مواعظ شافية

11- عوامل الثبات والتزلزل

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾1

1- سورة هود، الآية: 120.

تمهيد

 

إنّ دراسة عوامل التزلزل عن الحقّ تعرّفنا على عوامل الثبات، وأسباب التزلزل تشير إلى أسبابا الثبات، تماماً كالتعرّف على أسباب المرض حتّى يعرف الإنسان أسباب الصحّة والسلامة.

 

أساليب العدوّ في المحنة

 

يبدأ الصراع بين الحقّ والباطل، فيتّهم أهلُ الباطل أنصارَ الحقّ بأنّهم مرفوضون من قبل الناس، ومن قبل المجتمع، ثمّ تتطوّر الأساليب فيتّهمونهم بالكذب والسحر والشعوذة والجنون، كما حصل مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وصولا إلى الشتائم والأذى الشخصيّ والمقاطعة والتعذيب والحصار، وانتهاء بالقتل والتعذيب والإبادة. ومن هنا ندخل للحديث عن عوامل الثبات والتزلزل:

 

العوامل المؤثّرة في التثبيت

 

في آخر سورة هود، يقول تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾2.

2- سورة هود، الآية: 120.

لقد تعرّضت سورة هود في القرآن الكريم إلى عدد من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وكلّ هذه القصص المذكورة في هذه السورة على تنوّعها إنّما هي لأجل تثبيت فؤاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب المؤمنين مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي موعظة وذكرى للمؤمنين، وهي حقّ ونثبّت بها فؤادك، لأنّ القلب إذا كان ثابتاً وقويّاً شجاعاً وصلباً عندها تثبت سائر الأعضاء.

 

ما هي عوامل التزلزل والثبات من القرآن والسنّة والتاريخ؟

 

1- الخوف من الموت:

في البداية يصمد صاحب الحقّ قليلاً، ولكن عندما تصل مسألة الثبات على الحقّ إلى روحه وعائلته وأحبّائه، وأنّه قد يتعرّض للقتل عندئذٍ قد يتزلزل، وشواهد ذلك من التاريخ كثيرة جدّاً، لكن نذكر شاهداً واحداً من كربلاء فقط، ففي الكوفة الّذين بايعوا الإمام الحسين عليه السلام وبايعوا مسلم بن عقيل سفير الحسين إليهم، عندما هدّدهم عبيد الله بن زياد بالقتل (مع استخدامه لقليل من الحرب النفسيّة حيث بثّ شائعة أنّ جيش يزيد من أهل الشام في الطريق إليهم) تزلزلوا وسقطوا في هذه المحنة وتخلّوا عن مسلم بن عقيل، وخذلوا الإمام الحسين عليه السلام.

وعلاج هذا السبب يتمّ من خلال عدّة أمور، لو اعتقدت النفس بواحد منها لارتفع الخوف من الموت، ولم تعد تتزلزل عن الحقّ في المحنة عندما تواجه الموت، وهذه الأمور هي:

ألف- أن يلقّن الإنسان نفسه حقيقة أنّ جميع الناس غير مخلّدين وكلّهم ميّتون، عندها لم يعد يبالي بالموت، وإنّما تختلف أسباب الموت:

من لم يمت بالسيف مات بغيره                تعدّدت الأسباب والموت واحد

ب- توهّم أنّ في الهروب نجاة:

تتوهّم أنفسنا أنّ التأخّر والهروب من الحرب والمعركة والابتعاد عن خطّ الحقّ

سوف يبعدنا عن الموت، والصحيح أنّ الموت له أجل: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ3.

﴿……يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ4.

فتوهّم أنّ الهروب من الموت عند التحدّي والمحنة هو حفظ للنفس وإطالة للعمر! توهّم خاطئ وغير صحيح، والأسوأ من ذلك أنّ هذا النوع من الناس يموتون بوقت سريع، فكثير من قيادات وكوادر بل ومقاتلي جيش يزيد لم يلبثوا بعد الإمام الحسين عليه السلام إلّا قليلاً، فهل تستحقّ هذه السنوات القليلة للتزلزل والابتعاد عن الحقّ.

 

2- الخوف على الأموال والرزق:

والصحيح في أنّ الجهاد هو الّذي يجلب الرزق، ومن أراد أن يتأكّد فلينظر ما جرى على أهل المدينة في واقعة الحرَّة، و ما جرى على الأمّة بعد تخلّي الأمّة عن فلسطين. ثمّ لينظر في عاقبة الجهاد في لبنان حيث أعاد إلينا كلّ شيء أهلنا وقرانا وأموالنا وحافظ على أعراضنا..

 

3- ركون الناس إلى الدنيا:

إذ يعتقدون أنّها باقية دائمة، ويغفلون عن كونها زائلة فانية، لم تدم لغيرهم فكيف تدوم لهم؟!

انظر إلى الأمم السالفة إلى الفراعنة والعمالقة، إلى الفرس والروم، إلى حضارات كانت وولّت، إلى من شارك في قتل سيّد الشهداء عليه السلام ، من بقي منهم؟

3- سورة آل عمران، الآية: 168.

4- سورة آل عمران، الآية: 154.

 وأين هي دورهم وقصورهم؟ أموالهم وكنوزهم؟ عاشوا قليلاً، ورحلوا سريعاً، فلم تبقَ إلا آثارهم.. فهل تستحقّ هذه الدنيا أن نخسر لأجلها الآخرة فضلاً عن الدنيا نفسها؟!

من النافع هنا أن نتذكّر كلام الإمام الحسين عليه السلام لجيش ابن سعد (لعنه الله) حيث فقال: “الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها”5.

عمر بن سعد (لع) رضي بقتل الإمام الحسين عليه السلام طمعاً بشيء من حطام الدنيا (ملك الريّ وبعضاً من جرجان)، ولكنّه لم يبق بعد الحسين عليه السلام إلّا سنوات قليلة وقتل على يد المختار الثقفي. فخسر الدنيا والآخرة.

فالسبب الرئيس الّذي يجعل الإنسان ثابتاً على الحقّ هو عدم تعلّقه بالدنيا، وليس الزهد هو لباس الخشن وإنّما هو عدم التعلّق بالدنيا:

  • عندما أخيّر بين الحقّ ونفسي أقدّم الحقّ،

  • عندما أخيّر بين الحقّ وولدي أقدّم الحقّ،

  • عندما أخيّر بين الحقّ ومالي أقدّم الحقّ وأنصر الحقّ وأقدّم كلّ شيء من أجل نصرة الحقّ.

 

4- العلم والمعرفة:

بما أعدّه الله للثّابتين والمضحّين والمجاهدين فيقدّم الله على هواه لجنّة عرضها السماوات والأرض وحياة خالدة ورضوان ودار ” فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”… وأيّ شخص عاقل يعرف ويدرك أنّ وراء هذه الحياة الدنيا حياة بتلك العظمة ثمّ يتخلّى عنها؟!!

5- بحار الأنوار،العلامة المجلسي، ج45، ص6.

5- اللجوء إلى الله سبحانه:

فإنّه ركن قويّ وحرز حريز عند التزلزل وعندما تبدأ النفس والشيطان والناس بالوسوسة وتثبيط العزائم،.. فنلجا إلى الله سبحانه، وعندما نطلب من الله أن يثبّتنا ويعيننا، فإنّ الله يستجيب لنا، وعلى طوال التاريخ كان يفعل المؤمنون ذلك: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ6.

﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ7.

يعني هذا ديدن المؤمنين مع الأنبياء عليهم السلام.

 

6- التأسّي:

بالأنبياء وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تحمّله وصبر عليه من مكائد الدهر والأذى والآلام، وبأهل البيت الّذين تهون عند مصائبهم كلّ مصيبة وبصحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المرحلة المكّيّة عندما عذّبوا وقتّلوا وشرّدوا:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا8.

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ9.

أنست رزيّتكم رزايانا الّتي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

6- سورة البقرة، الآية: 250.

7- سورة آل عمران، الآيات: 146 148.

8- سورة الأحزاب، الآية: 21.

9- سورة الممتحنة، الآية: 4.

 للمطالعة

بلاء المؤمنين

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير تِرة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى،﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، فاسألوا ربّكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم”10.

 

وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: “بعث الله نبيّا حبشيّا إلى قومه فقاتلهم، فقتل أصحابه وأسروا وخدّوا لهم أخدودا من نار ثمّ نادوا: من كان من أهل ملّتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبيّ فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون، وأقبلت امرأة معها صبيّ لها فهابت النار، فقال لها: اقتحمي، قال: فاقتحمت النار، وهم أصحاب الأخدود”11.

 

10- الكافي، ج 8، ص 248.

11- البحار، ج 14، ص 441.


شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...