الرئيسية / زاد الاخرة / كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌ 5

كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌ 5

و أمّا السبب الثاني: و هو حبّه لمن أحسن إليه‌

فواساه بماله و لاطفه بكلامه و أمدّه بمعونته و انتدب لنصرته و قمع أعداءه و قام بدفع شرّ الأشرار عنه و انتهض وسيلة إلى جميع حظوظه و أغراضه في نفسه و أولاده و أقاربه فإنّه محبوب لا محالة عنده، و هذا بعينه يقتضي أن لا يحبّ إلّا اللّه تعالى فإنّه لو عرف حقّ المعرفة لعلم أنّ المحسن إليه هو اللّه تعالى فقطّ فأمّا أنواع إحسانه إلى كلّ عبيده فلست أعدّها إذ ليس يحيط بها حصر حاصر كما قال تعالى: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» [1]

[1] إبراهيم: 34.
و لقد أشرنا إلى طرف منه في كتاب الشكر و لكنّا الآن نقتصر على بيان أنّ الإحسان من الناس غير متصوّر إلّا بالمجاز فإنّما المحسن هو اللّه عزّ و جلّ و لنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع أمواله و مكّنك منها لتتصرّف فيها كيف تشاء

فإنّك تظنّ أنّ هذا الإحسان منه و هو غلط فإنّه إنّما تمّ إحسانه به و بماله و بقدرته على المال و بداعيته الباعثة له على صرف المال إليك فمن الّذي أنعم بخلقه و خلق ماله و خلق قدرته و خلق إرادته و داعيته و من الّذي حبّبك إليه و صرف وجهه إليك و ألقى في نفسه أنّ صلاح دينه و دنياه في الإحسان إليك

و لو لا كلّ ذلك لما أعطاك حبّة من ماله و مهما سلّط اللّه عليه الدّواعي و قرّر في نفسه أنّ صلاح دينه و دنياه في أن يسلّم إليك ماله كان مقهورا مضطرّا في التسليم لا يستطيع مخالفته فالمحسن هو الّذي اضطرّه و سخّره لك و سلّط عليه الدّواعي الباعثة المرهقة إلى الفعل و أمّا يده فواسطة يصل بها إحسان اللّه إليك و صاحب اليد مضطرّ فيه اضطرار مجرى الماء في جريان الماء فيه،

فإن اعتقدته محسنا أو شكرته من حيث هو محسن بنفسه لا من حيث هو واسطة كنت جاهلا بحقيقة الأمر فإنّه لا يتصوّر الإحسان من الإنسان إلّا إلى نفسه و أمّا الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين لأنّه لا يبذل ماله إلّا لغرض له في البذل إمّا آجل و هو الثواب و إمّا عاجل و هو المنّة و الاستسخار أو الثناء و الصيت و الاشتهار بالسخاء و الكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة و المحبّة

و كما أنّ الإنسان لا يلقى ماله في البحر إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلّا لغرض له فيه و ذلك الغرض هو مطلوبه و مقصوده، و أمّا أنت فلست مقصودا بل يدك آلة له في القبض حتّى يحصل غرضه من الذكر و الثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال فقد استسخرك في القبض للتوصّل إلى غرض نفسه فهو إذن محسن إلى نفسه و معتاض عمّا بذله من ماله عوضا هو أرجح عنده من ماله و لو لا رجحان ذلك الحظّ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلا البتّة،

فإذن هو غير مستحقّ للشكر و الحبّ من وجهين أحدهما أنّه مضطرّ بتسليط اللّه الدّواعي عليه و لا قدرة له على المخالفة فهو جار مجرى خازن الأمير فإنّه لا يرى محسنا بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه لأنّه من جهة الأمير

مضطرّ إلى الطاعة و الامتثال لما يرسمه فلا يقدر على مخالفته و لو خلاه الأمير و نفسه لما سلّمه فكذلك كلّ محسن لو خلاه اللّه عزّ و جلّ و نفسه لم يبذل حبّة من ماله حتّى سلّط اللّه الدّواعي عليه و ألقى في نفسه أن حظّه دينا و دنيا في بذله فبذله لذلك،

و الثاني أنّه معتاض عمّا بذله حظّا هو أو في عنده و أحبّ إليه عمّا بذله و كما لا يعدّ البائع محسنا لأنّه بذل بعوض هو أحبّ عنده ممّا بذله فكذلك الواهب اعتاض الثواب أو الحمد و الثناء أو عوضا آخر و ليس من شرط العوض أن يكون عينا متموّلا بل الحظوظ كلّها أعواض تستحقر الأموال و الأعيان بالإضافة إليها فالإحسان بالجود و الجود هو بذل المال من غير عوض و حظّ يرجع إلى الباذل

و ذلك محال من غير اللّه عزّ و جلّ فهو الّذي أنعم على العالمين إحسانا إليهم و لأجلهم لا لحظّ و غرض يرجع إليه فإنّه يتعالى عن الأغراض و الحظوظ فلفظ الجود و الإحسان في حقّ غيره كذب أو مجاز و معناه في حقّ غيره محال و ممتنع امتناع الجمع بين السّواد و البياض فهو المتفرّد بالجود و الإحسان و الطول و الامتنان فإن كان في الطبع حبّ المحسن فينبغي أن لا يحبّ العارف إلّا اللّه عزّ و جلّ إذ الإحسان من غيره محال فهو المستحقّ لهذه المحبّة وحده و أمّا غيره فيستحقّ المحبّة على الإحسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان و حقيقته.

و أمّا السبب الثالث: و هو حبّك المحسن في نفسه‌

و إن لم يصل إليك إحسانه فهذا موجود في الطباع فإذا بلغك خبر ملك عالم عابد عادل رفيق بالناس متلطّف بهم متواضع لهم و هو في قطر من أقطار الأرض بعيد عنك و بلغك خبر ملك آخر ظالم متكبّر فاسق متهتّك شرير و هو أيضا بعيد عنك فإنّك تجد في القلب تفرقة بينهما إذ تجد في القلب ميلا إلى الأوّل و هو الحبّ

و نفرة عن الثاني و هو البغض مع أنّك آيس من خير الأوّل و آمن من شرّ الثاني لانقطاع طمعك عن الترحّل إلى بلادهما فهذا حبّ المحسن من حيث إنّه محسن في نفسه فقطّ لا من حيث إنّه محسن إليك و هذا أيضا يقتضي حبّ اللّه تعالى بل يقتضي أن لا يحبّ غيره أصلا إلّا من حيث يتعلّق منه بسبب فإنّ اللّه تعالى هو المحسن إلى الكافّة المتفضّل على جميع أصناف‌
الخلق أوّلا بإيجادهم و ثانيا بتكميلهم بالأعضاء و الأسباب الّتي هي من ضروراتهم و ثالثا بترفيههم و تنعيمهم بخلق الأسباب الّتي هي في مظانّ حاجاتهم و إن لم تكن في مظانّ الضرورة،

و رابعا بتحميلهم بالزّوايد و المزايا الّتي هي في مظنّة زينتهم و هي خارجة عن ضروراتهم و حاجاتهم، و مثال الضروريّ من الأعضاء الرّأس و القلب و الكبد، و مثال المحتاج إليه العين و اليد و الرّجل، و مثال الزّينة استقواس الحاجبين و حمرة الشفتين و تلوّز العينين إلى غير ذلك ممّا لو لم يكن لم تنخرم به حاجة و لا ضرورة، و مثال الضروري من النعم الخارجة من بدن الإنسان الماء و الغذاء، و مثال الحاجة الدّواء و اللّحم و الفواكه، و مثال المزايا و الزّوائد خضرة الأشجار و حسن أشكال الأنوار و الأزهار و لذائذ الفواكه و الأطعمة الّتي

لا تنخرم بعدمها حاجة و لا ضرورة و هذه الأقسام الثلاثة موجودة لكلّ حيوان بل لكلّ نبات بل لكلّ صنف من أصناف الخلق من ذروة العرش إلى منتهى الثرى فإذن هو المحسن و كيف يكون غيره محسنا و ذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته فإنّه خالق الخلق و خالق الحسن و خالق المحسن و خالق الإحسان و خالق أسباب الإحسان فالحبّ بهذه العلّة أيضا لغيره جهل محض و من عرف ذلك لم يحبّ بهذه العلّة إلّا اللّه تعالى.

 

شاهد أيضاً

حزب الله معزياً حماس: دماء القادة الشهداء ستنبت جيلاً من المقاومين أشد بأساً وصلابة

قدّم مسؤول العلاقات الفلسطينية في حزب الله، النائب السابق حسن حب الله، التعزية والتبريك بشهادة ...