ان الامامة وولاية امر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان وقد اطبق عليها جميع العقلاء ولا يمكن لحياة المجتمع ونظام معاشه ان يستقيم بدون امام ورئيس يدير شؤون الامة ويدبر امورها. وقد اجمع علماء الاسلام على ضرورة وجود امام واذا كان بينهم خلاف ففي الصغرى اي في التفاصيل والتطبيق لا في اصل احتياج الامة فابناء العامة يقولون بالشورى او ان الامر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف وتقمّص امامتها قهراً ونحن نقول انها بالنص وانها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً بالامر او صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً كما في الحديث الشريف (الحسن والحسين امامان ان قاما وان قعدا) اي قاما بالامر او قعدا عنه لاي سبب من الاسباب.
وقد اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الامر بدقة فكان لا يُخرج سرية الا عليها امير مهما قلّ افرادها بل في الحديث اذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا احدهما، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) اذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له بل روي في حديث (امام فاسق خير من عدم امام) لانه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد وجوزّوا دفع الزكاة والخراج اليه وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة اليهم.
لذا كان من مسؤوليات حامل الرسالة ووظائفه بل اهمها على الاطلاق تعيين الخليفة والامام البديل لعدة مصالح مهمة:
1- ديمومة الرسالة واستمراريتها في اداء دورها فان اية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة -كرسالة الاسلام- تموت بموت صاحبها فانه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها المقيمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لاسرارها لذلك فانها تنتهي بنهاية صاحبها الا ان يواصل الطريق من هو جدير بحملها وانت ترى الرسالات السماوية -وهي اكمل الدعوات- حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب اصحابها.
2- قطع الطريق امام غير المؤهلين لهذا المنصب الالهي فان الامرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من اهم ما تنـزع اليه النفس الامارة بالسوء ففي الحديث (آخر ما ينـزع من قلوب الصديقين حب الجاه) اذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون الى تحصيلها اكثر. وقد اعترفوا انه ما عانت الامة من شيء كما عانت من مسألة الامامة والخلافة وهذا واضح تاريخياً.
3- صيانة الامة من التشتت وحمايتها من التمزق فان من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب ان تتعدد الاحزاب والفرق الموالية لهم وكل يجرُّ النار الى قرصه فيتمزق امر الامة وتصبح طرائق قددا وها هي الاجيال بعد الاجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل امرها الى الانحلال لذا قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وحبل الله الممدود الى الخلق هما الثقلان كتاب الله واهل بيت نبيه صلوات الله عليهم اجمعين كما دلت عليه النصوص الشريفة(326). وقد اشارت الزهراء سلام الله عليها الى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل امامتنا نظاماً للملة) اي بها تنتظم امورهم وتستقر.
4- ان حامل الرسالة لا يستطيع ان يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل ان يطمئن الى وجود البديل لانه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة فاذا احرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع ان يتقدم بلا تردد او خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي اشار اليه نبي الله موسى (عليه السلام) لذا كان اول دعاء له (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وفي كلمات امير المؤمنين (عليه السلام) : (لم يُوجِس موسى عليه السلام خيفة على نفسه بل اشفق من غَلَبَة الجُهال ودِوَلِ الضلال)(327).
هذه امور يدركها كل عاقل ويزداد الامر وضوحاً كلما ازدادت اهمية الرسالة كدين الاسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً الى يوم القيامة فهو -اي الاسلام- بهذه السعة والشمول طولاً وعرضاً، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب واشرف موقع هو امامة المسلمين وولاية امورهم وخلافة رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قدّر لها ان تشمل شرق الارض وغربها كما بشر بذلك رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فاضاءتا له ولهم واكدها القرآن (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً) (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الاهواء، أفمثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهل هذه الامور الواضحة وهو المتصل بسبب الى الله تبارك وتعالى وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى وهو القائل: (من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية) فهل يكون (صلى الله عليه وآله وسلم) اول من يخرج عن ربقة الاسلام ويموت على الجاهلية (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ام يقال ان هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم فهل هذه الامور اهم من الوصية بالامة وحفظ كيانها من الضياع ؟!
ام يقال (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجئ باجله قبل ان يفكر بمستقبل الامة وقبل ان يستعد للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع وحينما قال: (ان جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في السنة مرة وعارضني في هذه السنة مرتين وما ذلك الا لدنو اجلي).
ام يقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن حريصاً على الامة ولا مهتماً بأمرها فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل امرها الى الفناء ولتذهب اتعابه سدى (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) وهذا لا يصدر من ابسط الناس فالراعي لا يترك غنمه اذا خرج لحاجة او سفر حتى يعين لها راعياً ولم يفعلها الخلفاء من بعده فالاول نص على الثاني وهو يقول اني اخشى ان القى الله وقد تركت امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون ان اولي عليها احداً وجعل الثاني الأمر شورى بين ستة من اصحاب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ارسلت اليه ام المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: ان اوصِ من يخلفك ولا تترك امة محمد بعدك هملاً وبدون راع.
فكيف برسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اكمل العقلاء وسيد الحكماء وهو يرى بعينه الاخطار المحدقة بالامة من الداخل والخارج ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة -على تعبير القرآن- والقائلون: (لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالاسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع ولم يسلموا ولم يقتنعوا بالاسلام و(قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وكانوا يعارضون تصرفات رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة افعاله والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية حينما منعوا رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من التوقيع على وثيقة الصلح وعندما عارضوا الاحلال من الاحرام في متعة الحج وحينما منعوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده ابداً في رزية يوم الخميس وحينما كانوا يصلّون نوافل رمضان جماعة في المسجد وقد نهاهم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك مراراً وحينما تخلفوا عن جيش اسامة رغم لعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمتخلفين عنه(328).
مضافاً الى ان الانتشار السريع للاسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها وهي نقل امة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها الى نور الاسلام وسعادته ادّى الى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل الى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع اول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اخبره بذلك القرآن الكريم (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الاسلام الا تلك الثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اشارت ام المؤمنين عائشة الى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي الطبري(329)كانت السيدة عائشة من اشد الناس على عثمان حتى انها اخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنصبته في منـزلها وكانت تقول للداخلين اليها: هذا ثوب رسول الله لم يبل وقد ابلى عثمان سنته وقالوا انها كانت اول من سمى عثمان نعثلاً (اسم احد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا ! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمر على وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اكثر من عقدين من الزمان.
وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللاسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الامة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) واسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين واصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصيب المسلمون بالاحباط والضعف والهزيمة امامهم وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة بعد غياب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم ابعاده عن القيادة الدنيوية لكنه كان يرى مصلحة الدين واعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء حتى اشتهرت كلمة الخليفة الثاني (لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن) وما علمنا انه احتاج الى احد سواه(330).
ومن الخارج كان هناك المتربصون بالاسلام شراً الذين اعيتهم الحيل في القضاء عليه حيث بدأوا بتعذيب اصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتلهم ثم حاصروه ومن معه في شعب ابي طالب اقتصادياً واجتماعياً ثم تآمروا على قتله فهاجر الى المدينة وبات علي في فراشه ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال امره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبق امامهم الا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله اكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر والمحاولة التي جرت اثناء مسيره الى تبوك حيث حاول بعض المتآمرين تنفير ناقته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلقوه من السفح وتتقطع اوصاله وقد اعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابي حذيفة بن اليمان باسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الخليفة الثاني لا يصلي على احد حتى يصلي حذيفة ليعلم انه ليس من المنافقين.
وفي الخارج كانت ايضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران جدياً في امره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ان غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً الى تخوم الشام والعراق شمالاً بل انه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة وغزوة تبوك وارسل الرسائل اليهم يدعوهم الى الاسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).
كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الامة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نصب عينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولاصلاح الانسانية وانقاذها من الظلمات الى النور وقد وصفه القرآن الكريم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) فكيف يترك امر الامة سدى ؟! (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) و(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فهذا الاحتمال مرفوض قطعاً.
بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.
الاول: وهو الذي التزم به العامة -ايكال الامر الى الامة نفسها فهي تختار من تشاء وهو مرفوض ايضاً لعدة وجوه:
1- قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية وقد عجزت عن اقل من هذا الامر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعد ان نالت تربية اضافية خلال عقود من السنين ففي خلافة امير المؤمنين عندما بدأ اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة وقد نسب الى ابي حنيفة قوله (انه لولا قتال علي للبغاة من المسلمين لما عرفنا حكم قتالهم الى يوم القيامة) وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الاسلامية بازمة مع الدولة الرومية عندما ارادت ان تسك عملة فيها شتم نبي الاسلام وتتداول في بلاد المسلمين فانقذ الموقف الامام الباقر (عليه السلام) وهكذا ظلّت الامة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة (عليهم السلام) حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد ان رسم الائمة (عليهم السلام) كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الاول للاسلام لقرب عهدهم بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالة وانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (الهانا الصفق بالاسواق) ويقول بعضهم كنّا نغتنم فرصة مجيء الاعرابي يسأل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنتعلم احكام ديننا فمع عجزهم عن هذه الامور الجزئية كيف يوكل اليهم أمر الامامة التي بها قوام الامة.
2- لو كان لهذا الامر وجود لبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفاصيله الى الامة فيوضح صيغة الاختيار ومن الذين لهم هذا الحق وما هي شروط المرشحين للامامة وضوابط الاختيار ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف وهكذا ونحن نعلم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يغفل عن ابسط تفاصيل الشريعة كآداب المائدة واحكام التخلي فكيف يغفل عن مسالة الامامة وهي اصل الشريعة وأساسها ؟! .
3- عدم التزام نفس الخلفاء الذين اعقبوه بمبدأ الاختيار فالاول نص على الثاني، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين فهل تراهم اول مخالفين لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ان الخليفة الثاني يقر ويعترف (ان بيعة ابي بكر فلتة (او فتنة) وقى الله شرها فمن عاد الى مثلها فاقتلوه كائناً من كان).
4- ان هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها الا المطلع على الاسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الارض واولها العصمة لاشمئزاز الناس من الاخذ ممن يتورط في الذنوب وكما يظهر من الآية الشريفة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) انها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول الا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة وقد ورد في تفسيرها ان الله اتخذ ابراهيم عبداً خالص العبودية اي معصوماً قبل ان يتخذه نبياً واتخذه نبياً قبل ان يتخذه رسولاً واتخذه رسولاً قبل ان يتخذه خليلا ثم ابتلاه ربه بكلمات فاتمهن ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الالهي (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً).
وانت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي كالآية المتقدمة وقوله تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) وقوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) وقوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) لذا قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) وقد اشتهر استشهادهم بالآية الشريفة و(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) عند كل من يطلع عن كثب على سيرة اهل البيت (عليهم السلام) فكأنه مرتكز في اذهانهم جميعاً ان حمل الرسالة امر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى وليس لاحد ان يتدخل فيه.
5- ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الامة وانما اوكل الامر الى الاختيار الالهي ففي سيرة ابن هشام لما دعا الرسول بني عامر للاسلام وقد جاءوا في موسم الحج الى مكة قال رئيسهم: أرأيت ان نحن بايعناك على امرك ثم اظهرك الله على من خالفك ايكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الامر لله يضعه حيث يشاء). اذا كان الامر كذلك فكيف يُدعى ايكاله الى الامة.
الثاني: ولم يبق الا الاحتمال الآخر وقد تبنته مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) وارسى قواعده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستوعبه الصفوة من اصحابه ودافعوا عنه وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء وهي بعد ذلك سنة الله التي جرت في انبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً اوصياء فلماذا لا يكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصي (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) وقد الفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (اثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي وهذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل واعداده ليكون مؤهلاً لمواصلة وظائف ومسؤوليات الامام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.
وهذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في امير المؤمنين(331) الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد اخفى اولياؤه فضائله خوفاً واخفاها اعداؤه حسداً وحقداً وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين) وعن احمد بن حنبل: (مـا جـاء لأحد من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جـاء لعلي بن ابي طالب)(332) وكان تميزه واضحاً عن بقية اصحاب رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل صفات الكمال وكـان التفاف الواعين المخلصين مـن اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حولـه معروفاً في حيـاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعـد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كسلمان وابي ذر والمقـداد وعمار وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والاعداد المركز الذي كان يحيطه به (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ نعومة اظفاره والتي وصفها امير المؤمنين نفسه بقوله: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنـزلة الخصيصة. وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفني الى فراشه ويمسني جسده ويُشمُّني عَرفه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن ان كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة.
وقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت يارسول الله ما هذه الرنة ! فقال هذا الشيطان أيس من عبادته. انك تسمع ما اسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير)(333) وهكذا هو منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فارقت روحه الدنيا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد علم المستحفظون من اصحاب محمد صلى الله عليه وآله اني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعةً قط. ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الابطال وتتأخر فيها الاقدام نجدة اكرمني الله بها. ولقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وان راسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفيّ فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غُسله صلى الله عليه وآله والملائكة اعواني، فضّجت الدار والافنية ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة(334) منهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحقُ به مني حياً وميتـــاً ؟)(335).
ولقد ادى (عليه السلام) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفظ الاسلام من الضياع وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق اماناً للامة من الانحراف بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها ابو الحسن(336) فكانت خلافة امير المؤمنين لمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير اعلاه لا يسع أي منصف ان يحيد عنها، ولم يكن النص الذي سنشير اليه -وهو حديث الغدير- هو الذي جعل من علي (عليه السلام) اماماً وخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه لا لشيء الا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كان وبأية طريقة ولو بانكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعلي (عليه السلام) هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وانما جاء النص للاشارة اليه ولتعريفه ولقطع العذر واتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف -كما يقولون-.
ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقضّ مضجعه فانه يخشى ردود الفعل من هذه الامة وهو خوف محمود كخوف موسى (عليه السلام) الذي ذكره القرآن واشرنا اليه ليس شخصياً وانما على مستقبل الامة التي هي جديدة عهد بالاسلام ومازالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها ومازال التعصب يتحكم فيها فكيف يستطيع ان يضمن ولاءها لهذا القرار الهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (عليه السلام) ان تنصاع اليه كذاك الفهري الذي ما ان سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (عليه السلام) خليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبايعة المسلمين له حتى جاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له هذا الامر منك ام من الله فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) انه من الله فقال: ان كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء او أئتنا بعذاب اليم فما خرج منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء وقد ورد انه سبب نزول قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ).
وبالمقابل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع السكوت عن انقاذ هذا الامر وهو يرى نهايته تقترب والاعداء يتربصون بدينه الدوائر فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل ان تنعقد البيعة لعلي (عليه السلام).
حتى اذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ بل امره به وطمأنه من مخاوفه هذه بانه سيعصمه من الناس وبين اهمية هذا الامر بانه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة فقال عز من قال (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فليس غريباً ان تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها ان غرضها تأسيس المجتمع المسلم وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته واسس كيانه وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على اساس الاسلام والمجتمع الذي ليس كذلك كائنا ما كان وان سمى نفسه مسلماً فانه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي) فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الاحكام (كآيات اوفوا بالعقود وحرمة الكلب والخنـزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين) وفي الشريعة التي تنظم الحياة (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون، هم الظالمون، هم الفاسقون) وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.
ثم جعل يوم الحسم هذا اعظم عيد في الاسلام ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لامير المؤمنين وامتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً) وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقبل التهاني بهذا الانجاز العظيم ويقول لاصحابه هنئوني هنئوني بابن عمي امير المؤمنين وافرد له خباءاً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين واستأذنه شاعره حسان بن ثابت ان يقول شعراً في المناسبة فاذن له فأنشأ:
يناديهم يوم الغدير نبيهم
بخم فأسمعْ بالرسول مناديا
وفيها يقول:
فقال له: قم يا علي فانني
رضيتك من بعدي اماماً وهادياً
واول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن ابي طالب اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وقد نظـم هـذه الحقيقـة التاريخية الدامغة اجيال من الشعراء جيلاً بعـد جيـل ومنهم عمرو بن العاص الخصـم الالـد لعلي بن ابي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثهـا الى معاويـة يذكره ببعض الحقائق التي تناساها ومما جاء فيها:
وكم قد سمعنا من المصطفى
وصايا مخصصة في علي
فانحلـه امـرة المؤمنيـن
من الله مستخلف المنحل
وقال فمن كنـت مولى له
فهذا له اليوم نعـم الـولي
فبخبـخ شيخـك لما رأى
عُرى عقد حيدر لم تحـلل
فقال: وليكـم فاحفظوه
فمدخله فيكـم مدخلـي
(راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).
وقد جاء هذا البيان -خطبة الغدير- منه (صلى الله عليه وآله وسلم) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل عنه وضوحاً: (ان علياً مني بمنـزلة هرون من موسى الا انه لا نبي بعدي) وان: (علي مع الحق والحق مع علي) وانه (عليه السلام) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وانهم والقرآن صنوان لا يفترقان وثقلان ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ابدا وغيرها كثير.
ان عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:
1- يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد ان انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمكن ان تموت بموته الى نوع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اي الى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الامامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه(صلى الله عليه وآله وسلم).
2- وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الاعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح الا موت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتنتهي دعوته.
3- وهو يوم حماية الامة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي ان اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر امرهم وعلت كلمتهم.
4- وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد ان نصب لهم العلم والمحور الذي يلتفون حوله.
5- وهو يوم أمان الارض ومن عليها من الفناء لما ورد في الحديث: (ان الارض لا تخلو من حجة ظاهر او مستور ولولاه لساخت الارض باهلها).
6- وهو يوم الهداية الى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك فانك ان لم تعرفني نبيك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني).
7- وهو يوم الامامة التي هي اس الاسلام وسنامه فهو لا يقل اهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الاسلام.
لأجل هذا كله كان يوم الغدير اعظم عيد في الاسلام كما نطقت به الروايات الشريفة وفي ذلك اليوم تبلورت فكرة (التشيع) ونضجت ثمارها واينعت بعد ان كان قد زرع بذورها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مناسبات عديدة ابتداءاً من يوم الدار وانذار عشيرته الاقربين في اوائل البعثة الشريفة ولهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) في مناسبات عديدة انقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب ابلغ في الحجة:
1- في الدر المنثور للسيوطي ج8/ص589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الانصاري قال كنّا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) فنـزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).
2- ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الاول: الآية الحادية عشرة:
عن ابن عباس قال: لما انزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (هم انت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).
3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج2 ص61.
عن ام سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة) ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير الآية الشريفة: تفسير الطبري وروح المعاني وكفاية الكنجي الشافعي وغيرها(337).
لقد كان تخطيط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة اشكال:
الأول: النص المباشر والواضح عليه وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه وانصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين للاطلاع على المزيد من الادلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.
الثاني: الاشادة بالاشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم انهم ثابتون علىالخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقولون كلمة الحق مهما كان الثمن كسلمان والمقداد وابي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يردد: (سلمان منّا أهل البيت) (ان الجنة لتشتاق الى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار) (ما اظلّت الخضراء ولا اقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر) (مليء عمار إيماناً من قرنه الى اخمص قدميه) و(أم ايمن امرأة من أهل الجنة) و(بلال من أهل الجنة) وقال لام سلمة (لسـتِ مـن أهـل البيت لكنـك على خير) فكانت هذه الاوسمة تخطيطاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمستقبل اذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب وتدلّهم على شاطئ الايمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التاريخ(338) لو كان هناك من يسمع بينما لم نسمع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة واحدة في اولئك الذين انحرفوا عن علي (عليه السلام) وخذلوه رغم ان منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص.
الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الامر وتمييزهم عمّن هم ليسوا اهلاً له والذين يستخدمون اساليب لم يقم عليها دليل شرعي من اجلها تثبيت استحقاقهم او تشويه صورة اهل الحق وازالتهم عن موقعهم كما كانوا يقولون (ان قريش نظرت فاختارت وانها أبت ان تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم) و(ان فلان -وهو الاول- اسنّ من عليّ) و(ان علياً فيه دعابة) والله تبارك وتعالى يخاطبهم (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ويقول تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فما قيمة رأي احد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).
فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها ان شاء الله تعالى تستطيع الامة ان تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من اساليب الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق:
(فمنها) قوله تعالى (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) والعهد هو الامامة لانها جاءت جواباً على سؤال ابراهيم (عليه السلام) بعد جعله اماماً قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقد فُسّرت في الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما فان من فعل ذلك سفيه ولا يكون السفيه امام التقي كما في الحديث ويشهد له قوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
(ومنها) قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا).
(ومنها) قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يلي امر هذه الامة طليق).
(ومنها) قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية).
(ومنها) حشده (صلى الله عليه وآله وسلم) المعادين لخط الامامة وفيهم شيوخ قريش في جيش اسامة ذي السبعة عشر ربيعاً ولعنه من تخلف عن جيش اسامة وامر بانفاذه فوراً وكان ذلك منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لاخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لامامة امير المؤمنين (عليه السلام) وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحصر الامر بعلي (عليه السلام) فبعض المتصدين ممن اغضب فاطمة(عليها السلام) وماتت وهي واجدة عليهم كما اشهدتهم صلوات الله عليها على ذلك فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى وهل يلي امر الامة احد من المغضوب عليهم ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للاصنام ردحاً طويلاً من الزمن فلا ينالهم عهد الله تعالى فكيف يكون احدهم اماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك -كما يعترفون- وهم ايضاً ممن تخلفوا عن جيش اسامة فينالهم حكمه.
وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده وهزائمهم في الحروب معروفة ومنهم من ولّى منهزماً في معركة احد لا يلوي على شيء ثلاثة ايام حتى بلغ تخوم الشام فقيل له ان الامر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سالماً الى المدينة.
ومعاوية ومروان ممن اسلموا بل استسلموا بعد الفتح فلا يستوون مع من آمن وانفق من قبل الفتح وقاتل وهم من الطلقاء فلا يحق لهم ولاية امر الامة. وهم من البغاة لانهم قتلوا عماراً في صفين فكيف يلي امر الامة باغٍ اثيم.
فلو كانت الامة واعية لتلمست طريقها بوضوح حيث لم يترك لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عذراً فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام وهل سمعت باحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته ؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يصفه القرآن (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى). وانما المسألة ابعد من ذلك انه يريد ان ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم وان كان الامر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالامة أبت الا ان يوالي الحجج على هذه الامة وينصب لها العلامات تلو العلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس.
ولانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم ان اساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص -وهو الشكل الاول من التخطيط- يُؤوَّل ويُحرَّف وهذه الثلة المخلصة -وهو الشكل الثاني- يُضيَّق عليها وتحبس انفاسها فابو ذر ينفى الى الربذة حتى يموت غريباً وعمار وعبد الله بن مسعود يداس بطنه وتوجئ عنقه وام ايمن امراة اعجمية لا تقبل لها شهادة والحسن والحسين طفلان صغيران وعليّ يجر النار الى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة، والزهراء (عليها السلام) تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد ايام وهكذا …، لذا كان الشكل الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الاجيال، تملأ افواه مزوري الحقائق بالتراب.
ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) واذا بالامر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (عليه السلام) وهو يعلم ان محل ابن ابي طالب منها محل القطب من الرحى ينحدر منه السيل ولا يرقى اليه الطير(339).
وانه لعجيب فعلاً ولو لم يكن حقيقة ثابتة اجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به وقد اوجدت في عين امير المؤمنين قذى وفي الحلق شجى وفي القلوب جمرة لا تطفأ الى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعم الحكم الله والخصم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول الامام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد: (ان حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين وقد انكر حق جدي امير المؤمنين وعليه سبعون الف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم).
وعلى اية حال فليست هذه الحالة فريدة في التاريخ بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية وما دامت النفس الامارة بالسوء الميالة لاتباع الهوى واشباع الشهوات والنـزوع الى التسلط وحب الجاه وقد عشنا مثلها فالى الله المشتكى.
والذي اريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وان كان هذا مطلباً مهما لكني بالاضافة اليه اقول ان العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الانبياء ليس فقط في الحقوق والامتيازات وانما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات خصوصاً وقد امرنا بالتأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).
ومن تمام التأسي والوراثة اعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً او اكثر وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الالهي الشريف واي تقصير فيه غير مغتفر لا عند الله سبحانه ولا عند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا اوليائه العظام ولا عند المجتمع وبعد ان يطمأن الى اكمال اعداد البديل علمياً وفكرياً واخلاقياً وعقائدياً -وهي المقومات الاربعة لشخصية العالم الديني بل كل مسلم واعٍ مخلص- يجب ان يشير اليه صريحاً وهذا هو الشكل الاول من التخطيط.
واما الشكل الثاني فيؤدى بالاشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمأن الى استقامتهم على الطريقة وانصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الامور حتى يرشدوا المجتمع باخلاص وبلا لبس واجمال وغموض الى المرجع البديل.
واما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط فمنها شروط ثابتة وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العلمية ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. وهذا الكلام كله على نحو الاشارة والاجمال وللتفصيل محله المناسب.
هذا بالنسبة لتكليف المرجعية وفي مقابله توجد مسؤولية على الامة يجب ان تعيها وتؤديها وهي مطالبة المرجع بتعيين البديل فاذا عينه كان من واجبهم الالتفاف حوله والاشادة به ودلالة المجتمع عليه وقد تكاملت هذه التربية عند اصحاب الائمة (عليهم السلام) فكانوا يسألونهم (مَنْ الحجة بعدك) و(الى من المفزع اذا حدث حادث) وهكذا واذا ذهب امام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الامامة بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي امام(341) كامتحانهم لجعفر اخ الامام العسكري (عليه السلام) الذي ادعى الامامة بعد اخيه (عليه السلام).
ماذا خسرت الامة حينما ولت امرها من لا يستحق(342)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا ان هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة امره والقوّام بقسطه ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والائمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.
كانت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم امس وكانت رزية حقاً اذا انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الامة بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الامام والخليفة من بعده واعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين لذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لاهل بيته: (انتم المستضعفون بعدي) واوصى امته بهم خيراً ولو كان يعلم ان الامر يؤول اليهم لما احتاج الى الوصية بهم وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يعبر فيه عن المه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (ان حق الرجل يثبت بشاهدين وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)، ولا أريد ان أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين فلهذه المناقشة محل آخر لكنني اعتقد ان أحد هذه الاسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع فقد فهموه على انه نزاع بين شخصين هما علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن نازعه الامر فهم لا ينكرون فضل علي (عليه السلام) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجاعته وفنائه في الله لكنهم يرون ان المقابل ايضاً من السابقين إلى الاسلام وثاني اثنين اذ هما في الغار وصهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدري واحدي بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بامير المؤمنين أو يقتربوا منه (عليه السلام) وازاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق ان ينشق المسلمون الى طائفتين عظيمتين ولا جدوى في البحث فيها فقد اكل عليها الدهر وشرب.
ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق لان الخلاف ليس بين شخصين وانما بين مبدأين وخطين كان علي (عليه السلام) رمز الاول ومنافسه رمز الثاني:
الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والارض العالم بخفيات الامور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون واختاره للامة لتصل الى كمالها المنشود وبلّغه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير يقف في اول الخط علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الائمة الطاهرون الذين اطبقت الامة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الالهية ومن بعدهم العلماء العارفون الاتقياء الصالحون حتى يرث الله الارض ومن عليها.
الثاني: خط يصنعه البشر باهوائهم واساليبهم الشيطانية من قهر واذلال أو اغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة وكان الآخر راس هذا الخط فقد اختارته قريش -كما يقول الخليفة الثاني- وليس الله الذي اختاره ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولتزكوا وانما لاتأمّر عليكم، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي احرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الاخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الاعراض ونشروا الفساد وضلّوا واضلّوا (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) وعندما تعرض المقارنة بهذا الشكل ولو استوعبها الصحابة والاجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الايمان بصحة الخط الاول على انهم غير معذورين من اول الامر لان القرآن صريح (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) وقال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر ان يسلموا مقابل ان يجعل لهم الامر من بعده فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس الامر لي وانما هو بيد الله يختار له من يشاء).
ومحل الشاهد اني اعتقد ان طرح الموضوع بهذا الشكل يكون اجدى واوضح ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً وهو ماذا خسرت الامة بتضييعها وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده ؟ وماذا ترتب على هذا الاهمال من نتائج سلبية ؟ وحينما اتناول هذا البحث فاني لا اريد فقط ان اناقشها كقضية تاريخية وان كانت من الاهمية بمكان لابتناء اصل من اصول الدين وهو اصل الامامة عليها ولكن الذي اريده هي الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة لان الامامة بالحمل الاولي وان كانت مختصة بالاسماء المعينة الا انها بالحمل الشايع اعني النيابة العامة عن الامام وولاية امر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة مستمرة الى ان يرث الارض ومن عليها الامام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فاذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها باذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الامة امرها الى من لا يستحق فيكون من الضروري الالتفات اليها فنعود الى اصل السؤال وهو ماذا خسرت الامة عندما ولت امرها غير صاحب الحق الشرعي وماذا ترتب على ذلك من نتائج سلبية:
النتيجة الأولى: تصدي اناس غير مؤهلين لامامة الامة فمن المعلوم ان اية رسالة واية ايديولوجية -بتعبير اليوم- لا بد ان يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وافكاره وعلاقاته ولم يكن القوم كذلك وانما هم اناس عاديون كبقية افراد المجتمع ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسدها في حياته خيراً منهم وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ويتمردون على اوامره حتى آخر حياته بتخلفهم عن جيش اسامة وعدم تلبية امره (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس. وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم حيث قضوا اكثر ع