إلا لتستكمل بالشهادة والفداء، شرف الانتماء إلى بيت القرابين والشهداء..!!! * * * وبعد.. فقد آن لبطل السلام أن تزف إلى الجنة روحه. ولكن لا تزال أمامنا وصية يريد أن يوصي بها، فقد كان شوقه عظيما لأن يدفن مع جده الرسول.. وكان قد استأذن (السيدة عائشة) في ذلك، فأذنت له: والآن، وشمس حياته تميل للغروب قال لأخيه الحسين: (إذا مت فادفني مع النبي، فإني كنت قد طلبت ذلك من عائشة وأجابتني.. وإذا عارضك بنو أمية، فلا تراجعهم، وادفني في البقيع)..!! ومن أسف أن الذي توقعه قد حدث.. فرفض مروان بن الحكم أمير المدينة من قبل معاوية أن تحقق رغبة الشهيد المسجى.. وأنزل إلى الشارع حرسه المسلح في خسة ودناءة تليقان بمروان، وبمن على شاكلة مروان..!! ورأى (الحسين) رضي الله عنه ذلك، فانتضى سلاحه، وصمم على إنفاذ وصية أخيه.. لكن نفرا من الصحابة الأجلاء ذكروه بالفقرة الأخيرة من الوصية وحملوه عليها: (فإن منعوك، فلا تراجعهم، وادفني في البقيع).. وشرف ثرى البقيع بهذا الضيف المجيد.. وآبت إلى وطنها في جنات الخلد، روح السيد.. وروح الشهيد!!
(٦١)
ومرض (الحسن) عليه السلام مرض الموت. وبقيت أصالة فطرته وإيمانه متألقة، حتى تحت وطأة هذا الاغتيال الخفي، والسقم الفاجع الأليم!! ففي علته هذه، أخذ أخوه (الحسين) يلح عليه كي يبوح له بمن يعتقد أو يظن أنه صاحب هذه الجريمة النكراء. لكن حفيد الرسول العظيم، لا ينسى مبادئه تحت سحق آلامه، فيسأل أخاه: (وفيم سؤالك عمن سقاني السم..؟ أتريد أن تقاتلهم..؟ لا.. إني أكل أمرهم إلى الله..!! انظروا.. إنه حتى في غمرة الموت لا تتخلف إرادته عن مبادئه، ويبقى رجل الأناة والسلام فيه، متفوقا على الألم، وعلى الكراهية.. بل وعلى حقه العادل في القصاص المشروع.!! وراح يملأ أيامه الباقية بالصلاة والدعاء، مرددا منها ذلك الدعاء الذي كان جده الرسول قد علمه له منذ شبابه. (الله اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك، تقضي، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا، وتعاليت). لقد هداك الله – أبا محمد – وعافاك، وتولاك، وبارك لك فيما أعطاك.. وما تركت مقاديرك العظيمة جرعة السم تأخذ طريقها إليك،
(٦٢)
الفصل الرابع العاصفة تزأر
(٦٣)
خلص الملك لمعاوية على النحو الذي أراد.. وبتنازل ” الحسن ” له عن الخلافة سكنت كل الرياح التي كان يخاف هبوبها على عرشها وحكمه.. فراح يصرف شؤون إمبراطورية من أقوى إمبراطوريات عصره كما يهوى وكما يشاء، وراح يستخدم مزاياه الشخصية وكفايته، كما يستخدم كفاية الذين حوله أبرع استخدام. راح يوجه كل المزايا وكل الكفايات نحو غاية واحدة هي دعم سلطانه. فحلمه، ودهاؤه وعطاؤه.. كل ذلك يسع الناس ما تركوه وسلطانه. فإذا هدد هذا السلطان شئ، فالحلم والدهاء، والصبر، والعطاء.. أسلحة تنزل إلى المعركة لتدفع عن السلطان مخاوفه.. فإذا عجزت، فالسيف والقتل بغير إبطاء!! وإن له في ذلك عبارة مأثورة: (إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا)..! ولطالما يحدثنا التاريخ عن قوم كانوا يجبهونه بقوارص الكلم في وجهه وأمام الناس، فلا يزيد على أن يضحك. ثم يضحك.. ثم يجزل لهم العطاء!!