لقد خُلّدت قصص كثيرة قي التاريخ العربي عن العشق والحب والهيام، كقصة قيس وليلى، وعنترة وعبلة، وكليوبترا ومارك أنطونيو… وغيرهم. وقرأنا عن تلك القصص في مدارسنا ووسائل إعلامنا المختلفة، لكن تمَّ طمس قصة تحمل أجمل معاني الأخوة الحقيقية على امتداد التاريخ، كان من المفترض نتعلم منها ونقتدي بها، ألا وهي قصة سيدنا العباس (رضي الله عنه) مع أخيه غير الشقيق الحسين (رضي الله عنه).
عندما توفيت السيدة فاطمة – عليها السلام – قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لأخيه عقيل، ابحث لي عن امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها؛ فتلد لي ولداً يكون شجاعاً وعوناً لأخوته. فكانت تلك السيدة أم البنين السيدة فاطمة العامرية، أم سيدنا العباس. فكما وقفت هي لخدمة الحسن والحسين وزينب، وقف العباس لخدمة أخيه الحسين وحمايته طوال حياته إلى أن استشهدا معاً.
إن أخوة العباس النبيلة وتربيته الصالحة، هي التي دفعت الحسين لاختياره لحمل لوائه في كربلاء، فكان يشعر بالراحة النفسية وهو بجانبه. ولم تكن علاقة العباس الحميمة بأخيه الحسين فقط بل بالحسن وبزينب التي كان لها سنداً وحارساً ومعيناً.
وما جعلني أسرد وباختصار شديد هذه العلاقة الحميمة بين الأخوين غير الشقيقين، كثرة ما واجهت من قضايا في المحاكم حول خلافات الأخوة بسبب المال والميراث أو لأسباب شخصية أو بسبب التفكك الأسري. أخوة يتقاتلون في ما بينهم لدرجة القطيعة، وأخوة لا يدخلون بيوت أخوتهم، وأخوة إن تصادفوا في الطريق لا يطرحون السلام على بعضهم. وأخوة لا يزورُ أحدهما الآخر إلا في الأعياد والمناسبات، وإن حلّت بأحدهم مصيبة لا يسأل أحد عن الآخر.
لو أن كل أخ يهتدي بالعباس، ويتعلم من سيرته، لما رأينا قطع الأرحام الذي بدأ ينتشر في مجتمعاتنا… ولو أنهم طبقوا جزءاً يسيراً من أخلاق العباس، لعاش جميع الأخوة بأمان وسعادة واستقرار أسري.
فقد قيل إن العباس لم يخاطب الحسين يوماً ما، يا أخي، إلا مرّة واحدة في يوم عاشوراء؛ عندما هوى من جواده إلى الأرض مصاباً مقطّع اليدين، وهي لحظات حنَّ فيها إلى رؤية أقرب الناس إليه، قبل أن يودع الدنيا. وفي تلك اللحظات المؤلمة للعباس، نادى الحسين بقوله «أدركني يا أخي». فأسرع الحسين إليه يمسح التراب والدماء من على وجهه وعينيه. وألقى العباس نظراته الأخيرة على أخيه الحسين، ليلفظ بعدها أنفاسه الأخيرة في أحضانه. لقد ودّعه في موقف يرسم ويحكي اسمى معاني الأخوة والولاء والمحبّة. وقد بكى عليه الحسين بكاءً شديداً، وقال قولته الشهيرة: «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي».
هذه هي الأخوة الحقيقية التي يجب أن نحتذي بها… فقد وقف العباس مع أخيه الحسين في كل اتجاهاته ومواقفه وأشد الظروف وأصعبها، وكان وفياً له، فعندما ألمّت بالعباس الشدائد والمصائب، يوم الطف لم يسخط أو يجزع أو يتراجع بل كان وفياً وصادقاً مع أخيه… وقف معه ولم يفارقه حتى قطعت يداه واستشهد في سبيله، ليرتقي إلى قمة المجد والشهامة، لتخلد حكايته كأجمل حكاية أخوين على امتداد التاريخ.