا فجاءهم التأكيد على الاَمر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقدم القول فإنَّ الآية الخاصة بذلك لم تُنسخ حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإكمال الدين وإتمام النعمة.

وهي بذلك أصبحت جزءاً من الدين، لكنَّ عمر بن الخطاب كان أول من نهى عنها، وبهذا تواترت الاَخبار، ومنها:

1 ـ عن ابن عباس قال: «سمعتُ عمر يقول: والله إني لاَنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني العمرة في

____________

(1) سنن أبي داود 1: 283 كتاب المناسك، باب افراد الحج، ط دار الكتاب العربي.

(2) صحيح مسلم 4: 48 ـ 49 كتاب الحج، باب جواز التمتع.


الصفحة 83


الحج..»(1).

2 ـ عن سعيد بن المسيّب: «إنّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وذلك أنَّ أحدكم يأتي من أُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيتهُ في عمرته ثمَّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلُّ ويلبس ويتطيَّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلّبي بحجة لاشعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوماً والحجُ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنَّ تحت الآراك..»(2).

3 ـ روى ابن حزم بسنده قال: قال عمر بن الخطاب: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما ـ ثم قال ـ هذا لغط أيوب، وفي رواية خالد، أنا أنهي عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج»(3).

ولا نريد الاستطراد أكثر من هذا في ذكر الروايات التي أكّدت أنّ عمر ابن الخطاب نهى عن متعة الحج وأنّه كان يعاقب عليها، وهي جزء من التشريع وسُنّة الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

موقف المسلمين من النهي

وقد عارض المسلمون هذا النهي الصريح، وإليك الروايات مختصرة:

____________

(1) سنن النسائي 5: 153.

(2) جمع الجوامع، للسيوطي 3: 32.

(3) المحلى، لابن حزم 7: 107. الجامع للاحكام، للقرطبي 2: 392.


الصفحة 84


1 ـ روى مالك عن محمد بن عبدالله: «انّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحّاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجل ! فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي ! فقال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه»(1).

وللقارىء أن يمعن جيداً في قول الضحّاك: «لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجلّ»، إذ إن التمتع بالعمرة إلى الحج هي من أوامر الله الصريحة في القرآن الكريم لكنها أصبحت عنده بسبب نهي عمر عنها مخالفة لاَمر الله !! وهذا من أسوأ آثار البدعة في الدين إذ تتحول الشريعة إلى بدعة عند الجهلة.

2 ـ روى الترمذي عن سالم بن عبدالله: «أنّه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبدالله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبدالله بن عمر: حلال. فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنها !

فقال عبدالله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أأمرُ أبي نتّبع، أم أمر رسول الله ؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله. فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(2).

3 ـ وعن ابن عباس أيضاً أنّه قال لمن كان يعارضه في متعة الحج بأبي

____________

(1) موطأ مالك 1: 233 كتاب الحج رقم 60، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت. سنن الترمذي: كتاب الحج رقم 823.

(2) صحيح الترمذي 4: 38 كتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة.


الصفحة 85


بكر وعمر: «يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر»(1).

4 ـ عن الحسن: أنَّ عمر أراد أن ينهى عن متعة الحج، فقال له أُبيّ بن كعب: «ليس ذلك لك، قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينهنا عن ذلك، فأضرب عن ذلك عمر..»(2).

لكن هذا الاِضراب كان مؤقتاً، فقد نهى عنها فيما بعد كما تقدّم من الروايات.

لقد كان ذلك نموذجاً ـ أي النهي عن متعة الحج ـ بارزاً على الانقاص من الدين، وهو بدعة بلاشك ولا ريب.

شاهد أيضاً

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي بين نمط د. هشام الهاشمي للقصف الإيراني لقاعدة ...