الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر 19

المسيح في ليلة القدر 19

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد ريتشارد إبراهيم بتاريخ 01\01\1987م

الشهيد ريتشارد إبراهيم
تاريخ الشهادة: 18\08\1986م
 
 
 
 
232

193

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 هذه الأمّ، الّتي كانت طوال عشرين عامًا كالجبل قويّة وصلبة ولم تتزلزل، ها هي الآن تشكو لي همّها أنا ابنتها الوحيدة.

هل تَرَيْن يا ابنتي! في الأشهر الخمسة هذه، بقيت حسرة في قلبي، ولو لمرّة واحدة، فقط مرّة واحدة حين أذهب إلى زيارة قبر ريتشارد، أن أري باقة ورد أو شيئاً ما، يدلّ على أنّ والدك قد جاء إلى قبر أخيك، قبر ابنه، ولكن….
تأوّهت أمّي من كلّ قلبها، واختنقت بعبرتها. سكتت كي لا يختلط كلامها بدموعها. اقتربت منها والتصقت بها. لو أنّها تبكي وتنزل دموعها، سيتحسّن حالها. سيخفّ همّها ويزول، لكن 
وككلّ الأوقات تكدّس الحزن فوق الحزن وتسكت. 
منذ عشرين عامًا، كُنّا عائلة من خمسة أفراد نعيش في “أرومية”: أخي الكبير روبرت، أنا -الابنة الوحيدة للعائلة-، أخي الصغير ريتشارد، أمّي وأبي. 
كان كلّ شيء يبدو جيّدًا وعلي ما يرام، إلى أن، ومن دون أيّ سبب واضح، تركنا أبي وذهب للبدء بحياة جديدة. حين اختار أبي زوجة أخرى وذهب من دون رجعة، كان عمر أخي ريتشارد ثلاثة أشهر، فقط ثلاثة أشهر. 
ذهب أبي وبقيت أمّي. بقيت غريبة لوحدها تواجه المصاعب والمشاكل. لا بيت، لا مال، حتّي لا طعام! لا شيء لا شيء!
كان يجب عليها أن تُربّي أبناءها الثلاثة وحدها من دون معين وبيدَيْن فارغتَيْن. 
قبّلتُ يدَيْها الباردتَيْن وقلتُ لها: ماما، لقد كُنتِ في الخارج، وتغلغل إليك البرد، ما رأيك بفنجان شاي؟ هزّت رأسها، كعلامة رضى وأغمضت جفنَيْها وكأنّها تقول: أجل يا ابنتي. 
كُنتُ في المطبخ منشغلة بإحضار كوب الشاي عندما نادتني أمّي وهي تقول: لكن أين روبرت وآليم؟
 
 
 
233

194

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 آليم هو ابني، عمره أربع سنوات. أجبتها وأنا أدخل الغرفة: لقد ذهبا لشراء الحلوي من طرف الشارع.

– حلوي!؟ لا بد أنه سيشتري للضيوف…
قطعت كلامها بتعجّب: وهل من المتوقّع أن يزورنا أحد؟ اعتقدت أنّ الحلوي لعيد الميلاد.
تناولت أمّي مكعّب سكّر، قرّبت الفنجان وشربت القليل من الشاي. 
– أيّ عيد يا ابنتي، نحن ما زلنا في الحداد. ليس الحداد علي ريتشارد وحسب، بل علي كلّ الشباب الذين استشهدوا أمثال ريتشارد. 
قطع جرس الباب كلام أمّي. فتحت الباب، إنّهما روبرت وآليم. ما إن رأي آليم أمّي، حتي صرخ من الفرح وركض ليرمي نفسه في حضنها ويقول لها بلهجته الطفولية المحبّبة: “مبارك 
عيدك يا مادام”! احتضنت أمّي آليم وشدّته إليها وكأنّها لم تره منذ سنوات وسنوات! بعد رحيل ريتشارد، صارت تُحبّ آليم بطريقة مختلفة. 
كُنتُ أُريد أن أسأل روبرت عن الضيوف: “لم تقل لي إنّنا ننتظر ضيوفًا؟!” ولكن فجأة ارتفعت صفّارات الإنذار من الراديو: “إنّ ما تسمعونه الآن هو إعلان خطر، إنّها الوضعيّة الحمراء وهذا يعني أنّ غارات جويّة ستحصل. أسرعوا قدر الإمكان إلى الملاجئ”.
أطفأ روبرت أضواء البيت بسرعة. وكان هناك مجموعة من الناس يوصون بصوت عال بالإسراع في إطفاء أضواء البيوت التي لم تُطفأ حتى تلك اللّحظة. يقولون إنّ عدم إطفاء الأضواء يعني أنّ الطائرات العراقيّة ستقصف المكان من دون شك! سيتأكّدون أنّ مدنيّين يعيشون في المكان.
كانت أمّي منشغلة باللّعب مع آليم، فجلست بالقرب من روبرت: لم تقل إنّه سيزورنا ضيوف!.
– لا شيء مُهِمًّا يا أختي، من المفترض أن يأتي واحد أو اثنان من أصدقاء ريتشارد لزيارتنا. واحد أو اثنان من مئات الشباب الّذين كانوا في تشييعه. 
في الحقيقة، أنا أنزعج من مجيء الضيوف، ليس لأنّني أكره الضيوف والضيافة، بل لأنّني كنت أشعر بالخجل. فكيف نستقبل ضيوفًا في منزل كائن في طابق سفليّ (تحت الأرض)
 
 
 
 
234

195

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 تفوح رائحة الرطوبة فيه؟ عدا عن كون الضيوف غير أشوريّين ومن رفاق ريتشارد.

ما إنْ رأي روبرت عقدة حاجبيَّ حتي قال لي: “أختي الصغيرة! لا تنزعجي، ليس من المفترض أن يأتي رئيس الجمهورية!”.
بالطبع مع وضع صفّارات الإنذار هذا، ارتاح بالي لناحية مجيء الضيوف. لأنّ أحدًا لن يُخاطر لأجل زيارة في مثل هذه الظروف.
كان قد مضي علي إعلان الوضع الأبيض (انتهاء حالة الخطر) حوالي الساعة، حين دقّ جرس الباب. روبرت الّذي كان قد نسي ضيوفنا، قفز من مكانه.
– أمّي ! أختي! إنّهم هم! رفاق ريتشارد. 
وضعت وشاح الرأس وتوجّهت إلى المطبخ. عرفت من أصوات الضيوف أنّهم شابّان اثنان. قلقت من شيطنة آليم، وألّا يسمح لجدّته وخاله بالكلام مع الضيوف. فدخلت إلى الغرفة بعد دقائق وسلّمت عليهما. من دون أن ينظرا إلى وجهي وقفا باحترام لي وسلّما عليّ. اعتذرا علي إزعاجنا ليلة العيد. أخذت آليم من حضن أمّي وكُنتُ أُريد الدخول إلى المطبخ عندما دقّ جرس الباب مرّة ثانية. 
وقفت هناك في وسط الغرفة لأري مَنْ القادم الآن. سمعت صوت روبرت المتقطّع وهو يقول: “تـ..تـ…تفضّلوا”. تسمّرت عيناي وأنا أسمع صوت روبرت المتلعثم. نظرت إلى الباب لأري ما القصّة، لماذا تفاجأ روبرت وتلعثم هكذا؟! فرأيت أولًا عصا سوداء وبعدها… ماذا؟ رأيت أوّلًا عصا سوداء ثم السيّد علي الخامنئي!؟ هل ما أراه صحيحًا؟ هل هو السيّد علي الخامنئي رئيس الجمهوريّة نفسه؟
كالمصعوقة بالكهرباء، تجمّدت في مكاني. فأنا لا أستطيع بهذه البساطة أن أُصدّق أنّ رئيس الجمهوريّة قد دخل إلى بيتنا الصغير جدًّا! وفي ليلة، لم يمض ساعة أو ساعتان علي إعلام خطر الغارات الجويّة. لقد حرتُ فعلًا! نظرت إلى روبرت، هو أيضًا كان مثلي مندهشًا مذهولًا. 
في داخلي، كُنتُ أصرخ بوجه روبرت: “أختي الصغيرة! لا تنزعجي، ليس من المفترض أن يأتي رئيس الجمهورية”!
قبل أن يجلس رئيس الجمهوريّة، سلّم علينا نحن الأربعة، حتي آليم. “لا أدري لماذا
 
 
 
 
235

196

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 لم أكن أشعر بالانزعاج من حضور السيّد علي الخامنئي. أنا الّتي أخجل دائمًا من حضور الضيوف وخاصّة الغرباء منهم، وألجأ إلى المطبخ كي لا أراهم، ها أنا أجلس في الغرفة من دون أيّ خجل”. 

ما إنْ جلس السيّد الخامنئي علي الكرسيّ، حتي أشار إلى لوحة ريتشارد المرسومة وسأل أمّي:
– أهذه صورة الشهيد؟
– نعم لقد رسمها أحد أصدقائه. 
هزّ رئيس الجمهورية رأسه كإشارة رضى. وظلّ ينظر إلى صورة ريتشارد يتأمّلها.
بعد لحظات من مشاهدة اللّوحة، سأل أمّي:
– أنت والدة الشهيد؟
– نعم! أنا أمّه.
ثم نظر إليّ.
– وأنت يا سيّدة؟
رفعت رأسي وقلتُ بافتخار خاص: أنا أخته!
كانت لهجة جوابي بالنسبة إليّ عجيبة أيضًا. فلم أكن يومًا، أشعر بالافتخار كوني أخت ريتشارد كما الآن!
كان روبرت يجلس في زاوية الغرفة وخارج مجال رؤية السيّد، وإلا لسأله عن قرابته بالشهيد. 
نظرت إلى روبرت. كان لا يزال مذهولًا، ينظر إلى نقطة ما علي الحائط وكأنّه حلّق في آفاق بعيدة، لا أدري، من الممكن أن يكون قد أحيا ريتشارد في ذهنه وها هو يجول معه علي الذكريات. إنّ هَيْن الشقيقَيْن وعلي الرغم من السنوات الستّ التي تفصل بينهما في العمر، إلّا أنّهما كانا قريبين جدًّا أحدهما من الآخر. كلّما ذهبا، كانا معًا، وكلّما أراد أحدهما القيام بعمل ما، كانا يقومان به معًا.
بحركة من يدي، ناديته! أشرت له بحركة من رأسي وأفهمته أنّ الطاولة فارغة، فإمّا أن يحمل آليم من حضني أو أن يحضر هو الضيافة.
 
 
 
 
236

197

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 سأل السيّد الخامنئي والدتي عن تاريخ شهادة ريتشارد:

– حسناً متي استشهد ابنك؟
– في الثامن عشر من شهر آب.
– الثامن عشر من شهر آب من العام (1986)؟
– نعم.
– يا للعجب! لقد استشهد حديثًا!
حين لاحظت أمّي أنّ السيّد الخامنئي يتكلّم من دون تكلّف وبراحة، بدأت تبثّه همومها.
– لقد كُنتُ أتكلّم مع الإخوة. السبت عيد الميلاد، أوّل عيد له. كُنتُ أتوقّع من أصدقائه كما حضروا بمناسبة أربعينه وأثناء المناسبات المتعدّدة وشرّفونا، أن يحضروا في عيده. من المؤسّسة ومن وزارة الدفاع وغيرهم. لأنّه عيده الأول.
بكلّ حنان وأبوّة، اعتذر السيّد الخامنئي من أمّي علي خطأ لم يرتكبه. يا للعجب! أن يكون الإنسان رئيسًا للجمهورية ويكون بسيطًا ومتواضعًا وترابيًّا إلى هذا الحد. 
– لا بد وأنّه لا علم لهم بالأمر، قد لا يعلمون. حسنًا، الآن أرجو منك أن تتقبّلي اعتذاري بالنيابة عنهم.
 
 
 
 
237

198

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 انزعجت أمّي من اعتذار السيّد الخامنئي:

– أنت قائدنا وعزيزنا، أشكرك علي لطفك، أنا ممنونة لك. أعتذر علي عتبي. نحن الأمّهات، بعد أن نفقد عزيزًا لنا، في مصائب كهذه نحتاج لأحد كي يواسينا، وهذا ما نأنس به.
عند هذه النقطة من الأخذ والردّ، دخل روبرت مع صينيّة الشاي. قدّمت أمّي أخي روبرت إلى السيّد.
– هو الأخ الكبير للشهيد.
نظر السيّد الخامنئي إلى روبرت بطوله الفارع، ابتسم له وسلّم عليه. ثمّ التفت إلى أمّي قائلًا: ليحفظ الله هذا الابن وهذه الفتاة وأبناءهما لك. ليُبارك لكم عيدكم وسنتكم الجديدة. إن شاء الله تكون هذه السنة سنة خير وبركة.
تقطع أمّي كلام السيّد الخامنئي معتذرة لتقول له إنّنا لم نُعيّد هذه السنة، ولا عيد عندنا:
– أعتذر كثيرًا منكم سيّدي رئيس الجمهوريّة! نحن كمسيحيّين نعتقد أنّه ما دام هناك حرب، ما دام هناك دمار، ما دام هناك قتل ودماء، لا يُمكن أن يتجلّي عيد الميلاد. فالعيد هو ذلك اليوم الذي تجتمع فيه العائلات بعضها مع بعض، من دون خوف، من دون ألم، من دون انتظار للأحبّة، من دون ارتداء الأسود، من دون قلق علي المدن والمناطق السكنيّة، عندها يكون العيد. 
نحن نحتفل دائمًا بعيد ميلاد المسيح ونفرح بولادته. ولكن عندما يكون أصدقاؤنا كلّهم فرحين ومسرورين. فما أكثر أصدقاءنا الّذين يتعرّضون لقصف صدّام؟ حتي إنّ البعض قد هاجر بعد أن فقد أملاكه وهدمت بيوته. بالطبع، نحن نُعيّد ولكن ليس عيدًا حقيقيًّا. فقط نتلقّي التهاني بالعيد ونُزيّن شجرة ونُرسل هدايا للأصدقاء كي لا تفرح قلوب الأعداء بأنّنا نتعذّب.
حين كانت أمّي تتكلّم، كانت ابتسامة الرضى واللّطف تعلو وجه السيّد الخامنئي، وكان يسمع ما تقوله بكلّ دقّة، وكأنّه لا يريد التحدّث، فقط يريد أن يسمع أمّي، وظهر هذا الأمر في تعقيبه على كلامها.
 
 
 
 
238

199

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 – حسناً، أشكرك علي الكلام الناضج الّذي تفضلتِ به. أنت سيّدة مثقّفة ومفكّرة وهذا أمر يُفرحنا كثيرًا أن تكون عائلات الشهداء والأمّهات المفجوعات بهذا المستوي العالي من الثقافة. 

إنّ ما تفضّلتم به يا سيّدة صحيح جدًّا وقيّم. ولكن، إن كانت ولادة السيّد المسيح أم كانت الأعياد الدينيّة الأخري، أعياد أيّ دين كان، فهي مناسبات لإفراح القلوب ولا إشكال بذلك.
إنّ هذه الأحداث تحصل دائمً، فقدان الأعزّاء، حرقة فقد الابن، حرقة فقد الأخ، هذه حوادث يومية نراها دائمًا، هذه أحداث لم تخل حياة البشر منها أبدًا. يجب أن نبحث عن أسباب وعن 
حجج كي نُزيل غبار هذه الحوادث عن قلوبنا لنكمل بعدها الحياة العادية، الحياة المليئة بالنشاط، الحياة المليئة بالأمل. يجب أن نبحث عن حجج كي يستطيع أهل هؤلاء الأعزّاء أن يسلكوا السبيل التي يُحبّون والّتي يريدون. لذلك، حتي لو لم يكن العيد عيدًا- فالعيد الحقيقي كما قُلتم أنتم حيث لا ألم، لا غمّ، لا حرب، لا دمار، لا تعكير للهدوء، هذا هو العيد الحقيقي – ولكن من الجيّد أن تكون هذه الأعياد وذكري العظماء، وسيلة للفرح والسرور. أنا سعيد أنّني جئت إلى بيتكم الليلة. 
علي الرغم من افتقاد حضور ريتشارد في هذا المجلس الدافئ والحميم، لكن ذكراه حاضرة. سأل السيّد الخامنئي عنه وبدأت أمّي بالشرح له:
– كان ابني مؤمنًا جدًّا. يشهد أهل الحيّ جميعًا. طيلة حياته لم يرفع رأسه ولو مرّة لينظر إلى وجه امرأة. لا أعرف كيف كان هذا الصبيّ! عندما ذهبنا لتوديعه حين توجّه إلى قاعدة التدريب في كرمان، قُلتُ لأخته وأخيه في طريق عودتنا إلى البيت، إنّ أخاكم طيّب لدرجة أنّه لن يعود سالمًا من هذه
 
 
 
 
239

200

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 الحرب. لقد أُلهمتُ أنّ ابني سيستشهد. يعني كان واضحًا من حركاته، من سلوكيّاته، من حالاته، من سرعته للعودة إلى الجبهة. في المرّة الأخيرة عندما جاء في مأذونيّة، أصررت عليه أن يبقي ليوم آخر. لم تكن أخته في طهران وكانت ستأتي في اليوم اللّاحق. قُلتُ له ابقَ لليلة واحدة فقط، آخر الأمر يُمكن أن نحضر ورقة من الطبيب أنّك مريض مثلًا. قال لي: “أمّي، نعمل أنا وصديقي في تفكيك الألغام، فإن بقيت وتأخّرت سيُصبح ضغط العمل علي جنديّ واحد، وأنت لا ترضين بذلك يا أمّي”. أُقسم بروحه، لقد أصرّ عليّ لدرجة أعطيته الإذن بالذهاب، لم يبقَ ليلة واحدة! من الواضح أنّه سيستشهد.

إنّ ما تقوله أمّي عن ريتشارد أنّه “كان واضحًا من سلوكه أنّه سيستشهد”، قد سمعته مرارًا من رفاقه في مراسم دفنه. كانوا يقولون: “كان ريتشارد يعمل لدرجة كُنّا نشعر أنّ التعب لا 
يعرف طريقًا إليه، الله يشهد. كان يعمل من الساعة الخامسة صباحًا حتي الثانية عشرة ليلًا. وفي الفترة الأخيرة، عمل أيضًا سائق شاحنة لرش القطران علي الطرقات كي لا يستطيع 
الأعداء التعرّف إلي تحرّكات سياراتنا من الغبار الّذي ينبعث أثناء حركتها. كان هذا عمل ريتشارد في الأشهر الأخيرة. كان يبذل جهدًا غير عاديّ في هذا العمل. في الحقيقة، سجّل 
ريتشارد رقمًا قياسيًّا لم يسبقه إليه أحد في كلّ الحرب وهو رشّ ثلاثة وخمسين ألف ليتر من المازوت علي الطرقات، خلال أسبوع واحد. عندما كُنّا نقول له: ريتشارد استرح قليلًا. كان يقول: ما دام هذا العدو المتصهين حيًّا يتنفّس، لا يُمكنني أن أستنشق الهواء، فكيف بي أستريح؟”.
 
 
 
 
240

201

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 قال لنا رفيق له: استشهد صديق لنا في الأراضي العراقيّة ولم نتمكّن من استرجاع جثمانه. تسلّل ريتشارد في اللّيل، من دون إخبار القائد، إلى منطقة الأعداء، وأحضر جثّة حسين. فيما بعد عندما وبّخه القائد بسبب ما فعل قال له ريتشارد: أنا جاهز لأيّ عقاب ولكن عليك أن تعرف أنّني لا أرضي أبدًا أن تبقي أجساد شهدائنا الأطهار في أرض البعثيّين، لأنّ أمّهات الشهداء ينتظرن أبناءهنّ.

تحدّث أحد جيراننا أيضًا في مراسم دفن ريتشارد، عبر مكبّر الصوت وقال وهو يحمل صورة كبيرة لريتشارد: قبل عشرة أيام من شهادته أحضر لي هذه الصورة وقال: “أنا ذاهب وذهابي هذا لن يطول أكثر من عشرة أيام إلى أن أستشهد. نحن ليس لدينا أحد، لذا أرجو أن تهتمّ بأمّي وأن تعتبرها أختًا لك”.
اللّيلة التي سبقت شهادته، اتصل ريتشارد بأمّي هاتفيًّا، وقال لها: “أمّي! إنّني أدين لتقي بخمسين تومانًا، لو سمحتِ أوفيه حقّه”. تقي هو صاحب محل البقالة في الحي. سألته أمّي: “ألا تريد أن تأتيَ أنت؟”. أجاب ريتشارد: “قد يطول الوقت قبل عودتي. و”تقي لديه عائلة. هو بحاجة إلى المال. “حين استشهد ريتشارد كان عمره عشرين عامًا”.
– هو لم يكن متزوّجًا؟ 
– لا يا سيّد، كان عازبًا.
بعد ذلك، بدأ السيّد الخامنئي يتبادل الحديث مع روبرت الّذي جلس بالقرب منّي.
– حسنًا! يا بنيّ! أنت أكبر من الشهيد سنًّا؟
 
 
 
241

202

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 غيّر روبرت من جلسته وجلس علي ركبتَيْه أمام السيّد الخامنئي، وأجابه: نعم.

– ماذا تعمل الآن؟
– سيّدي إنّني أعمل في الخراطة. شاركت في امتحان الكمبيوتر منذ عدّة أيام في إحدى الشركات، ونجحت. أرسلت ملفّاتي وشهاداتي لنري ما الذي سيحصل.
– ما هي شهاداتك العلمية؟
– الشهادة الثانوية يا سيدي.
– لماذا لم تكمل دراستك؟
– والله، كان يجب أن أُنفق علي العائلة. وها أنا الآن في الخامسة والعشرين.
حين وصل الحديث إلى هنا، سأل السيّد عن عمل أمّي وعن أبي.
– وأنت يا سيّدة تعملين أيضًا؟
– لا أعمل بشكل فعلي خارج المنزل بل أقوم بأعمال الحياكة وتعليم الخياطة والتطريز. هكذا ربّيت ثلاثة أطفال بالقيام بأعمال كهذه.
– والدهم متوفّي؟
– ليته كان كذلك يا سيّد! لقد انفصل عنّا وغادرنا منذ عشرين عامًا. خلال هذه السنوات العشرين، لم يزر هذا الأب أبناءه ولا مرّة واحدة ليري أين يعيشون وفي أيّ ظروف يكبرون. حتي عندما استشهد ريتشارد، علي الرغم من أنّه يسكن في هذا الحيّ المجاور، لم يحضر إلى هنا! لقد ذهبت اليوم لزيارة قبر ريتشارد، كي أُبارك له العيد. أذهب كلّ أسبوع إلى قبره، وككلّ الأمّهات، أشعر بالهدوء والسكينة هناك. ولكن لم يُصادف ولو مرّة واحدة أن وجدت وردة إضافية تدلّ على أنّ أباه قد جاء لزيارته. لا! لم يحدث ذلك أبدًا. عشرون سنة لم يسأل عن أحوالنا أبدًا. منذ إحدى عشرة سنة ونحن نسكن في هذا المنزل تحت الأرض حيث شرفتمونا الآن.
سكتت أمّي لحظات. ومسحت دمعة بطرف منديلها ثمّ غيّرت الموضوع. يبدو أنّها لم تكن تريد أن تُحزن قلب السيّد الخامنئي بسرد المآسي التي عاشتها خلال عشرين عامًا.
– من الجميل أن تعرف أيّها السيّد، حين أراد ريتشارد أن يذهب إلى الجبهة، كان أخوه الأكبر في الخدمة العسكريّة. كان يوم ذهاب ريتشارد في التاسع من شهر آذار. لو قام بتأجيل ذهابه شهرًا واحدًا لالتقي بأخيه ولقضى عيد النوروز وعيد الفصح معنا. قُلتُ له:
 
 
 
 
242

203

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 ريتشارد، ابقَ حتى الثامن من شهر نيسان ثمّ اذهب، اقضِ عيد النوروز معنا ثمّ عيد الفصح، والتقِ بأخيك الّذي لم يأتِ منذ سنتَيْن، ثمّ اذهب بعدها. فإذا ذهبت سأبقي وحدي طيلة هذا الشهر – إذ كانت ابنتي قد تزوّجت-، فقال: يا أمّي! سيأتي الكثير من الأعياد التي سنلتقي خلالها. في الواقع، هناك واجب واحد يجب أن أقوم به، وحتي لو بقيت وحدك هذا الشهر، لا مشكلة، فالمقاتلون وحدهم في الجبهات، قال هذا وذهب. عندما كان ريتشارد ذاهبًا في القطار، كان أخوه الكبير في انديمشك وقد أنهى فترة خدمته، فلم يلتقيا.

نظرت إلى وجه السيّد الخامنئي كانت نظرته عابقة بالرضى والدّعم والتشجيع. فبدأ بمدح أمّي والدعاء لها:
– أنت أمٌّ شجاعة وصابرة يا سيّدة. ليُعطِك الله الأجر، وليعوّضك بدل هذا الحزن الثقيل الذي عانيتِه وتحمّلتِه في سبيل الأهداف والمثل المقدّسة، حياة مليئة بالسعادة.
تحمّستُ كي أتكلّم أنا أيضًا مع رئيس جمهوريّة بلدن، إنّه رئيس جمهوريّة حنون لدرجة لا يُمكن لكلام أن يصف حنانه الأبويّ. 
– يا سيّدي! لقد ربّتنا أمّي رغم الكثير من الفاقة والمشكلات والحرمان. ما زلتُ أذكر أنّ ريتشارد لطالما تمنّي أن يكون لديه ساعة يد إلكترونية ثمنها مئة وخمسون تومانًا. استطاعت أمّي بكثير من الجهد أن تجمع ثمن الساعة. في المرّة الأخيرة التي جاء في مأذونية، أعطته أمّي المال كي يشتري الساعة الّتي يُحبّها، وكانت فرحته لا توصف، لأنّ أمّي كانت تعرف أنّه لن يعود، أرادت بالحدّ الأدنى أن تُحقّق له هذه الأمنية. عندما اشترى الساعة أحضرها وطلب منها أن تضعها له في يده. وضعت أمّي الساعة في يده، قبّلته وقالت: إن شاء الله سأضع الساعة في عرسك. لكن هذا الأمر لم يتحقّق فقد استشهد بعد ثلاثة عشر يومًا.
واسانا السيّد الخامنئي بجمل لطيفة ثمّ سأل أمّي: كم كان عمره حين استشهد؟
أجابت أمّي: هو من مواليد 1965م. كان عمره حين استشهد عشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيّام.
تعجّب السيّد كثيرًا: يا للعجب من هذه الدقّة! هذه أيضًا من ميزات الأمّهات.
 
 
 
243

204

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 – يا سيّد! إنّ الرجال كثيرو الادّعاء، يقولون إنّهم يتعبون كثيرًا. لكنّ البلايا تنزل على رأس الأمّهات.

ضحك السيّد الخامنئي من جملة أمّي الأخيرة. فضحكنا جميعًا، حتى أمّي ضحكت أيضًا. حاولت بعدها أن توضح قصدها للسيّد الخامنئي.
– أعتذر يا سيّدي منكم. احترامكم واجب. اعذرني على قلّة أدبي في كلامي. ليس صحيحًا مدح الإنسان لنفسه. لكنّني ربّيت ابنَيْن اثنَيْن ولم تصدف مرّة ورآهما أحد متروكين في الشارع. 
كانا يخرجان من البيت في الصباح إلى المدرسة ويرجعان في السابعة مساء. كانا يذهبان إلى المدرسة ومن بعدها إلى العمل وسيرجعان من العمل إلى البيت. لكنّ الرجال يدّعون أنّهم 
هم من ربّوا شبابًا محترمين.
السيّد الخامنئي الذي كان يشرب الشاي، أنهى فنجانه وعلّق على كلام أمّي:
– لا شكّ أبدًا بتأثير الأمّ على أخلاق وطباع ابنها. فالأم تؤثّر على خصوصيّات السلوك والأخلاق لدى أبنائها. والخصال الذاتيّة التي تظهر لدى الأطفال هي مئة في المئة من تأثيرات الأم. كذلك الأمر في الجوانب التربويّة المتعدّدة. وخاصة أنت وهؤلاء الأطفال، حيث كنت بالنسبة إليهم الأمّ والأب معًا. 
لطالما سمعت أمّي هذه الجملة: “كنتِ بالنسبة إليهم الأمّ والأب معاً”، لكنّ سماعها من القائد ترك أثرًا كبيرًا في نفسها!
فتحت أمّي وعاء ذكرياتها ولم تتوقّف عن الحديث معه. كان السيّد أيضًا يسمع ويسمع كلام أمّي من دون أن يشعر ولو بذرّة تعب أو أن يستعجل الذهاب. 
– كنتُ دائمًا أريد أن يكون أبنائي مفيدين، وكلّما أرى مجرمًا إلى جانبه رجل شرطة كنتُ أقول: ريتشارد! ما أحسن أن يكون الإنسان هذا الشرطي وليس هذا المجرم. كنتُ أقول: هذا يضرّ المجتمع وهذا ينفعه، أيّهما الأفضل؟
لقد كنتُ حسّاسة دائمًا لكلّ الأمور التي نراها في الشارع. 
– أجل! بالطبع. إنّ فكركِ النيّر وشخصيّتكِ – وأنتِ سيّدة صاحبة شخصيّة – هو ما أثّر إيجابيًّا في تربية أبنائك. بالطبع هو كذلك.
إنّ التفات السيّد الخامنئي لابني آليم هو ما جعل هذه اللّيلة أكثر حلاوة من السكّر بالنسبة إليّ.
– هذا الصغير هو ابنكِ؟
 
 
 
 
244

205

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 – نعم.

– ما اسمه؟
– آليم!
كرّر السيّد اسم آليم مرّات عديدة على لسانه ثمّ ناداه:
– تعال يا صغيري.
كان آليم يحمل بيده اليمنى قنينة الحليب يشرب منها بين اللّحظة واللّحظة. أمسك السيّد الخامنئي اليد اليسرى لآليم ونظر إلينا.
– هل يتعلّم هؤلاء الأطفال اللّغة الفارسيّة في البيت أم في الخارج؟
قالت أمّي: يتعلّمون بسرعة من التلفاز. بالإضافة إلى هذا، لقد تعلّم هذا الطفل التركيّة حديثًا.
تعجّب السيّد لهذا الأمر:
– وهل تُجيدون التركيّة؟
– نعم! فحين أُريد أن أقول لأمّه شيئًا ولا أُريده أن يفهم، أتكلّم التركيّة، ولشدّة ما ركّز على ما نقوله، تعلّمها.
 
 
 
 
245

206

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 احتضن السيّد آليم وقبّله قُبلاً على رأسه ووجهه.

بعد لحظات، قال السيّد هذه الجمل ووقف ليودّعنا:
– حسنًا! يكفي لهذا اليوم، لقد أردنا أن نلتقي بكم وأن نُعبّر عن حبّنا واحترامنا لعائلة الشهيد، بالإضافة إلى إظهار احترامنا لمقامه. آمل أن يكون لهذا اللقاء أثر ولو قليلًا في تسكين آلامكم ومعاناتكم. 
ردّدت أمّي ثلاث مرّات متتالية: “بالطبع هو كذلك”.
أنا وروبرت أيضًا، شكرنا بدورنا السيّد الخامنئي.
أعطى السيّد هدية لأمّي وهدية لي أنا.
– هذا تذكار، فقط أُقدّمه كتذكار وهدية عيد.
شكرناه وقالت أمّي: 
أشكرك جزيل الشكر يا سيّد. بمجرّد أنّك تلطّفت علينا ونوّرت كوخنا الحقير هذا، لهو أمر أغلى من أيّ هدية أخرى.
شكر السيّد أمّي مبتسمًا، وودّعنا: 
– وفّقكم الله وأيّدكم وحفظكم.
خرج السيّد الخامنئي، وأنا بشكل لا إرادي تذكّرت شِعرًا كان يُردّده العزيز ريتشارد:
 
 
 
 
246

207

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 “إنّ الحياة جميلة يا من تُحبّ الجمال

ذوو الفكر الحيّ يصلون إلى الجمال
الحياة البائدة، جميلة لدرجة
نستطيع التضحية بروحنا لأجلها”
المقتنيات الشخصية للشهيد ريتشارد إبراهيم. مكان حفظها:
متحف الشهداء، طهران، شارع الشهيد آية الله طالقاني.
مزار الشهيد ريتشارد إبراهيم في مقبرة الأشوريين في طهران.
 
 
 
 
247

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...