بحوث اجتماعية وسياسية:
بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام – الحلقة السادسة
السيد عبد الستار الجابري
2- الشريعة وبناء الفرد والمجتمع – القسم الاول
وعند النظر الى التشريعات الدينية سواء ما كان منها يتعلق بجانب العلاقة بين العبد وربه او كان يتعلق بالمعاملات بين الناس، فان التدقيق فيها يوجب الايقان بان الغاية منها بناء الانسان والمجتمع وتربية الانسان على التنزه عن الخضوع للغرائز وضبطها ضبطا صحيحا بحيث لا يتحول الانسان مما ينبغي ان يكون عليه الى الحالة البهيمية التي لا تتناسب مع مقتضيات كمال الانسان ورقيه التكويني.
فلو اخذنا مصداقا عبادياً واخر معاملاتياً للوقوف على الجوانب التربوية في التشريعات الالهية، ولتكن الزكاة مصداقا للعبادة والمساواة في العطاء مصداقا للمعاملة.
أ- البعد التربوي في الزكاة
لا شك من اهمية الزكاة من الناحية العبادية والتربوية وبناء الانسان على الصعيد الشخصي مع مالها من اثر من الناحية الاجتماعية.
فالزكاة عبادة لانها مشروطة بنية القربة الى تعالى، اي ان الانسان يقدم ذلك القدر من المال الواجب عليه شرعاً ضمن ضوابط معينة لغرض التقرب به الى الله تعالى، فالزكاة اذن عبادة مالية، تترتب على دفعها اثار عبادية اذ ان المؤمن يعتقد ان هذا القدر من المال كلف بدفعه الى موارد خاصة على اساس الارادة الالهية فيكون العبد منبعثاً في تقديم المال الى مستحقه وصرفه في مورده بداعي الطاعة وتحقيق الارادة التشريعية للرب تبارك وتعالى، فالرب له حق الطاعة على العبد والعبد يحركه حق المولى وواقع العبودية له لاخراج ذلك القدر من المال وتقديمه الى موارد يريد الله تبارك وتعالى من ذلك العبد ان يصرفه فيها. فالجانب الاول في الزكاة اداء حق مولوية المولى والاندفاع نحو امتثال ارادته التشريعية.
الجانب الثاني ان العبد عندما يدفع ذلك القدر من المال هو على يقين بان من رزقه ذلك المال هو الله تعالى وان ما يقوم به هو نحو من انحاء شكر المنعم تبارك اسمه، فالمؤمن عند تقديمه للزكاة يكون قد ادى واجب الشكر فان من الفطرة الانسانية والجنبة الاخلاقية ان يشكر الانسان من احسن اليه وتلطف وتفضل، وهذا الجانب ينمي في الانسان شكر كل محسن بما يتناسب مع اداء فرض الشكر على اساس ما ربته عليه الشريعة وحكم به العقل وايدته الفطرة الانسانية السلمية من شكر المنعم المتفضل مهما كانت درجته ونوع احسانه، وهذه التربية المجتمعية والشخصية مهمة جدا في التاسيس لقيمة اجتماعية عليا مبنية على رد الجميل على العكس من المجتمع الذي تغيب عنه هذه القيمة بحيث يتحول الى مجتمع منكر للجميل والاحسان.
الجانب الثالث التنزه عن التعلق بالمال الثالث لتشريع الزكاة هو جانب تربوي اخلاقي حيث ان تشريع الزكاة ينمي في الانسان روح التنزه عن التعلق بالمال، ذلك ان بذل قدر من المال يتقرب به العبد الى الرب مع اعتقاد العبد ان ما يقدمه ليس من ماله وانما هو مؤتمن عليه لتقديمه الى مستحقه، لان التشريع ورد في ان للسائل والمحروم حق معلوم فيما بين يدي دافع الزكاة وانه في حال عدم تسليم ذلك المقدار يكون غاصبا لحق اوجبه الشارع لذلك الفقير فنسبه ملكية المال الى من بيده بذلك القدر المعين نسبة مجازية وليست نسبة حقيقية من الناحية التشريعية اذ لو كان المال له لما وجب عليه دفعه الى المستحق فهذا القدر اذن هو خارج عن المالك من بيده المال وهو مؤتمن عليه لايصاله الى مستحقه الذي حدده الشارع ولا تبرأ ذمة المؤتمن حتى يؤدي الامانة الى مستحقها.
فاذا اقدم الناس على البذل بنفس طيبة لما كان مؤتمنا فيه مما جناه من كد يده وبذل جهده اصبح مما يهون عليه البذل خاصة اذا اتسعت دائرة بذله الى النفقات المستحبة بعد ان يؤدي ما عليه من النفقات الواجبة، وبذا يتحرر الانسان من عبودية المال وحب الاكتناز ويسمو الى الانعتاق عن كل ما من شانه ان يستعبد حريته من الامور المادية ويصبح رضا الله غايته القصوى وامنيته العظمى فيكون اسمى واكبر بنحو لا يتعارض عن فطرته التي فطره الله عليها فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا والرغبة من الامتلاك من غرائز الانسان الطبيعية الا ان التشريعات تحافظ على فطرة الانسان في كونه مالكا للمال وليس مملوكا له في كونه مستثمرا للمال في سبيل الخير والتطور والرقي والنهوض بالواقع الفردي والاجتماعي وعلاقة بالمال علاقة المستثمر للطاقات في سبيل الخير والقرب من الله فيكون هو المالك لما وهبه الله ولا يتحول الى مجرد عامل لجمع المال للاستئثار به وكنزه في خزائنه مع ما يراه من حاجة المجتمع الى بذل المال في سبيل تحقيق النمو الاقتصادي والرقي الثقافي والاجتماعي والعلمي.