الرئيسية / من / طرائف الحكم / وموعظة للمتقين …

وموعظة للمتقين …

الدرس التاسع: فلسفة الدعاء

 

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 

“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون”

( سورة البقرة, الآية: 186)

 

 

 

تمهيد

 

إنّ الإنسان من خلال الدعاء يستطيع أن ينشئ صلة وصل واتّصال مع خالقه، تكون سبباّ في توفيقه لمراده وحوائجه سواء الدنيويّة أم الأخرويّة، وحيث إنّ هذا الارتباط بالخالق القادر، المجزل بنعمه المتفضّل بكرمه المغرق بإحسانه وعطاياه، أمر مطلوب عند المخلوقين المحتاجين والمفتقرين لحاجتهم وفقرهم إلى الغني المطلق، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”1 ، كان لا بدّ أن نلحق بحثنا حول العبادة بنوع خاص منها وهو الدعاء.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم ؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربّكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء”2.

 

بل إنّ الدعاء سلاح الأنبياء عليهم السلام، عن الإمام الرضا عليه السلام: “عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء”3.

 

وهناك الكثير من الروايات التي توصي الإنسان بالدعاء أيضاً، نذكر كنموذج منها

 

1- سورة فاطر، الآية: 15.

2- الكافي، الكليني، ج2، ص 468.

3- م. ن، ص 469.

 

 الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: “عليكم بالدعاء، فإنّكم لا تقربون بمثله”4.

 

الدعاء عبادة

 

“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”5. وهذه الآية الكريمة تؤكّد على حقيقة أنّ الدعاء هو من مصاديق عبادة الله سبحانه وتعالى، فهما يشتركان في حقيقة واحدة، هي إظهار الخشوع والخضوع لله تعالى، وهو هدف الخلق وعلته، قال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”6 ، وهذا ما تشير إليه الروايات أيضاً، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الدعاء مخّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد”7 ، وعن الإمام الصادق عليه السلام:”إنّ الدعاء هو العبادة”8 ، وفي رواية أخرى أنّ شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام: أيّ العبادة أفضل؟ فقال عليه السلام: “ما من شيء أفضل عند الله عزّ وجلّ من أن يُسأل ويطلب ممّا عنده”9.

 

وإذا كان الدعاء عبادة فهذا يعني أنّه مطلوب ومحبوب عند الله تعالى في جميع الحالات، وأنّه هدف بنفسه، ومصداق لأهمّ الأهداف الإلهيّة، كما هو واضح في الآية التي أشرنا إليها سابقاً “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ “.

 

الدعاء غاية في نفسه

 

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله ليتعهّد عبده المؤمن بأنواع البلاء، كما يتعهّد أهل البيت سيّدهم بطُرَف الطعام، قال الله تعالى: “وعزّتي وجلالي وعظمتي وبهائي إنّي لأحمي وليّي أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يشغله عن ذكري حتّى

 

4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 30.

5- سورة غافر، الآية: 60.

6- سورة الذاريات، الآية: 56.

7- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 300.

8- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص 23.

9- م. ن، ص30.

 

 يدعوني فأسمع صوته، وإنّي لأعطي الكافر مُنيته حتى لا يدعوني فأسمع صوته بغضاً له”10. وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “إنّ المؤمن ليدعو الله عزّ وجلّ في حاجته، فيقول الله عزّ وجلّ: أخّروا إجابته شوقاً إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ: عبدي، دعوتني فأخّرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنّى المؤمن أنّه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب”11. وعن الإمام الرضا عليه السلام: “إنّ الله يؤخّر إجابة المؤمن شوقاً إلى دعائه، ويقول: صوت أحبّ أن أسمعه…”12. وهذا كلّه يؤكد على أنّ الدعاء نفسه غاية، ولعل بركته في كثير من الأحيان أهمّ من بركة استجابة مضمونه.

 

الافتقار إلى الله تعالى

 

“قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا “13. إنّ الدعاء والعبادة يعكسان الإحساس بالخضوع والفقر والرغبة فيما عنده تعالى، هذا الإحساس المتأصّل في وجدان الإنسان، والذي يظهر حتّى عند الغافلين في بعض الظروف الّتي تستثير هذا الإحساس، يقول تعالى ” وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا” ،14 ،”وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ  “15 ، “وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ

 

10- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 371.

11- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص62.

12- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 90، ص370.

13- سورة الفرقان، الآية:77.

14- سورة الإسراء، الآية: 67.

15- سورة يونس، الآية:12.

 

 يُشْرِكُونَ”16. وهذا كله يشير إلى حقيقة واحدة تشير إليها الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد”17.

 

فالإنسان فقير محتاج لفيض الله ورحمته تعالى بشكل دائم ومستمرّ، وفي كلّ الظروف والأحوال. وعلى هذا القلب أن يكون خاشعاً متوجّهاً لله تعالى، شاعراً بهذا الفقر وهذه الحاجة، ملتمساً لذلك الفيض وتلك الرحمة في جميع الظروف والحالات، في الشدة والرخاء، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موصياً الفضل بن العباس: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة”18. وعن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه كان يقول: “ما من أحد ابتُلي وإن عظمت بلواه أحقّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء”19. وعن الإمام أبي الحسن عليه السلام: “إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدّة، ليس إذا أُعطي فتر، فلا تملّ الدعاء، فإنّه من الله عزّ وجلّ بمكان”20.

 

كيف يكون الدعاء؟

 

على المشتغل بالدعاء أن يعلم أنّه يقف بين يدي العزيز المقتدر، ويتوجّه بخطابه لجبّار السماوات والأرض، ومالك الملك، ويتوقّع أن يحظى برعاية الله تعالى ورحمته بحيث يستجيب لدعائه، وهذا كلّه يستوجب أن يلتفت إلى الآداب الواردة في الروايات لتعلّمنا كيف نكون على أفضل حال من جهة التأدّب أمام جبّار السماوات والأرض، وكيف نكون أقرب لقبول الدعاء واستجابته.

 

16- سورة الروم، الآية:33.

17- سورة فاطر، الآية: 15.

18- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص42.

19- م. ن.

20- م. ن. ج7، ص61.

 

آداب الدعاء

 

إنّ آداب الدعاء كثيرة منها ما هو متعلّق بالقلب والنيّة، ومنها ما هو مرتبط بالعمل والعقل، وكلّ واحد منها له أدلّته الشرعيّة، ورواياته الخاصّة، نذكر منها:

 

أ – الآداب القلبيّة:

 

1- الإقبال القلبيّ: والمراد به التوجّه إلى الله تعالى بكلّ كياننا فلا يشغل فكرنا سواه، ولا يلهينا عنه شيء من حطام الدنيا، روي عن أبي عبد الله عليه السلام: “إنّ الله عزَّ وجلَّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ, فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة”21.

 

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: “إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنَّ حاجتك بالباب”22.

 

2- الأمل بالله وحده: عن الإمام الصادق عليه السلام: “إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قبله لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه”23. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: “ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى, سلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومنّي الإجابة”24.

 

3- ترقيق القلب: وينبغي عند الدعاء استشعار رقّة القلب وحالة الخشية، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اغتنموا الدعاء عند الرقّة، فإنّها رحمة”25.

 

21- الكافي،الكليني، ­ج 2، ص 473.

22- م. ن.

23- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص95.

24- م. ن، ج7، ص143.

25- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 313.

 

4- البكاء والتضرّع: حيث للبكاء ثواب جزيل عند الله تعالى. وفي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “ما من عينٍ إلّا وهي باكيةٌ يوم القيامة إلّا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عينٌ بمائها من خشية الله عزَّ وجلَّ، إلّا حرَّم الله عزَّ وجلَّ سائر جسده على النار، ولا فاضت على خدِّه فرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذِلَّة، ومَا مِن شَيءٍ إلّا وله كَيلٌ ووزنٌ إلا الدَمعَة، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُطفِئ بِاليَسيرِ مِنهَا البِحارَ مِنَ النارِ، فلو أنَّ عبداً بكى في أمَّةٍ لرحِمَ الله عزَّ وجلَّ تِلك الأمَّةَ بِبُكَاءِ ذلك العَبد”26.

 

والبكاء يجعل الدعاء أقرب للإجابة، فقد ورد في الرواية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: “بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء، ولو أنّ عبداً بكى في أمّة لرحم الله تعالى ذكره تلك الأمّة لبكاء ذلك العبد”27.

 

وإن لم تستطع البكاء فتذكّر الموت وأهل القبور فإنّ ذلك قد يرقّق القلب ويُجري الدمع، فعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: “أدعو فأشتهي البكاء ولا يجيئني، وربّما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرقّ وأبكي، فهل يجوز ذلك؟ فقال عليه السلام: “نعم، فتذكّرهم، فإذا رققت فابك، وادع ربّك تبارك وتعالى”28.

 

5- الإلحاح في المسألة: فلا يتعجّل المؤمن قبول الدعاء وسرعة الإجابة، فقد يؤخّر الله تعالى الإجابة لحكمة لا يعلمها، فإنّ الله تعالى يحبّ الإلحاح من العبد في الطلب منه وسماع طلبه وتضرّعه، ففي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إنَّ الله عزَّ وجلَّ كره إلحاحَ الناس بعضهم على بعضٍ في المسألة

 

26- الكافي، الكليني، ­ج 2، ص 482.

27- بحار الأنوار، ج90، ص336.

28- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص74.

 

 وأحبَّ ذلك لنفسه، إنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يُسألَ ويُطلب ما عنده”29.

 

وعلى الداعي أن لا يقنط من رحمة الله فيترك الدعاء، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “لا يزال مؤمن بخير ورجاء رحمة من الله عزّ وجلّ ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء، قلت: كيف يستعجل؟ قال عليه السلام: يقول قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة”30.

 

ومن أجمل ما في الباب من التعليل لبطء الإستجابة ما ورد من سؤال أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام للإمام عن ذلك، ففي الرواية: قلت للرضا عليه السلام: جُعلت فداك إنّي قد سألت الله تبارك وتعالى حاجة منذ كذا وكذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال عليه السلام: “يا أحمد إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتّى يعرضك، إنّ أبا جعفر صلوات الله عليه كان يقول: إنّ المؤمن يسأل الله الحاجة فيؤخّر عنه تعجيل حاجته حبّاً لصوته، واستماع نحيبه، ثمّ قال: والله لمَا أخّر الله عن المؤمنين ممّا يطلبون في هذه الدنيا خيرٌ لهم ممَّا عجَّل لهم منها، وأيّ شيء الدنيا؟ إنّ أبا جعفر كان يقول: ينبغي للمؤمن أنّ يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشِدَّة، ليس إذا ابتُليَ فَتَر، فلا تَمِلَّ الدعاء فإنّه من الله تبارك وتعالى بمكان”31.

 

ب- الآداب العمليّة:

 

1- الصدقة والمسجد: روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “كان أبي إذا طلب الحاجة… قدّم شيئاً فتصدّق به، وشمّ شيئاً من طيب، وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله”32.

 

29- الكافي،الكليني، ­ج 2، ص 475.

30- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج7، ص 55.

31- م. ن، ج9، ص 367.

32- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص 67.

 

 2- الطهارة والصلاة: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “من توضّأ فأحسن الوضوء، ثمّ صلّى ركعتين، فأتمّ ركوعهما وسجودهما، ثمّ سلّم وأثنى على الله عزّ وجلّ وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ سأل حاجته، فقد طلب الخير في مظانّه، ومن طلب الخير في مظانّه لم يخب”33.

 

3- رفع اليدين: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردّهما خائبتين”34. وعن الإمام الحسين عليه السلام: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين”35. وعن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: “”فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ”36 ؟ فقال عليه السلام: “الاستكانة هي الخضوع، والتضرّع هو رفع اليدين والتضرّع بهما”37.

 

وقد يتبادر السؤال عن سبب رفع اليد عند الدعاء ومعناه، وقد أشارت الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام إلى ذلك عندما سأله أبو قرّة: ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟ فقال أبو الحسن الرضا عليه السلام: “إنّ الله استعبد خلقه بضروب من العبادة.. واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرّع ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبوديّة والتذلّل له”38.

 

4- الإسرار بالدعاء: ودعوة السرّ أفضل من دعوة العلن وأكثر ثواباً عند الله وأعظم أثراً، يقول تعالى:”ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”39. وفي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: “دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة

 

33- الكافي، الكليني، ج6، ص 433.

34- مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 276.

35- م. ن، ج 6، ص 433.

36- سورة المؤمنون، الآية:76.

37- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج27، ص 46.

38- م. ن.

39- سورة الأعراف، الآية: 55.

 

 علانية”40.

 

5- التأنّي وعدم الاستعجال: فعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ رجلاً دخل المسجد فصلّى ركعتين، ثمّ سأل الله عزّ وجلّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجّل العبد ربّه، وجاء آخر فصلّى ركعتين ثمّ أثنى على الله عزّ وجلّ وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سل تُعط”41. وعنه عليه السلام: “إنّ العبد إذا دعا لم يزل الله تبارك وتعالى في حاجته ما لم يستعجل”42.

 

6- التختّم بالعقيق والفيروزج: من الآداب الواردة في الدعاء لبس خاتم من عقيق أو من فيروزج، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قال الله عزّ وجلّ: إنّي لأستحي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردّها خائبة”43. وعن الإمام الصادق عليه السلام: “ما رُفعت كفّ إلى الله عزّ وجلّ أحبّ إليه من كفّ فيها عقيق”44.

 

7- مسح الوجه والرأس باليدين: ومن الآداب المتأخّرة عن الدعاء أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: “ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبّار إلّا استحيا الله عزّ وجلّ أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح على وجهه ورأسه”45.

 

أكمل الدعاء

 

على الرغم من أنّ الدعاء مطلوب في كلّ زمان ومكان، إلّا أنّ هناك بعض الأزمنة

 

40- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 63.

41- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ص 80.

42- م. ن، ص 55.

43- م، ن، ص144.

44- م.ن، ج 5، ص87.

45- م. ن، ج5، ح7، ص51.

 

والأمكنة تجعل الدعاء أكثر قابليّة للاستجابة، حيث تكون الحجب أقلّ والتأثّر بالدعاء أكبر.

 

فمن أفضل الأوقات، التهجّد في آخر الليل، والناس نيام، فتستغفر وتصلّي ركعتين وتذكر الله ثمّ تسأل حاجتك، والله يحبّ من المؤمنين ذلك، حيث يقول تعالى بعد ذكره المتّقين:”كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”46.

 

ففي الوقت الذي تنام فيه عيون العباد، تقوم بين يدي الله تعالى، في وقت الصفاء وقلّة الشاغل الدنيويّ، ففي هذا الوقت يتفرّغ عباد الله المخلصون للدعاء والمناجاة، وعن نوف البكاليّ في حديث قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه وقال لي: “يا نوف، إنّ داوود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنّها ساعة لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له”47. وعن الإمام الصادق عليه السلام: “كان فيما ناجى الله به موسى بن عمران عليه السلام أن قال له: يا ابن عمران، كذب من زعم أنّه يحبني فإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كل محبّ يحبّ خلوة حبيبه؟ ها أنا يا ابن عمران مطّلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلّموني عن الحضور. يا ابن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، وادعني في ظلم الليل، فإنّك تجدني قريباً مجيباً”48.

 

وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة المتّقين: “أمّا الليل فصافّون أقدامهم… فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم”49.

 

ومن أفضل الحالات اجتماع المؤمنين بين يدَي ربّهم في دعائهم وتضرّعهم

 

46- سورة الذاريات، الآية: 17.

47- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص 78.

48- م. ن.

49- نهج البلاغة، خطبة المتقين.

 

 إليه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: “ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّ وجلّ في أمر إلّا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعين فأربعة يدعون الله عزّ وجلّ عشر مرات إلّا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعة فواحد يدعو الله أربعين مرّة، فيستجيب الله العزيز الجبّار له”50. وعنه عليه السلام: “ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد، فدعوا الله عزّ وجلّ، إلّا تفرّقوا عن إجابة”51.

 

ومن أفضل الأمكنة مكّة المكرّمة، روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: “ما وقف أحد بتلك الجبال إلّا استجيب له، فأمّا المؤمنون فيستجاب لهم في آخرتهم، وأمّا الكفّار فيستجاب لهم في دنياهم”52. وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: “لمّا هبط آدم عليه السلام إلى الأرض طاف بالبيت، فلمّا كان عند المستجار، دنا من البيت فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا ربّ اغفر لي، فنودي: إنّي قد غفرت لك، قال: يا ربّ، ولولدي، فنودي: يا آدم، من جاءني من ولدك فباء بذنبه بهذا المكان غفرت له”53.

 

ومن أفضلها أيضاً تحت قبّة سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، حيث نقرأ في زيارة الناحية المقدّسة المنسوبة للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف: “السلام على من الإجابة تحت قبته”54.

 

ثمّ تأتي المساجد بعد ذلك في الأفضليّة حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت الله في الأرض… فأكثروا فيها الصلاة والدعاء”55. فالمساجد بشكل عام ّ هي محلّ للإجابة. وهناك مساجد ورد التأكيد عليها بشكل خاصّ كمسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة، حيث ورد عن

 

50- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 104.

51- م. ن.

52- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج96، ص 261.

53- م. ن، ص 206.

54- م. ن، ج 98، ص 234.

55- م. ن، ج80، ص384.

 

 الإمام الصادق عليه السلام: “إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فائت المنبر وسل حاجتك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة56 من ترع الجنّة..”57.

كيف ندعو؟

1- ابدأ بالبسملة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يردّ دعاء أوّله بسم الله الرحمن الرحيم”58.

 

2- صلِّ على النبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم، في بداية الدعاء وفي ختامه: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “كلّ دعاء يُدعى الله عزّ وجلّ به محجوبٌ عن السماء حتّى يصلَّى على محمّد وآل محمّد”59. وفي روايةٍ أخرى عنه عليه السلام قال: “من دعا ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رُفع الدعاء”60.

 

3- ادعُ بالمأثور وأثنِ على الله وتوسّل بالنبيّ وآله، فإنّ ذلك أدعى للاستجابة، كما أنّ آثار أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال كثيرة وحسبك الصحيفة السجّادية المباركة وما ورد فيها من أدعية تمثّل قمّة العرفان بالله والخضوع والخشوع والتذلّل له سبحانه، وفي شتّى الحاجات.

 

عن عبد الرحيم القصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: جعلت فداك إني اخترعت دعاء، قال: دعني من اختراعك. إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلّ ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: كيف أصنع؟ قال: تغتسل وتصلّي ركعتين تستفتح بهما افتتاح الفريضة وتشهد تشهّد الفريضة، فإذا فرغت

 

56- الترعة: هي الباب الصغير.

57- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص345.

58- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90 ، ص 313.

59- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص 92

60- م. ن. ص 93 – 94.

 

 من التشهّد وسلّمت قلت: “اللهمّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وبلّغ روح محمّد منّي السلام وأرواح الأئمّة الصادقين سلامي واردد عليّ منهم السلام والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته، اللهمّ إنّ هاتين الركعتين هديّة منّي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثبني عليهما ما أمّلت ورجوت فيك وفي رسولك يا وليّ المؤمنين…”61.

 

وفي الختام

 

ينبغي لنا أن لا نغفل عن هذا الباب المهمّ الّذي هو من أبواب الرحمة الإلهيّة، حتّى لا نحرم أنفسنا من فيوضات الله التي لا تنفد أبداً، وحتّى نستغني بسؤال الله تعالى الربّ المقتدر عن مسألة عبيده الفقراء، فنكون أعزاء بالله في الدنيا، أغنياء عمّا في أيدي الناس، نجباء في الآخرة، “وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ”62.

 

وعلينا أن لا ننسى إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف في الدعاء له على كلّ حال وفي كلّ وقت، من تعجيل الفرج له فإنّ في ذلك فرج شيعته ومريديه.

 

“اللّهمّ كن لوليّك الحجّة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة وليّا وحافظاّ وقائداً وناصراً ودليلا وعينا حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً برحمتك يا أرحم الراحمين وصلّ اللهم على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين”.

 

61- الكافي، الكليني، ج3، ص 476.

62- سورة فصلت، الآية: 35.

 

مطالعة

 

أيّها العزيز

 

إعلم أيّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحّة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانيّة أيضاً صحّة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً.

 

إنّ صحّة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانيّة، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانيّة. وإنّ الأمراض النفسيّة أشدّ فتكاً بآلاف المرّات من الأمراض الجسمية، وذلك لأن هذه الأمراض إنما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسمية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد، ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية لا سمح الله فإنّه ما إن تفارق الروح البدن حتى تظهر آلامها وأسقامها.

 

إنّ مثل التوجّه إلى الدنيا والتعلّق بها، كمثل المنحدر الّذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها…

 

وتلك الآلام إمّا أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكيّ…

 

إنّ منزلة الأنبياء عليهم السلام هي منزلة الأطباء المشفقين، الّذين جاؤوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد… إنّ الأعمال الروحيّة القلبيّة والظاهريّة والبدنيّة هي بمثابة الدواء للمرض، كما أنّ التقوى… بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة… ومن دون الحمية لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى الصحّة.63

 

63- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص‏201، ط 1991، دار التعارف.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...