الرئيسية / الاسلام والحياة / أحاديث رمضانية – في ضيافة الله

أحاديث رمضانية – في ضيافة الله

الصوم عبر التاريخ

كان الإنسان عبر التاريخ بحاجة ماسة إلى أن يمرّن نفسه ويربيها لمواجهة الصعاب والمشاكل. ففي أنظمة الحكم المتفاوتة وعبر القرون المديدة، كان الناس يهتمون بتربية رجال أفذاذ، مهمتهم مواجهة الأعداء في المعارك، فكانوا يدربونه جسدياً وينمونه معنوياً، وذلك عبر منعه وإبعاده عن الذات العاجلة، وفرض الصيام عليه لفترات معيّنة، ليحرز أكبر قدر ممكن من الصبر على العطش والجوع والسهر والابتعاد عن الماء والحمّام وما أشبه ذلك، نظراً لما تتطلبه الحروب أو بعض المصاعب من قدرة خاصة على التحمل، ولما تمتاز به ظروف الحروب من نقص في اللذات المتوفرة في حالة السلم.

وكذلك الأمر بالنسبة لتأريخ الأديان التي كانت تفرض على أتباعها صوراً وأشكالًا من التدريبات الجسدية والروحية؛ فمثلًا كان بنو إسرائيل يؤهلون من يريد التفرغ للعبادة والتبتل والرهبنة عن طريق الصيام مدة طويلة عن الطعام والشراب والكلام أيضاً، ليكون ذا مناعة عن الرجوع.

كما كانت أقوام وديانات أخرى تفرض على نفسها أنواعاً أخرى من الصيام، كالصوم عن اللحم وما يرتبط بالحيوانات، أو الصوم عن النوم، فيسهرون ويسهرون حتى يتأكدوا من هزيمة النوم ..

وكان هناك صوم الوصال؛ أي الصوم المتواصل حتى تحقيق أو تحقق الهدف المقصود منه، كأن تمطر السماء، أو يرجع الغائب ..

لكن الإسلام جاء برسالة تنظيم لهذه الأنواع من الصيام، والاتجاه به نحو هدف سامٍ ومقدس، وهو إحراز التقوى والتقرب إلى الله تعالى؛ لأن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات، فكان طبيعياً وضرورياً أن يأتي التشريع الأكمل والأنفع للإنسان.

فكان الصوم في بدء الشريعة الإسلامية ممتداً إلى الليل، مصحوباً ببعض التحريمات، لكن الإسلام أهلّ فيما بعد ما حرّم في الليل، وجعل مدة الصوم إلى الليل فقط.

إذن؛ فإن الصوم لم يكن بالأمر الغريب على أذهان الناس عبر التأريخ، وكان يأخذ بين الحين والآخر صورة من الصور، وإنما كان دور الإسلام هو تنظيمه وإضفاء الحالة الهدفية التي يريدها الله عليه، فأصبح التشريع الأيسر والأفضل، حتى اعتُبر من يترك هذه الفريضة مع يسرها وسهولتها التي تمتاز به، اعتبر من الأشقياء بحق، لأنه لا يجد لنفسه عذراً سوى ضعف الإرادة وهجر الخير واستحباب الدنيا بتوافهها على الآخرة بعظمتها وجلالها ..

من أجل التقوى

يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة/ 183)

نصوم بين طلوع الفجر وغروب الشمس، فنكفّ منافذَ أجسامنا عما أوجب الله سبحانه وتعالى الاجتناب عنه من الطعام والشراب والشهوة وما أشبه، هذه حدود الصيام الظاهرية ..

ولكن؛ هل أن كل صائمٍ تصدق عليه هذه التسمية؟ وهل أن الصائمين كلهم في مستوى واحد؟ وهل أنك ترضى لنفسك أن تكون في المستوى الأدون؟! لا أتصوّر أنك كذلك، ولا أنا، ولا كل صائم، فالجميع يبحثون في حياتهم عن الأفضل والأرقى، سواء في أمور الدنيا أو الآخرة ..

غير أنه يبقى من الصائمين من لا حظّ له من صيامه سوى الجوع والعطش، وليس الصوم بالنسبة له إلّا ساعات من الإمساك عن الأكل والشرب .. في حين أن من الصائمين ثلّة تتقرب بصيامها إلى الله حتى تعتق رقابها من النار ويُغفر لها وتوجب لها الجنة، وبين هذا وذاك درجات من الصائمين ..

إن أول درجة من درجات الصيام هي أن تصوم وتصوم معك كل جوارحك وأفعالها. فلا تصوم عينك عن الحرام فقط، بل حتى عن

الشبهات، ويصوم لسانك فيكفّ عن الكذب والتهمة والافتراء والغيبة وغيرها .. وقد تواتر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر لإحدى الصائمات بطعام، فتعجبت قائلة: يا رسول الله إني صائمة، فقال لها: كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس، في إشارة إلى ذهاب ثوابها لفعلها الغيبة المنكرة ..

فالصوم ليس هو الصيام الظاهري فحسب، وإنما هو كما قدّمنا امتناعً عام عن كل المحرمات الظاهرية والباطنية.

إن من الناس من تسوء أخلاقه أثناء الصيام، في حين إن الصوم يدعونا إلى البشاشة والطلاقة والتطور الروحي، لما فيه انعتاق عن المادة ..

وهناك درجة أسمى من الصوم العادي، وهو أن يصوم المرء بقلبه، حيث يكون معراجاً للحب، ومهبطاً للملائكة، ومنزلًا للرحمة الإلهية بدلًا من أن يكون مهوىً للشياطين، ومركزاً للوساوس والأحقاد والعصبيات والحميات الجاهلية الباطلة.

بلى، إن الصوم قد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً، ولكن صيام شهر رمضان واجب على كل إنسان مكلّف، وإن أفضل الصيام هو صوم المنافذ

والجوارح والقلب، وأن تكون النية في ذلك كله منعقدة على العزم على أن يكون الصوم معراجاً إلى بلوغ مرحلة التقوى والورع، لأن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الفريضة الشريفة هذه إلا لنكون من المتقين كما صرحت به الآية الكريمة بصورة مباشرة.

شاهد أيضاً

مراسم الاعتكاف تُقام حالياً في أكثر من 60 دولة حول العالم

رئيس اللجنة المركزية للاعتكاف: مراسم الاعتكاف تُقام حالياً في أكثر من 60 دولة حول العالم. ...