الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 178 – 179
5 نوفمبر,2019
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
1,670 زيارة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
بيان
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، و أما غيرهم من أهل الذمة و غيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.
و نسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: «إن النفس بالنفس»: المائدة – 48، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد و لا رجل بمرأة.
و بالجملة القصاص مصدر قاص يقاص من قص أثره إذا تبعه و منه القصاص لمن يحدث بالآثار و الحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.
قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء، المراد بالموصول القاتل، و العفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشيء هو الحق، و في تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، و في التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة و الرأفة و تلويح إلى أن العفو أحب.
قوله تعالى: فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و على القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.
قوله تعالى: ذلك تخفيف من ربكم و رحمة، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.
قوله تعالى: و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون، إشارة إلى حكمة التشريع، و دفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو و الدية و بيان المزية و المصلحة التي في العفو و هو نشر الرحمة و إيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، و حاصله أن العفو و لو كان فيه ما فيه من التخفيف و الرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو و الدية و لا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب و قوله لعلكم تتقون، أي القتل و هو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
و قد ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: و لكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها و إيجازها و قلة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، و أسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه، و رقة الدلالة و ظهور المدلول، و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص تعجبهم بلاغتها و جزالة أسلوبها و نظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع و قولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، و أعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع و نفت الكل: و لكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا و أسهل في التلفظ، و فيها تعريف القصاص و تنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص و أعظم و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و هي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، و هي مشتملة على أشياء أخر غير القتل يؤدي إلى الحياة و هي أقسام القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمنة للحث و الترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا و ثروة، و هي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: و لكم.
فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، و ربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها و غلبتك بهور نورها – و كلمة الله هي العليا.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى الحر بالحر، قال: لا يقتل الحر بالعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل.
و في الكافي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): قال سألته عن قول الله عز و جل فمن تصدق به فهو كفارة له، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا، و سألته عن قوله عز و جل: فمن عفي له من أخيه شيء – فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي إليه بإحسان، و سألته عن قول الله عز و جل: فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، قال هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز و جل. أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.
بحث علمي
كانت العرب أوان نزول آية القصاص و قبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد و إنما يتبع ذلك قوة القبائل و ضعفها فربما قتل الرجل بالرجل و المرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي و ربما قتل العشرة بالواحد و الحر بالعبد و الرئيس بالمرءوس و ربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.
و كانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي و العشرين و الثاني و العشرين من الخروج و الخامس و الثلاثين من العدد، و قد حكاه القرآن حيث قال تعالى: «و كتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص»: المائدة – 45.
و كانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو و الدية، و سائر الشعوب و الأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة و إن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
و الإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات فأثبت القصاص و ألغى تعينه بل أجاز العفو و الدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل و المقتول، فالحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.
و قد اعترض على القصاص مطلقا و على القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها و إجراءها بين البشر اليوم.
قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان و ينفر عنه طبعه و يمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة و خدمة للإنسانية، و قالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، و قالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة و حب الانتقام، و هذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة و يؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، و ذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن و الأعمال الشاقة، و قالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية و يعالج فيها، و قالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، و لما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، و من اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، و من الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة و النتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين و فيه الجمع بين الحقين حق المجتمع و حق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.
و قد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»: المائدة – 32.
بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان و إن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها و رفع حوائجها التكوينية، و هذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان و لا الهيأة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان و طبيعته و ليس بين الواحد من الإنسان و الألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان و وزن الواحد و الجميع واحد من حيث الوجود.
و هذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى و أدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، و تطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت و إلى أي غاية بلغت حتى القتل و الإعدام، و لذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله و لا ينتهي عنه إلا به، و هذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم و حريتهم و قوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، و يدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل و يتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا و هلاك الحرث و النسل و لا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات و آخرون يتجهزون بما يجاوبهم، و ليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع و حفظا لحياته و ليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع و الإفناء و الإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، و هي الاجتماع المدني و لا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ و ما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل و لم يفعل و لا تجوزه فيمن هم و فعل؟ و ما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره و لكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما و تنقض حكم نفسها.
على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها و لا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني و وزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه و هتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، و أما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين و لو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها – فضلا عن التفوق – الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص و أمة معينة، و الملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها و حسن صنيع حكوماتها و دلالة الإحصاء في مورد الجنايات و الفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة و أن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل و الفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ و إذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، و الإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية و أثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
و يلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
و أما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك و الدليل عليه ما نشاهده من حال الناس و أرباب الفجيعة و الفساد فلا يخوفهم حبس و لا عمل شاق و لا بصدهم وعظ و نصح، و ما لهم من همة و لا ثبات على حق إنساني، و الحياة المعدة لهم في السجون أرفق و أعلى و أسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم و لا ذم، و لا يدهشهم سجن و لا ضرب، و ما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين – و الأغلب منهما الثاني – لا يكون إلا القصاص و جواز العفو فلو رقت الأمة و ربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو و الإسلام لا يألو جهده في التربية و لو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها و فسقت، أخذ فيهم بالقصاص و يجوز معه العفو.
و أما ما ذكروه من حديث الرحمة و الرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة و لا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي و العاصي المتخلف المتمرد و المتعدي على النفس و العرض جفاء على صالح الأفراد، و في استعمالها المطلق اختلال النظام و هلاك الإنسانية و إبطال الفضيلة.
و أما ما ذكروه أنه من القسوة و حب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل و الحق ليس بمذموم قبيح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة و سد باب الفساد.
و أما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار و نعم العذر الموجبة لشيوع القتل و الفحشاء و نماء الجناية في الجامعة الإنسانية، و أي إنسان منا يحب القتل و الفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي و عذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية و رأفة و أن القوة الحاكمة و التنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
و أما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ و ليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، و قد مر أن الفرد و المجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.
2019-11-05