الرئيسية / الاسلام والحياة / الحسين عليه السلام سماته وسيرته 21

الحسين عليه السلام سماته وسيرته 21

26 – تباشير الحركة .
27 – عراقيل على المسير .
28 – من أنباء الغيب .
29 – أصحاب أوفياء .
30 – يوم عاشوراء .
26 – تباشير الحركة
كانت المواقف الأخيرة التي وقفها الإمام الحسين عليه السلام في وجه
معاوية تعتبر تباشير التحرك المضاد ، ضد مخططات معاوية .
وبالرغم من أن الإمام لم يطاوع أحدا ممن دعاه إلى خلع معاوية ، إذ كان
امتدادا لمواثيق أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، ومن الموقعين على كتاب الصلح
مع معاوية ، ومع أن معاوية قد نقض العهد ، وخالف بنود الصلح في أكثر من
نقطة ، إلا أنه بدهائه ومكره كان قد لبس نفسه ثوبا من التزوير لا يسهل اختراقه ،
وكان يحتال على الناس بالتحلم والتظاهر مستعينا بالوضاعين من رواة الحديث
وبالدجالين من أدعياء العلم ودعوى الصحبة والزهد ، مما أكسبه عند العامة العمياء ما لا
يمكن المساس به بسهولة .
إلا أن الإمام الحسين عليه السلام استغل موضوع تنصيب معاوية يزيد ملكا ،
وإلزامه الناس بالبيعة له ، إذ كان هذا مخالفة صارخة لواحد من بنود الصلح ، مع
مخالفته للأعراف السائدة بين المسلمين ، مما لا يجهله حتى العامة ، وهي كون
الصيغة التي طرحها للخلافة من بعده ، مبتدعة لم يسبق لها مثيل .
ثم إن يزيد بالذات لم يكن موقعا للأهلية لمثل هذا المنصب الحساس ، بل
كان معروفا بالشرب ، واللعب ، والفجور ، بشكل مكشوف للعامة .
وكانت هذه المفارقات مما يساعد الإمام الحسين عليه السلام على اتخاذ
موقف مبدئي ، جعله هو المنطلق للتحرك ، كما تناقله الرواة ، فقالوا :
[ ص 197 ] لما بايع معاوية بن أبي سفيان الناس ليزيد بن
معاوية كان حسين بن علي بن أبي طالب ممن لم يبايع
له ( 1 ) .
وبالرغم من وضوح أهداف الإمام لمعاوية ، وحتى لمروان والذين
يحتوشونه ، حتى أنهم أعلنوا عن تخوفاتهم وظنونهم بأن الإمام يفكر في حركة
يسمونها نزوة أو مرصدا للفتنة ، وما إلى ذلك ، لكنهم لم يقدموا على أمر ضده ،
ولعل معاوية كان يحاول أن يقضي عليه بطريقته الخاصة في الكيد والمكر
والاغتيال ، إلا أن سرعة الأحداث ، ومجئ الأجل لم تمهله ، لذلك
فكانت مواجهة الحسين عليه السلام وصده من آخر وصايا معاوية لابنه
يزيد ، كما كانت هي من أولى اهتمامات يزيد نفسه ، ففي التاريخ
[ 255 ص 199 ] توفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة
ستين ، وبايع الناس ليزيد ، فكتب يزيد مع عبد الله بن عمرو
بن أويس العامري إلى الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان – وهو
على المدينة – : أن ادع الناس فبايعهم ، وابدأ بوجوه
قريش ، وليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي بن أبي
طالب ( 1 ) .
فبعث الوليد بن عتبة من ساعته – نصف الليل – إلى الحسين بن علي .
إن اهتمام يزيد ، وتأكيده بأخذ البيعة أولا من الحسين عليه السلام ، واستعجال
الوالي بالأمر بهذا الشكل ، لم يكن إلا لأمر مبيت ومدبر من قبل البلاط ورجاله ،
ولا بد أن الإمام كان قد قدر الحسابات ، فلما طلب الوالي منه البيعة ، رفضها وقال له :
نصبح فننظر ما يصنع الناس ، ووثب فخرج ، كما جاء في نفس الحديث السابق .
ويبدو أن الوليد الوالي لم يكن متفاعلا بشدة مع الأمر ، أو أنه لم يكن متوقعا
لهكذا موقف من الإمام ، لأنه لما تشاد مع الحسين في الكلام قال الوليد : إن
هجنا بأبي عبد الله إلا أسدا .
ولكنها هي الحقيقة التي وقف عليها معاوية في حياته ، وأطلقها ، وإن كان
الوليد لم يعرفها إلا اليوم .
وتتمة الحديث السابق :
[ ص 200 ] وخرج الحسين من ليلته إلى مكة ، وأصبح
الناس ، وغدوا إلى البيعة ليزيد ، وطلب الحسين فلم
يوجد ( 2 ) .
وهكذا أفلت الحسين عليه السلام من والي المدينة ، وفيها مروان بن الحكم
العدو اللدود لآل محمد ، والذي كان يحرض الوالي على قتل الحسين عليه السلام
في نفس تلك الليلة إن لم يبايع .
وخرج الحسين عليه السلام إلى مكة ، التي هي أبعد مكان من الأزمة هذه ،
والتي سوف يتقاطر عليها الحجاج لقرب الموسم ، فتكون قاعدة أفسح وأوسع
للتحرك الإعلامي في صالح الحركة .
27 – عراقيل على المسير
لا ريب أن تخلص الحسين عليه السلام من مسألة البيعة ، وخروجه بهذا
الشكل المتخفي من المدينة ، لم يرض الدولة ولا أجهزتها ، فلذلك تصدوا
للموقف بمحاولة اغتيال الحسين عليه السلام في مكة ، وفي زحام الموسم ، وقد
جاء في بعض المصادر : أن يزيد بث من يغتال الإمام ولو كان متعلقا بأستار
الكعبة ،
وعلى أبعد احتمال كان الحسين عليه السلام يجر إلى المواجهة المسلحة مع
رجال الدولة في منطقة الحرم ، ذلك الأمر الذي لا يريده الحسين عليه السلام ، بل
يربو بنفسه أن يقع فيه ، كما عرفناه في الفقرة [ 22 ]
فلذلك عزم على الخروج من مكة
[ ص 205 ] فخرج متوجها إلى العراق ، في أهل بيته ،
وستين شيخا من أهل الكوفة ، وذلك يوم الاثنين في عشر
ذي الحجة سنة ستين .
ولا بد أن أجهزة الدولة كانت تلاحق الحسين وتراقب تحركاته ، وتحاول
صده عن ما يريد ، وبالخصوص توجهه إلى منطقة الكوفة في العراق التي تعتبر
عند حكام الشام أرض المعارضة الشيعية العلوية ، وإذا أفلت الحسين عليه
السلام منهم في المدينة ، فلا بد من وضع العراقيل في طريقه حتى يتراجع ،
ولا يخرج إلى العراق .
ومن الملاحظ في طريق الحسين عليه السلام كثرة عدد الناصحين له
عليه السلام بعدم الخروج إلى العراق ، وتكاد كلمتهم تتفق على السبب ، وهو أن
أهل العراق أهل غدر وخيانة ، وأنهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه .
ومن الغريب أن نجد في الناصحين : القريب والغريب ، والشيخ والشاب ،
والرجل والمرأة ، ثم نجد الصحابي ، والتابعي ، والصديق ، والعدو .
ومن جهة أخرى : نجد إجابة الإمام الحسين عليه السلام لكل واحد تختلف
عن إجابته للآخر ، ولكن الحقيقة واحدة . وسكت عن إجابة البعض .
وأما تفصيل الأمر :
جاءه أبو سعيد الخدري ، فقال
[ ص 197 ] : يا أبا عبد الله ، إني لكم ناصح ، وإني عليكم
مشفق ، وقد بلغني أنه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة
يدعونك إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج ، فإني سمعت
أباك ، يقول بالكوفة : والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملوني
وأبغضوني ، وما بلوت منهم وفاء ومن فاز بهم فاز بالسهم
الأخيب ، والله ما لهم ثبات ، ولا عزم أمر ، ولا صبر على
سيف .
ولم يذكروا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأبي سعيد ، الصحابي الكبير ،
ولعل الإمام تغافل عن جوابه ، احتراما لكبر سنه ، أو تعجبا منه لعدم تعمقه في
الأمور وعدم تفكيره في ما أصاب الإسلام وما يهدده من أخطار ، بقدر ما كان يفكر
في سلامة الحسين عليه السلام ؟
وقال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة :
[ ص 201 ] أين تريد يا بن فاطمة ؟
إني كاره لوجهك هذا ، تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا
أخاك ، حتى تركهم سخطة وملة لهم .
أذكرك الله أن تغرر بنفسك ( 1 )
ولم يذكروا جواب الإمام هنا أيضا .
وقال أبو واقد الليثي
[ ص 201 ] : بلغني خروج حسين ، فأدركته بملل ،
فناشدته الله أن لا يخرج ، فإنه يخرج في غير وجه خروج ،
إنما يقتل نفسه
وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنه قال : لا أرجع ( 2 ) .
وكتب إليه المسور بن مخرمة :
[ ص 202 ] إياك أن تغتر بكتب أهل العراق . . . إياك أن
تبرح الحرم ، فإنهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك
آباط الإبل حتى يوافوك ، فتخرج في قوة وعدة ( 3 )
ويبدو أن المسور كان يعرف السبب الأساسي لتوجه الحسين عليه السلام
وخروجه ، وهذا يدل على مزيد الارتباط والتداخل مع قضية الحسين عليه السلام ،
لكنه – لجهله بمقام إمامة الحسين – يتصدى بهذه اللهجة لتحذيره ، ولعدم
وجود سوء نية عنده ، يذكر خيانة أهل العراق ، ويقترح على الحسين عليه السلام
مخرجا ، وهو أن يترك العراقيين ليقدموا بأنفسهم على الخروج إلى
الحسين عليه السلام ، وهذه نصيحة مشفق ، متفهم لجوانب من الحقيقة ، وإن خفي
عليه لبها وجوهرها .
ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان لينا في جوابه :
فجزاه خيرا ، وقال : أستخير الله في ذلك ( 1 )
وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن ، تعظم عليه ما يريد أن يصنع ، وتأمره
بالطاعة ولزوم الجماعة ! ! وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه ، وتخبره ، وتقول :
[ ص 202 ] أشهد لحدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يقتل حسين بأرض
بابل ( 2 ) .
إن تدخل هذه المرأة في الأمر غريب ، والنساء – الأكبر منها
قدرا والأكثر منها معرفة وحديثا – حاضرات ، والأغرب
أنها تأمر الإمام بالطاعة ولزوم الجماعة ،
وهذه اللغة ، إنما هي لغة الدولة ورجالها والمندفعين لها ، ولا أستبعد أن يكون وراء
تحريك هذه المرأة – وهي ربيبة عائشة والراوية لحديثها – أيد عميلة للدولة .
وقد كان جواب الإمام لها إلزامها بما روت ، فلما قرأ كتابها قال :
فلا بد لي – إذن – من مصرعي ،
ومضى عليه السلام .
وأتاه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال :
[ ص 202 ] إن الرحم تصارني ( 1 ) عليك ، وما أدري كيف أنا
عندك في النصيحة لك ؟
قال عليه السلام : يا أبا بكر : ما أنت ممن يستغش ولايتهم ،
فقل .
قال : قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وبأخيك ، وأنت
تريد أن تسير إليهم ، وهم عبيد الدنيا ، فيقاتلك من قد
وعدك أن ينصرك ، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصر .
فأذكرك الله في نفسك ( 2 ) .
إن أبا بكر ، حسب النص عن الحسين ليس متهما ولا يتوقع منه الغش ، كما
يتهم غيره من الناصحين ، ثم يبدو أنه إنسان بعيد النظر حيث تنبأ بأمور ، أصبحت
حقيقة ، فيبدو أنه كان مخلصا في نصحه .
ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام له ، أن قال :
[ ص 202 ] جزاك الله – يا بن عم – خيرا ، فقد اجتهدت رأيك
ومهما يقض الله من أمر يكن .
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتابا يحذره أهل الكوفة ، ويناشده
الله أن يشخص إليهم .
فكتب إليه الحسين عليه السلام
[ ص 202 ] إني رأيت رؤيا ، ورأيت فيها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ، وأمرني بأمر أنا ماض له ، ولست بمخبر
بها أحدا حتى ألاقي عملي ( 1 )
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص :
[ ص 202 – 203 ] إني أسأل الله أن يلهمك رشدك ، وأن
يصرفك عما يرديك ، بلغني أنك قد اعتزمت على
الشخوص إلى العراق ، فإني أعيذك بالله من الشقاق .
فإن كنت خائفا فأقبل إلي ، فلك عندي الأمان والبر والصلة .
وعمرو هذا من الأمراء الأقوياء ، في فلك الحكام ، وذو عدة وعدد ، ويبدو من
كتابه أنه على ثقة من نفسه ، وأنه إنما كتب الكتاب مستقلا ، وأما نيته فلا يبعد أن
يكون قد فكفي التخلص من الحسين عليه السلام وحركته بنحو سلمي ، لأنه
كان ممن يرشح نفسه للحكم ، أو هو محسوب على الدولة ، ولا يحب أن يتورط
في مواجهة مع الحسين عليه السلام ، ومع هذا فهو جاهل بكل الموازين
والمصطلحات الإسلامية ، فهو يحذر الإمام من الشقاق ثم هو يحاول أن يطمع
الحسين في الأمان والبر والصلة
وقد كتب إليه الحسين عليه السلام جوابا مناسبا هذا نصه :
[ ص 203 ] إن كنت أردت بكتابك إلي بري وصلتي ،
فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة .
وإنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من
المسلمين
وخير الأمان أمان ا لله ، ولم يؤمن الله من لم يخفه في الدنيا ،
فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمان الآخرة عنده ( 1 ) .
ومن العبر أن عمرا – هذا – اغتر بأمان خلفاء بني أمية فغدروا به ، وقطعوه
بالسيوف ، ولم ينفعه أهله وعشيرته ، فخسر أمان الدنيا وأمان الآخرة
ويبقى من الناصحين العبادلة : ابن عباس ، وابن عمرو ، وابن الزبير ، وابن
عمر :
أما ابن عباس : فلو صحت الرواية فإن يزيد بن معاوية ، دفعه على التحرك
في هذا المجال ، وكتب إليه يخبره بخروج الحسين إلى مكة ، وقال له :
[ 203 ] وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه ، فاكففه عن
السعي في الفرقة .
وتقول الرواية : إن ابن عباس أجاب يزيد ، فكتب إليه : إني لأرجو أن لا يكون
خروج الحسين لأمر تكرهه ، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة
وتطفأ به النائرة .
وتقول الرواية : ودخل عبد الله بن العباس على الحسين ، فكلمه ليلا طويلا ،
وقال [ ص 204 ] وقال : أنشدك الله أن تهلك غدا بحال مضيعة ، لا تأت
العراق ، وإن كنت لا بد فاعلا ، فأقم حتى ينقضي الموسم
وتلقى الناس ، وتعلم على ما يصدرون ؟ ثم ترى رأيك .
وتحدد الرواية تاريخ هذا الحديث في عشر ذي الحجة سنة ستين .
وتقول الرواية : فأبى الحسين إلا أن يمضي إلى العراق ، وقال لابن عباس :
يا بن العباس ، إنك شيخ قد كبرت ( 1 )
ثم خرج عبد الله من عند الإمام عليه السلام ، وهو مغضب
ولو صحت الرواية ، فإن إقدام ابن عباس على هذا العمل ، وانبعاثه ببعث
يزيد ، وأطروحته بتأخير الحركة ، وسائر كلامه يدل على تناسي ابن عباس لمقام
الحسين عليه السلام في العلم والإمامة ، وعلى بعده عن الأحداث .
فكان جواب الحسين عليه السلام بأنه شيخ قد كبر تعبيرا هادئا عن فقده
للذاكرة ، وقوة الحدس ، وما اتصف به ابن عباس من الذكاء طول حياته الماضية ،
والتي كشفت عنها مواقفه السامية .
مع أن الإمام الحسين عليه السلام ذكر لابن عباس أمرا جعله يهدأ ، وهو قوله
له :
[ ص 204 ] لأن أقتل بمكان كذا وكذا ، أحب إلي أن تستحل
بي – يعني مكة –
فبكى ابن عباس ، وكان يقول :
فذاك الذي سلا بنفسي عنه ( 2 ) .
وهذا ما يبعد كل ما احتوته تلك الرواية ، ولعل الرواة خلطوا بين ابن الزبير
وابن عباس
ولو كان يزيد قد تمكن من تحريك شيخ بني هاشم في تنفيذ ما يريد ، فكيف
بغيره من البلهاء والمغفلين ، أو البسطاء والمستأجرين
وأما ابن عمرو بن العاص فلم تؤثر عنه كلمة في الناصحين إلا أنه قال –
لما سئل عن الحسين ومخرجه – : [ ص 206 ] أما إنه لا يحيك فيه السلاح ( 1 )
ومعنى كلامه : أنه لا يضره القتل مع سوابقه في الإسلام ، لكن الفرزدق الشاعر
استشعر من الكلام دلالة أخرى ، ولعله عدها تشجيعا على الخروج وتأييدا وحثا
عليه ، حتى عد ذلك من ابن العاص نفاقا وخبثا
وأما ابن الزبير فقد حشره بعض المؤرخين في الناصحين وإن صحت
الرواية بذلك ، فهو بلا ريب ممن يستغش في نصحه ، لأنه هو الذي شب على
عداء أهل البيت النبوي ، ودفع أباه في أتون حرب الجمل ، ووقف مع عائشة
خالته في وجه العدالة ، ولقد أبدى حقده وسريرة نفسه ، لما استولى على الحكم
في مكة ، فكان يترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسدا لآله ،
وقد جمع آل أبي طالب في الشعب ، مهددا بالإحراق عليهم ، لما أبوا أن
يبايعوه ويعترفوا بإمارته .
وقد كان يكيد للإمام زين العابدين في المدينة ( 2 )
هذا الرجل لم يحاول نصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج خوفا عليه
من قتلة أبيه وأخيه ، بل لا يذكر ذلك إلا شماتة ،
وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام – كما في الرواية – متناسيا هذا الماضي
الأسود ، لكن مذكرا إياه بمستقبل مشؤوم
[ 248 ] فقال له : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن
تستحل بي – يعني مكة
– متنبئا بتسببه في انتهاك حرمة البيت والحرم ، عندما يعلن طغيانه في داخل
مكة ويستولي عليها ، مما يفتح يد جيش الشام لانتهاك حرمتها ، بل رميهم للكعبة
وهدمها ،
بينما الحسين عليه السلام خرج من مكة رعاية لهذه الحرمة أن تهتك .
وهكذا كان أهل البيت يحافظون على هذه الحرمة كما
قرأناه في الفقرة [ 22 ] .
وهناك نقول وأحاديث كثيرة تؤكد أن ابن الزبير لم يكن إلا من
المشجعين للحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق ، صرح بذلك سعيد بن
المسيب ( 1 ) واتهمه بذلك بشدة المسور بن مخرمة ( 2 ) وأما ابن عباس فقد واجه
ابن الزبير بذلك ، حين قال له :
[ ص 204 ] يا بن الزبير ، قد أتى ما أحببت ، قرت عينك ، هذا
أبو عبد الله يخرج ، ويتركك والحجاز ، وتمثل :
يالك من قبرة بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري ( 1 ) .
وأما ابن عمر : ذلك المتظاهر بالورع المظلم ، الذي لم يميز به الحق ولم يبتعد
عن الباطل ، يحاول – بزعمه – الانعزال عن الفتنة ، رغبة في العفة عن الدماء ،
فإنه كان أصغر قدرا من أن يجد الحل المناسب للخروج عما يدخل فيه ، إن
أحسن أن يدخل في شئ ،
فهو على أساس من نظرته الضعيفة والملتوية امتنع عن مبايعة الإمام علي أمير
المؤمنين عليه السلام المجمع على إمامته ، لكنه يقصد الحجاج الملحد ليبايعه ، زاعما أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من بات وليس في عنقه بيعة
مات ميتة جاهلية ( 2 ) فمد الحجاج إليه رجله يبايعه بها ، وحاججه في امتناعه عن
بيعة علي عليه السلام بأنه لما ترك بيعته أما كان يخاف أن يموت في بعض تلك
الليالي ،
فكان الحجاج الملحد ، أبصر في ذلك من ابن عمر المتزهد .
وهكذا يجر الخذلان بعض الناس إلى العمى عن رؤية ما بين يديه ، وهو
يدعي أنه يرى الأفق البعيد
وبعد هذه المواقف الهزيلة ، يأتي ابن عمر إلى الحسين عليه السلام ليحشر
نفسه في الناصحين له بعدم الخروج إلى العراق ، زاعما :
[ 245 ] إن أهل العراق قوم مناكير ، وقد قتلوا أباك وضربوا
أخاك وفعلوا ، وفعلوا .
ولما أبى الإمام – بما سيأتي نقله – قال ابن عمر :
[ 246 ] أستودعك الله من قتيل ،
لكن كل ما ذكره ابن عمر ، لم يكن ليخفى على الحسين نفسه ، لأنه عليه
السلام كان أعرف بأهل الكوفة ، وما فعلوه ، حيث كان فعلهم بمنظر منه ومسمع ،
وبغياب ابن عمر عن ساحة الجهاد ذلك اليوم ، فليس إلى تنبؤات ابن عمر
حاجة !
وإذا كانت نظرة ابن عمر عدم التدخل في السياسة ، والانعزال عن الفتن ، فلم
يكن تدخله اليوم ، ومحاولة منع الحسين من الخروج منبعثا عن ذات نفسه ،
وإنما أمثاله من البله يندفعون دائما مع إرادات الظالمين ، ولو من وراء الكواليس ،
أولئك الذين كان ابن عمر يغازلهم ويتقرب إليهم مثل معاوية ، ويزيد ،
والحجاج
وما أجاب به الإمام الحسين عليه السلام هؤلاء الناصحين ، قد اختلف
حسب الأشخاص ، وأهوائهم ، وأغراضهم ، ومواقعهم ، وقناعاتهم ، وقربهم ،
وبعدهم ، كما رأينا ،
وأما الجواب الحاسم ، والأساسي ، فهو الذي ذكره الإمام في جواب الأمير
الأموي عمرو بن سعيد ، فقال :
[ ص 203 ] . . . إنه لم يشاقق من دعا إلى الله ، وعمل صالحا ،
وقال : إنني من المسلمين ( 1 ) .
فإذا كان الحسين عليه السلام خارجا لأداء واجب الدعوة إلى الله ، فلا يكون
خروجه لغوا ، ولا يحق لأحد أن يعاتبه عليه ، لأنه إنما يؤدي بإقدامه واجبا إلاهيا ،
وضعه الله على الأنبياء وعلى الأئمة ، من قبل الحسين وبعده .
وإذا أحرز الإمام تحقق شروط ذلك ، وتمت عنده العدة للخروج ، من خلال
العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلت إليه . فهو لا محالة
خارج ، ولا تقف أمامه العراقيل المنظورة له والواضحة ، فضلا عن تلك المحتملة
والقائمة على الفرض والتخمين ، مثل الغدر به وهلاكه ، ذلك الذي عرضه
الناصحون ، فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل الله ، التي هي
من أفضل النتائج المتوقعة ، والمترقبة ، والمطلوبة لمن يدخل هذا السبيل .
مع أنها مقضية ، ومأمور بها ، وتحتاج إلى توفيق عظيم لنيلها ، فهي إذن من
صميم الأهداف التي يضعها الإمام أمام وجهه ، لا أنها موانع لإقدامه
وأما أهل العراق وسيرتهم ، وأنهم أهل النفاق والشقاق ، وعادتهم الغدر
والخيانة . فتلك أمور لا تعرقل خطة الإمام في قيامه بواجبه ، وإنما فيها الضرر
المتصور على حياة الإمام وتمس راحته ، وليس هذا مهما في حيال أمر القيادة
الإسلامية ، وأداء واجب الإمامة ، حتى يتركها من أجل ذلك ، ولذلك لم يترك
الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة ، بالرغم من استيائه منهم إلى حد الملل
والسأم ، لكن لا يجوز له – شرعا – أن يترك موقع القيادة ، وواجب الإمامة من أجل
أخلاقهم المؤذية لشخصه .
وكذلك الواجب الذي ألقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل
العراق ، وأهل الكوفة ، بالخروج إليهم ، والقيام بأمر قيادتهم ، وهدايتهم إلى
الإسلام ، لم يتأد إلا بالخروج ، ولم يسقط هذا الواجب بمجرد احتمال العصيان
غير المتح

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...