وأما الكتب الأخرى فقد ألغيت ولم تقبلها الكنيسة، وأول من اعتبر هذه الأسفار (27) هو مجمع نيقية السكوني سنة (325) م ثم جاء البابا جيلاسيوس الأول (492 – 496)، إذ أعطى المرسوم الرسولي سنة 495 ميلادي مقدما اللائحة التي نملكها اليوم للعهد الجديد (1). وأعتقد أن إلغاء كل تلك الكتب الأخرى أضاع تراثا عظيما كان يمكن الاعتماد عليه لفهم الحقائق عن المسيحية بصورة أفضل وأدق وأقرب للواقع. وأما سبب اختيار هذه الكتب دون غيرها، فلأنها (على حد قول المسيحيين) (تعطي بشكل أفضل ما كانت تؤمن به الكنيسة الأولى، ولكن هذا لا يعني أن الكنيسة هي التي منحت صفة الالهام لهذه الأسفار، بل أن محتوى الأسفار ذاته هو الذي دفع بالكنيسة لتمييزها عن الكتب الأخرى) (2).
وأما كيفية الوحي والإلهام في كتابة هذه الأسفار فيعتقد المسيحيون أن الالهام الكتابي الذي يقصدونه هو غير الالهام النبوي، فالإلهام الكتابي يدل على عمل الله (فوق الطبيعي) الذي يمارسه على مؤلفي الكتاب ليدفعهم إلى تدوين الحقائق التي أوحاها وأعطاها للبشر وذلك بمساعدته الدائمة والمباشرة.
فالكاتب يعبر عما يريد الله أن يطلع الناس عليه ولكنه ليس
(1) المسيح في الفكر الاسلامي: ص 117.
(2) المسيح في الفكر الاسلامي: ص 117.
(٥١)
كقطعة الإسفنج في نقل الماء، تحمله ولكن لا تفعل غير ذلك.
أن وحي الكتاب المقدس يختلف في مفهومه عن مفهوم الوحي في الإسلام، إذ يعتقد المسلمون أن النبي لم يكن سوى ناقل لكلام الله، ولا دخل له فيه، وأما الوحي الكتابي عند المسيحيين، فهو من عمل الله والانسان معا، فالكاتب في هذا الالهام يحتفظ بشخصيته وعبقريته وأسلوبه في الكتابة، وأما الإلهام النبوي فإن النبي لا يعدو كونه أداة طيعة يتكلم بأسم الرب لا غير، ومن هنا فالإلهام الكتابي يختلف عن الالهام النبوي، ولهذا نرى التمايز بين الأسفار المكتوبة بالإلهام تبعا لتغاير أسلوب كتابها (1).
وعلى ذلك فإن الكاتب الملهم من قبل الله يكون معصوما عن الخطأ فيما يكتبه، لأن الله لا يخطأ ولا يخدع أحدا، وأما دائرة العصمة (والقول للمسيحيين) فهي تشمل الحقائق الدينية والإلهية الموحاة من قبله، وأما الحقائق الدنيوية التي ليست من حقل الحقائق الإلهية فيمكن للكاتب أن يخطأ فيها، فالله سبحانه لا يبتغي أن يجعل منه رجلا كاملا في العلوم (2).
هذا باختصار نبذة عن العهد الجديد واعتقاد المسيحيين به، فهو الأساس لكل العقائد المسيحية.
(٥٢)
وقبل الإشارة إلى بعض النقاط والتساؤلات التي تدور حول هذه الأسفار، وتتميما للفائدة نشير بإيجاز إلى بعض الكتب الأخرى التي رفضتها الكنيسة لتتضح لنا صورة ما عنها:
الكتب الأخرى أو كما يسميها المسيحيون (الكتب المنحولة) وهي على ما يذكر المؤرخون قد وصلت إلى مائة كتاب خلال القرنين الأول والثاني للميلاد، وأن مقدمة إنجيل لوقا تشير إلى ذلك حيث يقول: إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ولكن للأسف فإن معظمها قد ضاع و أهمل، وهنا نشير إلى بعضها.
1 – إنجيل يعقوب: (ويعود إلى القرن الثاني للميلاد، وهو يتحدث عن سيرة العذراء مريم (عليها السلام) منذ مولدها إلى ولادتها للمسيح (عليها السلام) وإقامتها في الهيكل. وهي تطابق إلى حد ما قصة مريم (عليها السلام) في القرآن الكريم إذ يذكر كيف أن والديها قدماها للهيكل للخدمة وكان الملاك يأتيها بالطعام وكفالة يوسف لها.
2 – إنجيل متي: وهو الآخر يروي قصة العذراء، ولادتها ونزول الطعام عليها من قبل الملاك، ويروي ميلاد يسوع وهروبه إلى مصر وبعض معجزاته التي رافقته.
3 – إنجيل الطفولية (العربي): يعود إلى القرن الخامس، وهو
(٥٣)
الآخر يروي المعجزات عند ولادة يسوع المسيح (عليه السلام) وكذلك خلال هروبه إلى مصر، ونجد فيه معجزة (تحويل الطير من طين إلى طير حي بنفخة منه) (1).
وهناك أناجيل أخرى كثيرة: كإنجيل نيقوديموس، إنجيل الأبيونيين المصريين، إنجيل العبرانيين، إنجيل بطرس، إنجيل توما وغيرها من الرسائل الأخرى الكثيرة (2)…
وأما الإنجيل الآخر الذي أود الإشارة إليه فهو إنجيل برنابا، الذي أحدث منذ ظهوره ضجة كبيرة بين المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وبالحقيقة فقد كتبت بحوث ودراسات عديدة عن هذا الإنجيل، فهو يوافق بشكل عام القرآن في عامة قصصه، و كذلك فهو يذكر النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صريحا باسمه.
وأصل هذا الكتاب قد عثر عليه باللغة الإيطالية كما ينقل عن الترجمة الإسبانية له، فيذكر المترجم، أن الأصل الإيطالي قد عثر عليه راهب يدعى فرامرينو، في زمن البابا (سكست كنت الخامس) سنة (1585 – 1595) ميلادي. فقرأ الراهب الكتاب فأعتنق الدين الاسلامي وترك ديانته السابقة، وفي الحقيقة فإن النقاش ما زال قائما إلى الآن حول هذا الإنجيل، حيث يعتقد المسيحيون أنه كان هناك
(1) المسيح في الفكر الاسلامي: ص 149.
(2) قاموس الكتاب المقدس: ص 122.
(٥٤)
إنجيل أو رسالة لبرنابا الرسول ولكنها كانت تعترف (بأن المسيح (عليه السلام) هو ابن الله المتجسد، وأنه صلب وقام وظهر لتلاميذه وصعد إلى السماء) فهي كانت تحافظ على التعليم الرسولي. ولكن الكنيسة لم تعتبرها من الكتب الملهمة رغم محافظتها على التعليم الرسولي!! (1) ومن أراد التوسع في حقيقة هذا الإنجيل فليراجع مقدمة الدكتور خليل سعادة مترجم هذا الإنجيل من الإنجليزية إلى العربية 1908. وكذلك مقدمة محمد رشيد رضا..
وهنا أود أن أشير إلى بعض النقاط والتساؤلات المهمة التي تدور حول صحة هذه الأسفار ونسبتها إلى الوحي الإلهي:
أولا: السؤال الأول الذي يمكن طرحه هو أن النسخ الأصلية لهذه الأسفار مفقودة، بل نسخ النسخ مفقودة كذلك، حيث أن أقدم نسخة موجودة تعود إلى القرن الرابع الميلادي، فلو سلمنا بأن مؤلفي هذه الأسفار قد كتبوها بالوحي الإلهي، فهل من المعقول أن ندعي بأن النسخ المنقولة عن الأصل هي الأخرى قد نقلت بالوحي الإلهي، ولم تتدخل الآراء والإبداعات للناسخ فيها من زيادة ونقيصة.
ولعدم توفر النسخ الأصلية، فلا يمكن القطع بأن النص الأصلي لم يدخل عليه الزيادة والنقصان فلا يمكن التثبت من أن النسخ الموجودة بين أيدينا هي مطابقة تماما للنسخ الأصلية وخصوصا مع
(1) المسيح في الفكر الاسلامي: ص 152.
(٥٥)