26/11/2022
التطبيع.. حبر على ورق
ليلى عماشا
على قدر الألم الذي قد يعتصر قلب الحرّ، كلّ حرّ، مهما كانت جنسيته أو قوميته أو عقيدته، بمواجهة فكرة تواجد الصهاينة بشكل علنيّ في دولة عربية، يأتي السرور لرؤية انطباعات هؤلاء الصهاينة أنفسهم عن يومياتهم وحركتهم على أرض تلك الدولة.
من مصر، حيث لم يكفِ بلوغ كامب ديفيد سن الثالثة والأربعين لإقناع غالبية الشعب المصري على اختلاف توجهاته بقبول تواجد الصهاينة بشكل طبيعي في بلده، لم يزل الاسرائيلي في مصر كائنًا يتجنّبه الناس، بل ويصمون من يتعاطى معه بشكل طبيعي بوصمة العمالة. لم يتمكّن التطبيع الرسمي من فرض وجود طبيعي للصهاينة على الأرض المصرية سوى في أماكن محدودة وضيّقة وغير شعبية، وإن فُرض عليهم التواجد في أماكن أكثر التصاقًا بحياة الناس العاديين، فهم لا يصرّحون عن جنسيتهم الحقيقية، أو يتحاشون ذكرها قدر المستطاع، وبالطبع لا يتجولون إلا برفقة مصريين على صلة سابقة بهم.
في مونديال قطر، عزّ على الكثيرين التواجد الاعلامي العلني لصحافيين صهاينة يقومون بتغطية الحدث، إلّا أنّ القلق الذي يظهره هؤلاء في خلال تواجدهم في قطر، وشعورهم بأنّهم غير مقبولين وحتى في خطر، يؤكّد أن التطبيع مهما بلغ من مستويات جديّة ومهما تمّ إعداد أرضية مناسبة له، يظلّ حبرًا على ورق، وفكرة غير قابلة للتحوّل إلى واقع شعبيّ.
كثرت أخبار هؤلاء عن يومياتهم في قطر ولا سيّما عبر تويتر وعبر رسائلهم إلى القنوات التي يعملون فيها. وفي الحقيقة جميعها مدعاة سرور وشعور بقوة الوجدان الشعبي الذي لا يخضع للاتفاقيات المذلّة ولا لمزاعم السلام والتعايش: أحدهم طُرد من المقهى حين علم صاحب المقهى بجنسيته. آخر فُوجىء به سائق سيارة الأجرة فتوقّف فورًا وأمره بمغادرة سيارته مبلغًا إياه أنّه غير مرحّب به في قطر. ثالث يتحدّث بامتعاض عن منعه من التصوير بكاميرا هاتفه بل ومصادرة هاتفه من قبل ادارة أحد المطاعم لمحو صوره بداخله كي لا يذيع صيتًا سيئًا عن المكان، وهل أسوأ من صيت استقبال الصهاينة! رابع يدّعي أنّه من جنسية أخرى لأنّه لم يجرؤ على البوح بصهيونته أثناء مرور مجموعة من الشبان العرب والإيرانيين.
تعكس هذه التصرفات وغيرها الكثير من واقع الشارع العربي وخياراته المنفصلة والمتمايزة عن خيارات أنظمته من جهة، ومن جهة أخرى تدلّ على الحال الوجدانية الغلّابة حتى لدى من لا يظهرون أيّ اعتراض على التطبيع. يرضون به ولكنّهم لا يتعاملون معه كحقيقة وبالتالي لا يعنيهم أن يمتلك الصهيوني حق دخول أراضيهم علانية، ولكن في قرارة أنفسهم يدركون أن لا علاقات طبيعية معه مهما حضر وجال ووقّع وصرّح وحاول فرض وجوده متذرّعًا بالحدث الرياضي أو بغيره.
الدلالة هنا تكمن في ثبوت انعدام أي فرصة حياة للسلام المزعوم مع الصهاينة، حتى في الأوساط التي لم تعانِ بشكل مباشر من الكيان الصهيوني، أو لم تخض حربًا ضدّه، أو لم تعش تحت وطأة عدوانيته وإجرامه يومًا. نحن لا نتحدث هنا عن بديهية العداء الشعبي لـ”اسرائيل” في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر والأردن، بل عن جمال أن يكون هذا الوجدان المعادي حاضرًا وبقوّة في دول الخليج البعيدة نسبيًا عن خط المواجهة، والتي لم تشهد اعتداءات صهيونية مباشرة. وحضور هذا النوع من الرفض المعبر عنه في الاماكن العامة من مقاه ومطاعم وسيارات أجرة وشوارع، سيكون محلّ دراسات كثيرة في المؤسسات الصهيونية التي تتيقّن كلّ يوم أكثر من عقم محاولاتها التواجد في منطقتنا بشكل يشبه الوجود الطبيعي. صحيح أن الأمنيات تتخطّى الرفض الوجداني الشعبي الواضح، وتبلغ رتبة أن يترجم هذا الرفض بتهديد حقيقي لأمن الصهاينة حيثما تطأ أقدامهم، إلّا أنّ القليل من الواقعية مضافًا إلى الفهم الموضوعي لواقع الحال في الخليج عمومًا يجعل من مجرد رفض تواجد الصهاينة في مقهى على هامش كأس العالم، أمرًا يستحق التوقّف عنده، والتبسّم سرورًا به.