الطب في العهد الإسلامي
في القرنين :
الأول والثاني الهجريين
العرب في أول الإسلام . . والطب
إننا نلاحظ ، أن الإسلام قد ظهر في حين كان الطب لا يزال يقطع مراحل طفولته . وكان العرب في علم الطب خاصة أضعف من سائر الأمم ، لأنه لم يكن لديهم حكومة مركزية يتوفر في ظلها عنصر الأمن والاستقرار ، ليكون ثمة مجال للتنافس والسعي لتحقيق الطموحات التي يمكن أن تعتلج في نفوس الكثيرين لأسباب مختلفة .
وباستثناء الحارث بن كلدة الذي استأثر بشيء من الشهرة الواسعة ، والتي لم تكن له لولا أنه تعلم الطب على أيدي الجنديشابوريين ، وباستثناء ابن حذيم .
فإننا لا نجد في العرب ما يشجعنا على أن نعتبرهم قد أسهموا في تقدم هذا العلم ، بل ليس ما يشجعنا لأن نعتبر أنه قد كان عندهم أطباء بالمعنى الحقيقي للكلمة ، وحتى ابن كلدة ، وابن حذيم فإننا لا نعرف مقدار ما كانا يتمتعان به من براعة وحذق في هذا المجال . وليس لهم آثار علمية ، ولا في التاريخ ما يمكن أن نستدل به على شيء من هذا . وقد تقدم بعض ما يشير إلى ذلك في الفصل السابق .
الطب في الصدر الأول الإسلامي :
لقد أشرنا فيما سبق إلى : أن الإسلام يعتبر الطب وظيفة شرعية ، وأحد الواجبات التي لا مجال للتساهل فيها .
كما أن من يراجع كلام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والأئمة ( عليهم السلام ) ، وما وصل إلينا من كلام لهم في الطب والعلاج ، وهو ثروة كبيرة جداً ، لا تتناسب مع ما لاحظناه من سير هذا العلم في القرن الأول الهجري ونصف الثاني – نعم إن المراجع لذلك – يخرج بحقيقة هامة ، تتلخص في أنهم ( عليهم السلام ) كانوا يحاولون بعث نهضة شاملة في هذا المجال ، تتسم بالشمولية والعمق والدقة ، مستمدة ذلك من الواقعية الرائدة التي تعتمد عليها ، وعلى هدى من المعاني الإنسانية النبيلة التي تتجه إليها .
ولكن الذي يظهر : هو أن العرب لم يستطيعوا أن يكونوا في مستوى هذا الحدث الجديد ، الذي هو ظهور الإسلام . . وإنما كانت طموحاتهم وتوجهاتهم منصبة على مجالات أخرى ، تتناسب مع ما كانوا يعانونه من تأثرات وتغيرات نفسية وفكرية ، وغيرهما ، مما طرأ عليهم بعد ظهور الإسلام فيهم .
ولا نبعد كثيراً إذا قررنا هنا حقيقة : أنه قد كان ثمة أثر كبير للتوجهات التي كانت تفرضها عليهم طموحاتهم ، التي ولدت في ظل ظروف موضوعية معينة متعددة بعد ظهور الإسلام . . والتي كانت تتجه أكثر إلى نزعة التسلط والقهر للأمم الأخرى ، وبسط النفوذ على أكبر قدر ممكن من البلاد . .
وقد ساعد على ذلك بشكل فعال . . بعض سياسات الحكام الذين جاؤوا بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) – باستثناء علي ( عليه السلام ) – الذين كانوا غير مستعدين للاستعانة بغير العرب إلا بالمقدار الذي يرفع ضرورتهم ، من دون أي توجه إلى
حاجات أبناء شعبهم ، أو حتى التفكير فيها . . هذا عدا عن أنهم شعوباً وحكاماً لم تستطع نفوسهم وعقلياتهم أن ترقى إلى مستوى الحدث الذي قد كان بمثابة القفزة الواسعة التي عرضت على مجمل حياتهم وواقعهم بظهور الإسلام فيهم .
كل ذلك مع عدم توجههم لأهداف وتعاليم نبيهم ودينهم ، وعدم اهتمامهم بالعمل على تطبيقها وتحقيقها .
نعم . . فبقيت علوم كثيرة ، ومنها علم الطب مهملة عندهم ، إن لم تكن معدومة إلى مطلع الدولة العباسية ، التي جاءت بعد انتهاء الحكم الأموي ، الذي ساهم في إشباع الرغبة في الحكم والتسلط ، وبدأ الاتجاه إلى حياة الاستقرار والرخاء ، ومواجهة متطلبات الحضارة ، الأمر الذي كان يفرض عليها الاستجابة لهذه المتطلبات والحاجات ، التي يصعب اهمالها أو تجاهلها .
فكان عصر النهضة العلمية ، وبدأ العصر الذهبي . . واستطاع المسلمون في فترة وجيزة جداً أن يحققوا على صعيد العلم والمعرفة أعظم المنجزات التي يمكن أن تحققها أمة في فترة زمنية كهذه .
دور غير المسلمين في النهضة العلمية :
وكان طبيعياً أن يكون ظهور علم الطب بقوة عند المسلمين في أجواء كهذه في مطلع الدولة العباسية ، بمساعدة متخصصين من الأمم الأخرى ، ولا سيما أولئك الذين انتهت إليهم المعارف الطبية إلى تلك الفترة من الزمن ، وهم أهل جند يشابور .
وترجم هؤلاء وغيرهم الكثير من الكتب الطبية ، ومارسوا الطب في بلاط الخلفاء وغيرهم من الأعيان ، وحصلوا على الأموال بأرقامها الخيالية .
ولا غرو أن نجد الحكام والخلفاء يهتمون في أن يكون أطباؤهم من هؤلاء الذين هم من غير المسلمين ، بل من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، حتى لقد كان للمتوكل [ 56 ] طبيباً كلهم من النصارى ( 1 ) . . فإنهم ما كانوا يطمئنون إلا إليهم ، ولا يعتمدون في تنفيذ مآربهم السياسية – كتصفية خصومهم ( 2 ) – إلا عليهم .
رغم وجود النطاسيين في هذا الفن من المسلمين ، والذي كان لهم فيه اليد الطولى ، ابداعاً واختراعاً ، وشمولية وعمقاً ، مثل : أحمد بن أبي الأشعث ، وعلي بن عيسى الكحال ، وأحمد بن محمد الطبري ، وابن الصوري ، وغيرهم ممن يعد بالعشرات ، والمئات .
وقد كان علماء المسلمين يلومون الخلفاء والوزراء في تعظيمهم النصارى للتطبب ( 3 ) .
نعم . . لقد استعان المسلمون بغيرهم في عالم الطب . . ولكنهم لم تمض عليهم مدة وجيزة حتى حققوا فيه أعظم المنجزات ، التي يمكن أن يحققها إنسان في فترة وظروف كتلك التي مرت على المسلمين آنذاك . .
حتى لقد أرسوا القواعد والأسس الصحيحة والسليمة لقيام النهضة الطبية في هذا القرن الرابع عشر الهجري . . وعلى تلك القواعد ، وهاتيك الأسس والمنجزات العظيمة اعتمدت أوروبا وغيرها في نهضتها الطبية الحاضرة ، كما هو معلوم .
هذا . . ونحن نشير هنا إلى مجمل بسيط عن الحركة العلمية الطبية الإسلامية ، وما يرتبط بذلك ، مع مراعاة الاختصار الشديد ، حسبما يقتضيه المقام . . فنقول :
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...