الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

25 ـ العلم والمعرفة خير كثير:

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتيَ خَيْراً كَثيراً)
(البقرة / 269)
وكلمة «الحكمة» مشتّقة من مادة «حَكْم» على وزن (خَتْم) وتعني الصدّ والمنع بهدف الاصلاح ولهذا يقال لزمام الحيوان «حَكَمَة» على وزن (شَجَرة)، وبما أن العلم والمعرفة يحول دون اتخاذ الانسان سلوكاً مشيناً قيل لها «حكمة».
كما أن «العقل» يعني الامساك والحفظ، ولهذا قيل للحبل الذي تُربط به رِجلا الجمل «عقال». فالعقل قيل له عقلا لانه يردع الانسان عن الانحراف عن جادة الصواب.
وعلى أي حال، فانه لا تعبير وصف به العلم أجمل مما عبر به القرآن الكريم حيث قال (خيراً كثيراً)، وهذا التعبير يشمل جميع النِعَم والمواهب الإلهية المادية منها والمعنوية.
إنَّ المستخلص من خمسة وعشرين عنواناً ذكر حتى الآن حقيقة بيّنه واضحة وهي: إن القرآن وبالاستعانة بعبارات شيقة ولطائف البيان يحثّ الانسان على العلم والمعرفة ويعدّهما أفضل موهبة ونعمة إلهية، ويستفاد من التعبيرات السابقة بالدلالة الالتزامية أن طريق العلم مفتوح للجميع، ولا شيء أنفع منه.
وهذا هو الشيء الذي نحن بصدده(1).
والآن ننتقل الى عناوين اُخرى تدور حول محور «الجهل» وبملاحظة آثاره السلبية والمهلكة، نشق طريقنا نحو العلم والمعرفة ومردوداته الايجابية والحيوية.
* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام علي (عليه السلام): «لا كنز أنفع من العلم». (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 183).

[72]

26 ـ اصحاب السعير هم الجاهلون:

(وَلَقَدْ ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الْجِنِّ والاِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ اَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها اُولئِكَ كَالاَْنْعامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ اُولئِكَ هُم الْغافِلُونَ) (الاعراف / 179)
إنَّ كلمة «ذرأ» مأخوذة من مادة ذَرْء على وزن (زَرْع) وتعني الخلق. لكن المستخلص من «مقاييس اللغة» أن أصلها يعني «نثر البذور».
ويحتمل لهذا السبب ذكر الراغب في «مفرداته» أن معناها الاصلي هو «الاظهار والايضاح». بينما قال البعض كما في «التحقيق في كلمات القرآن»: إنَّ معناها الأصلي هو «النثر والنشر».
فاذا أُريد منها الخلق فيكون معنى الآية: إنَّ اولئك الذين هو وهبوا السمع والبصر والفؤاد … (وسائل المعرفة) ولم يستفيدوا منها لا مصير لهم غير جهنم. وإذا كانت «ذرأ» بمعنى النشر والنثر، فالآيةُ تُشير الى أن اشخاصاً كهؤلاء سينثرون في جهنم.
وعلى اي حال فهذه الحقيقة تكشف عن ان عاقبة الجهل وتعطيل وسائل المعرفة ليست سوى نار جهنم.
(وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ اَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي اَصْحابِ السَّعيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهم فَسُحْقاً لاَِصْحابِ السَّعير)
(الملك / 10 و 11)
نعم إنَّ ذنبهم العظيم هو تعطيلهم لعقلهم عن النهوض بمهامه، ولم يصغوا لحديث الحق وبهذا أغلقوا أبواب المعرفة والعلم، وفتحوا أبواب جهنم على أنفسهم.
إن سياق الآية الثانية التي تنسب الإثم إلى أصحاب السعير وهم يعترفون

[73]

بأن مصيرهم ما كان هذا لو أنهم استغلوا عقولهم، وهذا الاعتراف الكاشف عن الندم، دليل على أن سلوكهم لهذا الطريق كان باختيارهم. وإذا زعم بعض المفسّرين كالفخر الرازي عند تفسيره للآية الاولى أنها دليل على الجبر، فان الثانية تنفي مزاعمه وتصلح لأن تكون مفسرةً للاولى لأن «القرآن يفسر بعضه بعضاً».
وعلى اي حال فان العلاقة بين «جهنم» و«الجهل» مسلمة في القرآن وتتضح في الابحاث القادمة اكثر(1).
* * *

27 ـ الجهل مصدر انحطاط البشر:

(اِنَّ شَرَّ الدَّوآبّ عِنْدَ الله الصُّمُّ البُكمُ الَّذينَ لا يَعْقِلُونَ)
(الانفال / 22)
إنَّ هذه الآية والتي قبلها تُشيران الى موضوع واحد لكن الأهير تشير له صراحة والسابقة لها تلميحاً، والموضوع هو: إن الانسان متى ما ترك الاستعانة بوسائل المعرفة التي منحها الله له فانه سينحط ويسقط الى مستوى يجعله أضل من جميع الدواب التي على وجه الارض. ولَم لا يكون كذلك مَن بامكانه ان بصل الى أعلى عليين في جوار ربّ العالمين، وأن يصل الى مقام «لا يرى به إلاّ الله»، ولكن بتركه جمع المواهب والمِنَح الإلهية فإنّه سيسقط الى أسفل سافلين.
إضافةً إلى هذا، فان الانسان الذي لا يسير في جادة الخير والهداية، فانه سيستخدم تلقائياً جميع المواهب والقابليات الإلهية في سبيل الشر، وسيرتكب جرائم مفجعة ويخترع وسائل رهيبة لم يدنُ الى مستوى وحشيته أيٌّ من الحيوانات المفترسة. كما نشاهد نماذجه في عصرنا الحاضر عند أُناس بعيدين عن

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – في حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «إن الله أوحى إليَّ أنَّه مَن سلك مسلكاً يطلب فيه العلم سهلت له طريقاً الى الجنة». (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 173).

[74]

الله والبشرية(1).
* * *

28 ـ اجهل عمى:

(اَفَمَنْ يَعْلَمُ اَنَّما اُنْزِلَ اِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ اَعْمى اِنَّما يَتَذَكَّرُ اُولُوا الاَْلْباب)
(الرعد / 19)
لقد جُعل العلماء الواعون في هذه الآية في الطرف المقابل للعُميان!
والتقابل هذا يكشف عن ان العمى والجهل سواء. وقد جاء هذا المعنى في آيات اخرى باسلوب آخر:
(ما يَسْتَوِي الاَْعْمى وَالْبَصيرُ وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ وَلا الظَّلُّ
وَلاَ الحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الاَْحْياءُ وَلاَ الاَْمْواتُ)(2)
(فاطر 19 / ـ 22)
* * *

29 ـ الحياة مع الجهل هي أرذل العمر:

(وَمِنْكمْ مَنْ يُرَدُّ اِلى اَرْذَلِ الْعُمرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْم شَيْئاً)
(الحج / 5).
وقد جاء في سورة النمل الآية (70) نفس ما جاء في هذه الآية من معنىً مع اختلاف ضئيل.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين(عليه السلام): «الجهل مطية شموس من ركبها زلَّ ومن صحبها ضلَّ».(غرر الحكم الجزء 1 الصفحة 85).
2 – يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لم يصبر على ذلّ التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 177).

[75]

إنَّ كلمة «أرذل» مشتقة من مادة «رذل» وتعني الموجود الضال، كما في كثير من معاجم اللغة مثل «المقاييس» و«صحاح اللغة» و«المفردات» وغيرها وبتعبير آخر الشيء الذي لا يُعتنى به او لا قيمة له.
وعليه فالمراد من «أرذل العمر» أيام وساعات من العمر التي تقلّ قيمةً عن بقية أيام العمر. وقد نعت القرآن الأيام الأخيرة من الشيخوخة التي تتزامن مع نسيان العلوم وفقدانها نعتها بـ «ارذل العمر». وعليه فأفضل أيام العمر وساعاته هي الايام والساعات التي تتزامن مع العلم والمعرفة(1).

30 ـ الكفر ينشأ عن الجهل:

(وَجاوَزْنا بِبَني اِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتوا عَلى قَوْم يَعْكفُونَ عَلى اَصْنام لَهُمْ قالُوا يا مُوسى اجْعَلْ لَنا اِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ
اِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)
(الأعراف / 138)
إنَّ ما يثير الإعجاب هو أن شعباً شاهد الاعجاز في غرقِ الفراعنة، انقاذه من أمواج النيل، والعظمة الإلهية بأُم عينيه وبالرغم من ذلك كله يقترح على موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه.
لكن موسى أجابهم إنَّ جهلكم دعاكم الى عبادة الأصنام.
وفي الحقيقة إن عبادة الأصنام دائماً تنشأ عن جهل، وإلاّ فكيف يمكن للانسان أن يعبد ما يصنع بنفسه؟ وكيف له ان يطلب حل المعضلات والمشاكل الكبرى من قطعة من خَشب او معدن؟!
إنَّ تاريخ عبادة الاصنام يكشف ان هذا العمل القبيح نَما تحت ظلِّ من الخرافات والأوهام، وكلما تقدمت الشعوب في مجال العلوم والتقنية كلما تراجع الشرك وعبادة الأصنام وازدادت أنوار التوحيد ضياءً:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الإمام علي: «الجهل في الانسان أضرّ من الاكلة في الابدان» (غرر الحكم).

[76]

إنَّ النبي العظيم «هود» كان يصرح لقوم «عاد» بهذا الأمر إلاّ انه عندما شاهد فيهم الإصرار على عبادة الاصنام وطلبهم نزول العذاب عليهم قال:
(اِنَّما الْعِلْمُ عِنْدَ الله وَأبَلِّغُكُم ما اُرسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي اَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)
(الاحقاف / 23)
إنَّ التعبير بـ «تجهلون» اي بصيغة المضارع الذي عادة ما يدل على الاستمرار، يوضح أن «الجهل المستمر» كان منبع الشرك وعبادة الأصنام، وفي الحقيقة إنَّ تعاضد ثلاثة أنواع من الجهل ولدت هذه الحالة الإجتماعية، وهي: الجهل بالله وبانه لا كفور ولا مثيل له. والجهل بمقام الانسان وأنه أشرف المخلوقات. والجهل بالطبيعة وأنه لا قيمة للجمادات في قبال موجود كالانسان.
يا ترى! كيف سمح الانسان لنفسه أنْ يجعل قسم من قطعة الحجر المقتطعة من الجبل في درجات السلّم في منزلة يسحقها اقدامه، ويجعل القسم الآخر صنماً يركع ويسجد له ويطلب منها حل مشكلاته الكبرى؟. أليس هذا جهلا(1)؟
* * *

31 ـ الجهل السبب الاساسي للخسران:

(يا اَيُّهَا النَّبِيُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنينَ عَلى الْقِتالِ اِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِأَتَيْنِ وَاِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مأَةٌ يَغْلِبُوا اَلْفاً مِنَالَّذينَ كَفَرُوا بِاَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُون)
(الانفال / 65)
الظاهر أن الآية ناظرة الى معركة «بدر» وعدم تساوي عدد المشركين

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين (عليه السلام): «الجاهل لا يرتدع، وبالمواعظ لا ينتفع». (غرر الحكم الجزء 1 الصفحة 68). ويقول الامام الصادق(عليه السلام): «ليس بين الايمان والكفر إلا قلّة العقل». (اصول الكافي الجزء 1 الصفحة 28).

[77]

والمؤمنين فيها. وهي تنفي اسطورة توازن القوى. كإيعاز إسلامي إلهي تأمر الآية بعدم التراجع في المعركة حتى لو كان عدد جنود الاسلام عُشْرَ جنود العدوّ! لكن الذي يسدُّ النقص الكمي في القوات الاسلامية ـ كما تصرح الآية ـ هو شيئان: الاول هو الصبر والاستقامة والثبات عند المؤمنين. والثاني هو جهل وحماقة
الاعداء.
وهذا يدل بوضوح على أن الاستقامة والصبر منع النصر، وأن الجهل هو سبب الخسران.
الجهل بالقابليات والطاقات المودعة في ذات الانسان.
الجهل بقدرة الله عزّ وجلّ وعظمته.
الجهل بتقنيات وقواعد المعركة، وانواع اُخرى من الجهالة(1).
* * *

32 ـ الجهل منبع لاشاعة الفساد:

(أَئِنَّكُمْ لَتَأتُون الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ اَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)
(النمل / 55)
إنهم قوم يجهلون الله وهدف الخلق وقوانينه، ويجهلون الآثار السيئة لهذا الاثم والعار (الشذوذ الجنسي).
إن هذا الحديث الذي نطق به النبي العظيم «لوط» يشير بوضوح الى أن ميل اولئك القوم الى هذا العمل البشع والقبيح (اللواط) نشأ عن الجهل وعدم المعرفة.
والنبي يوسف (عليه السلام) يُشير الى هذا المعنى باسلوب آخر:
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ اَحَبُّ اِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَني اِلَيْهِ وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يصلح». (مشكاة الانوار الصفحة 135).

[78]

اَصْبُ اِلَيْهِنَّ وَاَكُنْ مِنَ الْجاهِلينَ)
(يوسف / 33)
إنَّ ذكر النساء بصيغة الجمع لا المفرد يدل على ان نساء مصر كُنَّ يُردنَ أن يُخرجنَ يوسف عن جادة العفاف وليس امرأة عزيز مصر(زليخا) فقط ويوسف(عليه السلام)كان مستعداً لتقبل السجن برحابة صدر على الابتلاء بحبِّ نساء مصر له.
إنَّ الجملة الاخيرة من الآية السابقة تُشير الى أنَّ العشق الملوّث بالإثم والانحرافات الجنسية (على الاقل في كثير من الموارد) ناشيءٌ عن الجهل، الجهل بالقيم المجبول عليها الانسان، الجهل بالآثار القيمة للعفاف والطهارة والنزاهة، والجهل بمردودات الاثم، وأخيراً الجهل بالأوامر والنواهي الالهية.
وكما نرى في قصة يوسف بوضوح أن السبب الأساسي في ارتكاب الجريمة من قِبَلِ إخوانه هو الجهل وعدم معرفتهم:
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَاَخِيهِ اِذْ اَنْتُمْ جاهِلُونَ)
(يوسف / 89).
نعم أنتم الذين عذبتم أخاكم أولا، ثم ألقيتموه في الجب عن جهل ثانياً! أنتم الذين كذبتم على أبيكم ذلك الشيخ العجوز وأَدْمَيْتُمْ قلبه بفصل ابنه عنه، وفي النهاية بيعه بعدة دراهم بخسة كما يُباع الرق ولم تفوا بعهدكم الذي عاهدتم به أباكم تجاه الأخ الآخر «بنيامين» عندما اتُّهِمَ بالسرقة فتركتموه وحيداً.
وجهلكم وحده هو منشأ جميع هذه المسائل(1).
* * *

33 ـ الجهل أساس التعصب والعناد:

(اِذْ جَعَلَ الَّذينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةَ فَاَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنينَ)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «فقيه واحد أشدُّ على إبليس من ألف عابد». (بحار الأنوار الجزء 1 الصفحة 177).

[79]

الفتح / 26)
إنَّ كلمة «حمية» مشتقة من مادة «حَمْي» على وزن «حَمْد»، وكما يذكر الراغب في «مفرداته» أن معناها الأولي هو الحرارة الناشئة من أشياء مثل النار والشمس والقوة الباطنية في جسم الانسان (الحرارة الذاتية والباطنية للأشياء)، ولهذا يقال لارتفاع درجة حرارة المرى (حُمّى) على وزن (كُبْرى)، وبما أنَّ التعصب والغضب يولدان حرارة وحرقة في باطن الانسان قيل «حمية». وقد جاء في كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» أنّ «الحمية» هي شدة الحرارة والعلاقة والتعصب في الدفاع عن النفس(1).
إنَّ هذه الآية نزلت في حوادث صلح الحديبية وتوضيح القضية: أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)قصد مكة للحج في السنة السادسة من الهجرة، إلاّ أن المُشركين منعوا المسلمين من دخول مكّة تعصباً لجاهليتهم، مع أنَّ السماح بزيارة مكة للجميع كان من قوانينهم وسننهم المسلم بها، فهم بهذا انتهكوا حرمة الحرم الإلهي، ونقضوا سنتهم، إضافة الى أنهم وضعوا حائلا ضخماً بينهم وبين الحقائق.
إضافة «الحمية» الى «الجاهلية» من قبيل إضافة «السبب» الى «مسببه»، التعصب والعناد والغضب ينشأُ عن الجهل دائماً، لأن الجهل لا يسمحُ للانسان أن يرى عواقب أعماله، ولا يسمحُ له قبول أن رؤيته قد تكون خاطئة، وأنَّ هناك علماً أوسع واكبر من علمه، ولهذا نرى أن شدة عناد وتعصّب الأقوام الجاهلة اكثر منها في الأقوام الاخرى.
كما أنه لهذا لسبب نفسه نجد أن الانبياء والرسل عندما يبعثون الى قوم بالرسالات والأَنوار الإلهية الساطعة، يواجهون مقاومة عنيفة، ويتهمون بمختلف التهم، وقد اورد القرآن الكريم نموذجاً من ذلك في سورة(ص)، الآيات (4 الى7).
(وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِنهُمْ وَقالَ الكَفِرونَ هَذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – «هي شدة الحرارة، والعلاقة والتعصب في الدفاع عن نفسه والتعفّف والترفع». (مادة حمى).

[80]

الآلِهَةَ إِلَهاً واحِداً إنَّ هَذا لَشيءٌ عُجَابٌ * وَاِنطَلَقَ
الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذَا لَشَيءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا
بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ إِنْ هذَا إلاَّ إلاَّ اخْتِلاقٌ)
حديثهم يمطر عناداً، العناد الناشيءُ عن الجهل والغرور(1).
* * *

34 ـ الجهل منشأ التبرير:

(وَقالَ الَّذينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنا الله أَوْ تَاْتينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاْياتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ)
(البقرة / 118)
تتكرّر مسألة في تاريخ الانبياء وهي هروب الجاهلين من الايمان والاذعان والتسليم الى الحق، واحتجاجهم بانواع من الحجج الواهية في قبال الحجج والمعاجز السماوية الواضحة، فَتارةً يقولون لِمَ بَعثَ اللهُ بشراً رسولا؟ لِمَ لَمْ يأت مَلَك محله؟
وتارة يقولون: لِمَ لم ينزل علينا كتاباً نقرؤه؟
وتارة يقولون: لن نؤمن ما لَمْ نرَ اللهَ والملائكة جهرة.
وتارة اخرى يقولون: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعاً أو تكون لنا جنّة من نخيل وعنب وتفجر الانهار خلالها تفجيرا، كما في سورة (الإسراء) في الآيات (90 الى 93).
كما أن هناك أمثلة ونماذج اخرى ذكرت في القرآن الكريم.
في الحقيقة ان ذوي العلم يكتفون بدليل منطقي واحد، واذا تعددت الأدلة

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين (عليه السلام): «العلم أصل كل خير والجهل أصل كُل شر». (غرر الحكم الصفحة 20 و21).

[81]

عندهم ازدادوا رسوخاً وايماناً.
لكن المتعصبين والجاهلين المعاندين غير مستعدين لرفع يدهم عن عقائدهم وخرافاتهم، فيتمسكون كل يوم بحجّة في سبيل التملص من الحقيقة. واذا ما دُحِضَتْ حجتهم تركوها وتمسكوا بحجة اخرى، ذلك لان هدفهم ليس طلب الحقيقة بل التملص منها(1).
* * *

35 ـ الجهل هو سبب التقليد الأعمى:

(اِذْ قالَ لاَِبيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثيلُ الَّتي اَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابدينَ * قالَ لَقَدْ كُنْتُم اَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ في ضَلال مُبين)
(الأنبياء / 52 ـ 54)
إنَّ كلمة «التماثيل» جمع «التمثال» والتي تعني الموجود الذي له وجه، وتطلق على التماثيل المنحوتة والرسوم.
وكلمة «عاكفون» مشتقة من مادة «عكوف» وتعني التوجه المستمر نحو شيء والمتزامن مع التعظيم، واصطلاح «اعتكاف» يطلق على العبادة الخاصة المعروفة التي تقام في المسجد وهي مشتقة من نفس المادة.
نعم، إنَّ عبدة الأصنام لم يكن لهم دليل منطقيٌّ على عملهم القبيح هذا، وغالباً ما كانوا يقتنعون بتقليدهم الأعمى، ولهذا نعتهم ابراهيم (عليه السلام) بأنهم
وآباءهم في ضلال مبين وواضح.
ولهذا فان ابراهيم (عليه السلام) في بقية محاكمته التاريخية لعبدة الأصنام في بابل يقول: (أفتعبدونَ من دون الله ما لا ينفعكُم شيئاً ولا يضركم؟!) ثم يضيف (اُفٍّ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين(عليه السلام): «الجاهل صغير وإن كان شيخاً كبيراً والعالم كبير وإن كان حدثاً». (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 183).

[82]

لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله اَفَلا تَعْقِلُونَ) (الانبياء / 66 ـ 67).
يعني أن هذا التقليد الأعمى ناشيءٌ عن عدم التعقل والتأمل ووليد الجهل. ودليله واضح، فان ذوي العلم مستقلون فكرياً، واستقلالهم الفكري هذا لا يسمحُ لهم بالتقليد، بينما الجاهلون مرتبطون بهذا وذاك فكرياً، ويتبعون الاخرين
عشوائياً.
* * *

36 ـ الجهل يُسبّبُ الخلاف والفرقة:

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَميعاً اِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة اَوْ مِنْ وَراءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَديدٌ تَحْسَبُهُم جميعاً وَقُلُوبُهُم شَتّى ذلِكَ بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)
(الحشر / 14)
إنَّ كلمة «قرى» جمع «قرية» ومعناها المحال المعمورة اعم من القرى والارياف او المدن. وقد تطلق على مجموعة يسكنون في مكان ما، و«قرىً محصَّنة» تعني المناطق الآمنة من العدو بسوار او ابراج او خنادق او غيرها.
إنَّ هذه الآية تتحدث عن طائفة «بني النضير» (إحدى ثلاث طوائف يهودية تقطنُ المدينة) وترفع الغطاء عن فزعهم وخوفهم الباطني واختلافهم وفرقتهم، فتصرح الآية للمسلمين: إنكم تحسبونهم جميعاً ومتحدين لكنّ الواقع بينهم ومضمر فيهم وهذا بسبب جهلهم وعدم معرفتهم.
إن الاختلاف ينشأ عن الجهل، والاتحاد ينشأ عن المعرفة دائماً. الجاهلون لا يجهلون الأخطار الجسيمة للفرقة فقط، ولا يجهلون فوائد الاتحاد وبركاتِهِ فقط، بل يجهلون اُسس التعايش السلمي، واُسلوب التعاون وشروط النشاطات المشتركة، وهذه المسألة أدت بهم الى الاختلاف والفرقة.
إن المتعصبين والمعاندين والمتكبرين والحاقدين والسفهاء، لا يمكنهم

[83]

الاتحاد مع الآخرين، لأن كلا من هذه الصفات مانع كبير امام الوحدة، ونعلم أن منشأ جميع هذه الرذائل هو الجهل(1).
* * *

37 ـ الجهل هو سبب إساءة الظن بالآخرين:

(ثُمَّ اَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفةٌ قَدْ اَهَمَّتْهُمْ اَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرِ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) (آل عمران / 154)
تحدثت هذه الآية عن الليلة المضطربة والملتهبة بعد معركة أُحُد، حيث احتمل بعض المسلمين هجوم قريش في تلك الليلة مرّة اُخرى لتدمير آخر ما تبقى من مقاومة المسلمين بعد ما أُنهكوا في المعركة نهاراً.
في ذلك الحين أنزل الله على المسلمين نعاساً مهدئاً لهم، إلاّ أن ضعيفي الإيمان قد غاصوا في افكار رهيبة فما استطاعوا النوم آنذاك، فكانوا يتساءلون: يا ترى هل أن وعود الرسول حقّةٌ؟ هل أننا سننتصر في النهاية مع ما حصل لنا في أحد؟ هل سننجو من هذه المهلكة؟ أو أن كل ما قيل لنا كان كذباً؟
وامثال هذه الوساوس وإساءة الظن الجاهلي.
لكن الحوادث التي حصلت فيما بعد بينت لهم خطأهم الفاحش، وأن جميع الوعود الالهية حقة، ولو كانوا قد انقطعوا عن عصر الجاهلية تماماً لَما أساءوا الظن بالله ورسوله.
والتعبير في الآية يوحي بأن الجهل هو أحد أسباب إساءة الظن، وأن عدم قدرتهم على التحليل الصحيح للحوادث جعلهم يسيؤون الظن، وأنهم لو كانت لهم القدرة الكافية على تحليل الحوادث وفهمها لما وقعوا في شباك سوء الظن.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام علي (عليه السلام): «لو سكت الجاهل ما اختلف الناس». (بحار الانوار الجزء 78 الصفحة 81).

[84]

* * *

38 ـ فقدان الأدب ينشأ عن الجهل:

(اِنَّ الَّذينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءَ الحُجراتِ اَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
(الحجرات / 4)
كان البعض يضايق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا يقفون عند باب بيته منادين عالياً: «يا محمد!» «يا محمد!» فكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتألم من سلوكهم هذا، ولكنه كان يكظم غيظه وذلك لما كان يتصف به من خُلُق عظيم إلى أن نزلت هذه الآية، فعلمتهم أدب الحديث مع الرسول ومحاطبتِهِ (في سورة الحجرات).
والتعبير بـ «أكثرهم لا يعقلون» إشارة جميلة الى أن سوء الأدب غالباً ما ينشأ عن الجهل فكلما فُقِد العلم حل سوء الأدب مكانه، وكلما تواجد العلم تواجد الأدب معه.
(وَاِذ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِنَّ الله يَامُرُكُمْ اَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتتخِذنا هُزُواً قالَ اَعُوذُ بِالله اَنْ اَكُونَ مِنَ الْجاهِلينَ)
(البقرة / 67)
إنَّ الآية تتعلق بقضة قتل حدثت في بني اسرائيل كادت ان تجر الى معارك كبيرة بين قبائل بني اسرائيل لجهلهم بالقاتل: فأمر الله أن يذبحوا بقرة ويضعوا قسماً منها على المقتول كي ينطق ويُعرفهم قاتله.
وبما أن هذه القضية كانت معجزة ومدهشة للغاية بالنسبة لبني اسرائيل، فقد قالوا لموسى ابتداءً: أتتخذنا هزواً؟
فاجاب موسى (عليه السلام): أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أي ان الاستهزاء من معالم الجهل ودليل على العجب والتكبر والغرور، فان ذوي هذه الصفات يتخذون الآخرين هزواً كي يحقّروهم ونعلم أن التكبر والعجب ينشآن عن الجهل حتى أن

[85]

كثيراً من الجاهلين يستهزئون بالعلماء.(1)
* * *

39 ـ الجهل سبب الندم والمشاكل الإجتماعية:

(يا اَيُّها الَّذينَ آمَنُوا اِن جائَكُمْ فاسِقٌ بنبا فَتَبَيَّنُوا اَنْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ)
(الحجرات / 6)
إنَّ هذه الآية كقاعدة أساسية تأمر المسلمين بأنْ يتبيّنوا ويتأكّدوا من ثقة الرواة ناقلي الأخبار ويحققوا في الخبر الذي وصلهم من فاسق أو شخص لا يُعتمد عليه لا يتعجّلوا باتخاذ الإجراءات على ضوء ما نُقِلَ لهم من خبر، لأنه قد يوجب لهم كثيراً من الندم والمشاكل والمصائب الاجتماعية.
فمن البديهي أنَّ الجاهلَ لا يُمكنه أنْ يتّخذ موقفاً صحيحاً تجاه مختلف القضايا، وعدم معرفته هذه تؤدّي به الى كثير من المصائب والمشاكل الإجتماعية التي نهايتها النّدم.
* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين (عليه السلام): «العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم». (بحار الانوار الجزء 78 الصفحة 81).

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...