الرواية الثّانية: العيادة
من ذكرياته، ويُسكّن قلبك. ولقد أخبرتِ والدتك بأمنيتك هذه، لكنّها طلبت أن لا تُحدّثي بهذا الكلام لأنّه لا يحصل!.
لقد جلستِ على الكرسيّ المتحرِّك، ووضعتِ صورة أبيك على حضنك، تتذمّرين من غيابه. في هذه الأيام الّتي بتِّ فيها على الكرسي المتحرِّك صار قلبك أكثر شوقاً لأبيك.
“أبي… أبي… أبي… قبل ليالٍ عدّة عندما كانت أيام محرّم، تعلّمت شعراً أُردّده كثيراً في هذه الأيام. كنتُ مع والدتي نمرّ في الشارع حين وصل إلى مسامعي صوت بكاء ورثاء. لقد كان مجلس عزاء، طلبت من والدتي أن تقف قليلاً حتى أستمع إلى صوت الخطيب، كان رجلاً يُلقي شعراً عن لسان رقيّة ابنة الإمام الحسين. وفي قصيدته بيت من الشعر، لمّا سمعته أجهشت بالبكاء: ذَهَبْتَ ولم تتساءل نفسك، ألا تريد ابنتك أباً؟!
الآن، أبي العزيز والحنون والمضحّي، ابنتك الصغيرة أيضاً تقول لك ذلك: ذهبت ولم تتساءل نفسك، ألا تحتاج ابنتك إلى أبٍ؟”.
* * *
كان عمرك شهرَيْن عندما استشهد أبوك، كنت أنت وأمّك وأختك وأخوك في طهران، وكان أبوك وحده في الأهواز. كانت الأيام الأولى للحرب وقد غرقت الأهواز بوابل القصف الشديد للمعتدين العراقيّين. كان مهندس كهرباء ومسؤول مديريّة الكهرباء في كلّ الأهواز. في تلك الأيام، كان معظم العمّال قد تركوا محالّ عملهم، لكنّ والدك لم يفعل. كان يقول إنّ الناس بحاجة إلى وجوده أكثر في هذه الأوضاع. وقد بقي في الأهواز. كان كلّ يوم يذهب إلى مكان عمله عند الساعة السابعة صباحاً. ومع أنّه كان المدير المسؤول، إلا أنّه كان يُشمّر عن كمّيه ويُباشر بإنجاز الأعمال بنفسه حتى الثانية عشرة ليلاً. لم يكن لديه فرصة للمجيء إلى طهران لرؤيتك أنت التي ولدتِ للتوّ. كان فقط قد طلب من والدتك أن تُسمّيك رودرينه وكان اسمه يِرمي. والدك ولد في اروميه، ويرِمي باللغة الآذريّة تعني “عشرون”!.
يوم الخميس في التاسع من شهر تشرين الأول سنة ثمانين، كان والدك بالقرب من مكان عمله عندما راحت المقاتلات العراقيّة تصبّ قذائفها على رؤوس الناس كما يُنثر السكّر والحلوى على رأسَيْ العروسَيْن. يتمدّد والدك على الأرض على أمل أن ينجو، لكنّ إحدى القذائف سقطت بالقرب منه، فأُصيب بعشرات الشظايا في أحد طرفَيْ بدنه. ولما أوصلوه إلى
54
41
الرواية الثّانية: العيادة
المستشفى كان لا يزال حيّاً وواعياً. لقد أتى لمعاينته الدكتور علوي صديقه الحميم، وبسرعة أمر الدكتور بتجهيز غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية له، لكن قبل العمل الجراحي استجمع والدك كلّ قواه وقال جملة واحدة للدكتور علوي: “انتبه لأولادي وقل لهم إنّني أُحبّهم كثيراً”.
كانت هذه آخر جملة قالها والدك في هذه الدنيا.
أول وآخر مرّة رأيتِ فيها هذا الرجل لم تكوني قد أتممتِ بعد التاسعة من عمرك. كانت ليلة عيد الميلاد، وكان قد أتى ليُبارك لكم حلول العيد، ويسأل عن أحوالكم ويسمع عن والدك ويتحدّث إليكم. عندما أتى كنت أنت وأمّك وحدكما في المنزل، فقط أنتما الاثنتان. رامونا ورام ايل لم يكونا في المنزل. أنت لا تذكرين أين كانا ولماذا لم يكونا. لطالما كنتِ قد رأيتِ وجه الرجل في التلفاز، فذلك الرجل الذي أتى إلى منزلك كان رئيس جمهورية إيران، السيّد الخامنئي.
لا تذكرين شيئاً من ذلك اللّقاء. فقط تذكرين أنّك ذهبتِ وألصقتِ نفسك به، وهو أيضاً مسح بيده على شعرك مسحة أبويّة واحتضنك. لقد جلبوا لك صورتَيْن عن ذلك اللقاء، صورتَيْن كلّما نظرتِ إليهما تعود بك الذكرى إلى تلك الليلة. كان الرجل يمسح على رأسك وكأنّه أبوك.
55
42
الرواية الثّانية: العيادة
ومهما كانت أمّك تقول: يا ابنتي! إنّه قائد بلدنا ولا وقت لديه ليأتي للقائك.، لم تكوني لتقتنعي. لقد ضغطتِ عليها إلى درجة أنّها رضخت وقبلت أن تُهاتف مكتبه وتنقل بكلّ خجل وحياء طلبك.
وتمضي أسابيعٌ عدّة، ولا يلوح في الأفق خبر. ومهما تؤكّد أمّك أنّه لا ينبغي أن تتوقّعي مجيئه، ما من فائدة. لقد وقع في قلبك أنّه سيأتي لرؤيتك في إحدى هذه اللّيالي الشتويّة الطويلة ويسأل عن حالك.
صباح اليوم، اتصلوا هاتفيّاً بوالدتك وسألوا عن حالك وأحوالك، وتُجيبهم أمّك، ويطلبون الإذن بالمجيء اللّيلة ليروك عن قرب. تُفكّرين بينك وبين نفسك أنّ هذا الاتصال حتماً من قِبَل “السيّد”، وأنّهم يطلبون رؤيتك لينقلوا له حالك. بقيتِ إلى الليل على الكرسي المتحرّك تدورين في الغرفة ولا يقرّ لك قرار. ومع أنّك كنتِ تعلمين أنّ الّذين سيأتون هم ممثّلو القائد، ولكن لم يُطاوعك قلبك. لقد قلبتِ خزانة ملابسك رأساً على عقب لترتدي الثوب الأنسب وتضعي منديلاً جميلاً على رأسك. وضاقت أمّك ذرعاً بتصرّفاتك. هي لا تعلم ماذا تفعل بأمنيتك هذه. لقد اغرورقت عيناها بالدموع، وارتفعت يداها إلى السماء أنْ إلهي، هذه المكسورة القلب ابنتي، لا تُخيّبها!.
صوتُ الجرس يُسمع، وبعد فتح باب المنزل يدخل عدّة أشخاص ويبدؤون بالسؤال عن
56
43
الرواية الثّانية: العيادة
أحوالك. تمضي عدّة دقائق على مجيئهم، وفجأة يصدر عن جهاز اللّاسلكي مع أحدهم صوت ما. يختلي في زاوية ويتحدّث بهدوء عبر اللّاسلكي ثمّ يعود ويقول: “لم يكن القرار أن نُقدّم تقريراً حول وضعك للقائد، دقيقة أو دقيقتان، ويحضر شخصيّاً إلى هنا وترينه عن قرب..
لم تعودي تسمعين صوت الرجل. مضطرب قلبك من شدّة الفرح، والشوق أغرق عينَيْك بالدموع. تُحدّقين في صورة أبيك: “بابا عزيزي، شكراً لأنّك تُفكّر في ابنتك”.
قبل أن يدخل السيّد الخامنئي إلى المنزل، تأتي “رامونا” أختك الكبرى، المعالِجة الفيزيائيّة، تضمّك بقوّة وتطبع قبلات عدّة على وجهك. عندما زاركم السيّد الخامنئي أول مرّة لم تكن هي في المنزل. وطوال هذه السنوات لطالما كانت تتحسّر على تلك اللّيلة. كانت تعلم أنّه لم يكن أمامها فرصة ثانية لرؤية الإمام الخامنئي عن قرب، وفي منزلكم أيضاً!.
كانت تقول لك دوماً: “هنيئاً لك، كنت موجودة تلك اللّيلة وجلستِ إلى جوار “السيّد””. كنتِ تظنّين أنّها تُجاملك بقولها فهي لم تكن حزينة إلى هذا الحدّ من عدم حضورها. لكنّك الآن تعرفين من حالها أنّها كانت صادقة، حقّاً كم كانت تتحسّر وكم كانت حزينة على حرمانها من ذلك اللّقاء. رامونا اللّيلة وبعد ثلاثة عشر عاماً على ذلك اللّقاء، وبفضل أمنيتك أنت سوف ترى السيّد الخامنئي عن قرب.
57
44
الرواية الثّانية: العيادة
أوضاع والدتك تستحقّ المشاهدة أيضاً. هي لم تكن لتُصدّق أبداً أن يُخصّص السيّد الخامنئي وقتاً للّقاء بك. قائد الثورة في لقاء مع عائلة آشوريّة؟! وللمرّة الثانية أيضاً! أمرٌ لا يُصدّق أبداً. لقد وضعت صليب عقدها مقابل شفتَيْها وراحت تُناجي، تشكر مريم المقدّسة على عنايتها.
وعمّتك حاضرة أيضاً في هذا المجلس. لقد وصلت قبل عدّة ساعات من همدان. أتت لتراك فكان هذا اللّقاء من نصيبها.
كانت حال كلّ فرد من أفراد هذه الأسرة جديرة بالمشاهدة لحظة دخول السيّد الخامنئي إلى المنزل. وضعت أمّك يدها على صدرها وقد اغرورقت عيناها بالدموع. ألصقت عمّتك يدَيْها ببدنها وطأطأت رأسها احتراماً. وأنت، بمساعدة يدَيّ كرسيّك المتحرّك، بذلتِ كامل الجهد لتقفي وطبعتِ بسمة عريضة على وجهك.
– السلام عليكم.
تقول أمّك بصوت متهدّج: إنّها منّة كبرى علينا أن شرّفتمونا.
يدور القائد بناظرَيْه ويراكِ واقفة أمامه احتراماً، يتقدّم نحوك. هذه أول مرّة تقومين فيها عن الكرسي المتحرّك في هذَيْن الأسبوعَيْن وتقفين.
58
45
الرواية الثّانية: العيادة
– حسناً، هذه هي الابنة المريضة؟
تؤيّد والدتك حدس القائد وتُسلّمين أنت عليه.
للحظات طوال، يُديم النظر إليك بوقار وحنان والبسمة لا تُفارق شفتَيْه. أنت أيضاً تنظرين إليه، بكامل الامتنان، وبعد تأمّل طويل يسأل:
– أصبحتِ أفضل إن شاء الله؟
تهزّين رأسك علامة الرضى وتقولين: نعم، أنا بخير .
– الحمد لله، آمل أن تكوني دائماً بخير.
” أبي… أبي… أبي… أنت لا تعلم ما الّذي انتابني عندما سألني عن أحوالي، وكأنّني بتُّ أسعد بنات الدنيا. بابا حبيبي! ليتك كنتَ معي ورأيت.. ولعلّك كنتَ معي وترى”.
يسأل السيّد الخامنئي أيضاً عن حال أختك، ثمّ يدخل غرفة الضيافة. تجلس والدتك بالقرب منه، وتطلبين من أختك أن تجلب الكرسي المتحرّك إلى حيث تكونين وجهاً لوجه أمامه.
– قُلنا نأتي للقائكم. نزوركم ونعود كريمتكم. أسأل الله أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر والتحمّل وقوّة القلب.
بعد هذه الكلمات، يسأل السيّد الخامنئي والدتك عنك، وكيف جرى ما جرى لك
59
46
الرواية الثّانية: العيادة
هكذا فجأة. وتشرح أمّك للقائد، وتنصتين مطأطئة رأسك بهدوء وحياء إلى حوارهما.
تُعدّ أمّك من ممرّضات الدرجة الأولى القديمات. لقد رآها والدك أصلاً في المستشفى أوّل مرّة، ووقع حبّها في صميم قلبه. وصار عاشقاً لها بكلّ وجوده؛ عاشق السيّدة الممرّضة المحترمة “روني بُت أوشانا”.
لم تترك أمّك التمريض حتّى بعد شهادة أبيك، ورغم مشاكل الحياة وصعوباتها، ظلّت في فترة الحرب، ولمدّة ثمانية أعوام ممرّضة للمصابين المحتاجين إلى العناية الفائقة في مستشفى الإمام الخميني. وبعد الحرب أيضًا اشتغلتْ بتدريس التمريض والرعاية الصحية لتضع تجاربها وخبرتها التمريضيّة الممتدّة عبر السنوات في خدمة الشباب الجامعي.
تُنهي والدتك شرحها، فيدعو لك السيّد الخامنئي ويحكي عن صعوبات الحياة:
– أسأل الله أن يمنّ عليكم بالشفاء الكامل، ويُبعد عنكم الغمّ والاضطراب. طبعًا صعوبات الحياة هذه هي اختبار للإنسان. والاختبارات الإلهيّة، كما الاختبارات الدنيويّة، ليست من أجل أن يفهم الإنسان شيئًا ويعرفه فحسب. الاختبارات الدنيوية هي على هذا النحو. يمتحنون الإنسان في الصف من أجل أن يعرفوا إنْ كان قد درس بشكل جيّد أم لا. ولكن في الاختبارات الإلهيّة توجد أيضًا هذه الفائدة، وهي أنّ الإنسان يعرف نفسه أكثر، ويقف بشكل أفضل على مدى صلابة جوهره الوجودي، ويفهم كم هناك في داخله من استعداد واستحكام وقوّة قلب. هذه الاختبارات هي مثل المسابقات الرياضيّة. المسابقات الرياضية هي اختبار وهي رياضة أيضًا، أي أنّكم في الاختبار الإلهي إذا صبرتم ولم تفقدوا أملكم بالله، فستتقدّمون خطوة نحو الأمام، وتقتربون خطوة نحو الدرجات الإلهيّة والمعنويّة. هذه هي ميزة اختبارات الله تعالى.
وبالطبع، تحصل للبعض مثل هذه الحوادث لكنّهم لا يعتبرون منها ولا تقترب قلوبهم من الله، ولا يعزمون على أن يُسالموا الله ولو مقدارًا قليلًا. العناء الّذي يتحمّله هؤلاء لا يختلف عن العناء الذي يتحمّله الشخص المؤمن، لكن ذلك الشخص المؤمن لديه أوّلاً وسيلة هدوء وتسكين، وثانيًا تصير هذه الحادثة المرّة بنفسها بالنسبة إليه فرصة، سلّماً للارتقاء. وأمّا غير المؤمن فلا، إنّه يُعاني الألم ويتحمّل العناء، لكن من دون أن ينال شيئًا في المقابل.
هذه الحوادث تُصيب الجميع. تُصيب كلًّا بنحو. لقد أصابت ابنتك بنحو، وتُصيب
60
47
الرواية الثّانية: العيادة
الآخرين بنحو آخر. من الممكن أن لا يكون للبعض مشكلة جسمانية، لكن يكون لديهم ابتلاءات وعقبات ومشكلات قلبية وروحية وعصبية، تدفع أحيانًا بعضهم للانتحار! وتدفع البعض الآخر نحو الانزواء والاضطراب المطلق. مثل هذه الأمور أصعب. عندما تنظرين إلى حياة الناس ترَيْن كلّ فرد مبتلًى بأمر بنحو ما. البعض لديه هذه الابتلاءات الجسمانية، مبتلون في أوليات حياتهم، مثلاً لديه مرض ولا يملك وسيلة للعلاج، لديه مرض وليس عنده دواء، لديه مرض وليس لديه ممرّض رحيم.
عندما يقول السيّد الخامنئي هناك مرضى ليس لديهم ممرّض رحيم يشير إلى أمّك بيده، فيشعر قلبك بالدلال لكونك تحظين بأمٍّ مثلها. أنت بالطبع قد افتخرتِ بأمّك دائمًا وفي كلّ مكان. ولكن بسبب ثناء القائد على حسناتها تفتخرين الآن بها بطريقة أخرى، وتفرحين لوجودها معك.
بعد ذلك، يتوجّه السيّد الخامنئي بالخطاب إليكِ. ويتحدّث عن لقائك الأوّل به؛ في عيد الميلاد سنة ثمانٍ وثمانين.
– كنت قد جئت مرّة إلى هنا من قبل، فهل تذكرين ذلك الوقت؟
وهل من الممكن ألا تتذكّري! ذلك اليوم ومع أنّك لا تذكرين شيئًا من أحاديثه، كان أحد أفضل أيّام حياتك. تظهرين أنّك تذكرين جيّدًا بقول “بلى بلى” وهزّ الرأس.
61
48
الرواية الثّانية: العيادة
– كم كان عمركِ حينها؟
بعد تلك الحادثة الشبيهة بالسكتة، لم يُصبح طرفك الأيمن مشلولًا فحسب، بل لسانك أيضًا. لم تكوني قادرة على تلفّظ الكلمات بشكل جيّد. أمّك فقط كانت تفهم جميع كلماتك بشكل جيّد جدّاً.
تُجيبين السيّد الخامنئي: “ثمانية أعوام، تسعة أعوام”، وخوفاً من أن لا يفهم جيّدًا ما تقولين تشيرين بيدك إلى مقدار طولك في تلك الأعوام.
يهزّ برأسه وينظر إليك بابتسامة أبويّة.
– بلى بالطبع، الوقت يمرّ كالبرق. لقد مضى على تلك السنة التي جئنا فيها ثلاثة عشر عامًا.
السيّد الخامنئي يقظٌ جيّدًا. يعلم أنّه إنْ تحدّث معك أنت فقط فمن الممكن أن ينزعج بقيّة الحاضرين فيُحدّثهم. أولاً يتحدّث مع أختك قليلاً بشأن الأعمال الّتي تقوم بها. ثمّ بعد ذلك يتحدّث مع العمّة حول آشوريّي همدان.
لقد حدّقتِ النظر في الطفل الصغير الّذي جلس متربّعًا بشكل هادئ ومؤدّب فوق الكنبة، بالقرب من أختك. إنّه حفيد السيّد الخامنئي! إنّ حضور ومرافقة هذا الصبي لجدّ هو بالنسبة إليك أمر حلو ولافت. تقولين في نفسك: “هنيئاً له؛ أيّ جدٍّ لديه!”
62
49
الرواية الثّانية: العيادة
يسأل السيّد الخامنئي أمّك عن الذهاب إلى الكنيسة، وعن مذهب الآشوريّين وعددهم في طهران. ويتوجّه إليك بالكلام ثانية.
– هل تشعرين بالألم يا ابنتي؟!
تبتسمين وكأنّكِ تريدين أن تخرجي أباً من اضطرابه لحال ولده فتقولين: كلا لا أتألّم.
– إذاً قد تعلّمت السير بالاعتماد على العصا وأمثالها؟
تهزّين رأسك وأكتافك كعلامة تأسّف وتعبير عن العجز. وتقول أمّك لأنّ يدك مشلولة وعاجزة عن الإمساك بالعصا لا تستطيعين أن تمشي.
– ها! إذاً يدك اليمنى تعاني من مشكلة تمامًا مثل يدي اليمنى.
يرفع السيّد يده اليمنى ويريك إيّاها ويبتسم.
قبل الآن لم تكوني تعلمين أنّ يده اليمنى متضرّرة. عندما تنظرين بدقّة إلى يده ترَيْن أنّ يده من المعصم إلى أسفلها قطعة واحدة لا شعور فيها ولا حركة. أصابع اليد اليمنى ثابتة، تُحبّين أن تعرفي حكاية هذه المشكلة، متى، كيف، وأين حدث هذا!
– عندما أُصيبت يدي بالشلل جرّاء حادثة الاغتيال1، بَقِيَتْ هذه اليد لمدّة لا تتحرّك أبدًا، وورمت. لاحقًا لاحظتُ بالتدريج أنّها تتحرّك قليلًا من الكتف. طلب منّي الطبيب بأن أُحرّك يديّ بشكل طبيعي عندما أمشي. وأنا فعلت ما طلبه. فزاد نطاق الحركة أكثر. بعد ذلك رأيتُ بالتدريج أنّني أستطيع أن أطويَ يدي من المفصل. في تلك الفترة رزقنا الله ابنة كانت متعلّقة بي بشكل كبير. وكثيراً ما كانت تأتي إليّ في مكتب رئاسة الجمهوريّة وأنا كنتُ أحضنها. شيئًا فشيئًا رأيت أنّني أستطيع أن أحضنها بهذه اليد أيضاً. وقد رآني طبيبي يوماً أحتضنها بهذه اليد فشجّعني كثيراً، وقال هذه الطفلة ستكون سبباً في تحسّن يدك. عندما تحتضن هذه الطفلة بدافع المحبّة سيؤدّي ذلك إلى أن تتحمّل وزنها. وهذا ما حصل بالفعل. كنتُ أحتضنها وآتي بها وأحملها فقويت يدي هذه شيئًا فشيئًا. حالياً الأصابع وكذلك من المعصم وإلى الأسفل هي ليست يداً، إنّها صورة يد، لأنّها – تقريباً –
1- في 6/ تير/1360 1981 ميلاديًّا، كان لآية الله الخامنئي جلسة سؤال وجواب في مسجد أبي ذر في طهران. بعد دقيقة من بدء البرنامج، انفجرت قنبلة كانت قد وضعت داخل مسجّلة أمامه. قام بهذا العمل جماعة الفرقان الإرهابيّة. بعد مرور الساعات الأولى على الانفجار، كانت حاله وخيمة جدًّا. وكان الأطبّاء قليلي الأمل من نجاته. ولكن بإرادة الله ودعاء الإمام الخميني والناس ارتفع الخطر وبقي فقط ضعف في حركة يده اليمنى.
63
50
الرواية الثّانية: العيادة
لا تؤدّي لنا أيّ عمل. تقوم فقط ببعض الأعمال. لكن في النهاية اليد هي اليد. وأنت تستطيعين أن تُحسّني وضع يدك بواسطة التمرين والمثابرة .
مع بداية كلام السيّد، عندما فهمتِ أنّهم قد حاولوا اغتياله، وأنّ يده مصابة اغتمّ قلبكِ كثيراً. طأطأتِ رأسك طوال حديثه وكنتِ تنظرين إلى نقطة في السجّادة. مجدّدًا، يسألك السيّد الخامنئي، ومن أجل أن يطمئنّ على سلامة حالكِ، عمّا إذا كنتِ تتألّمين. هذه المرّة تُشيرين إلى كتفك الأيمن وتقولين بأنّكِ تتألّمين قليلًا من هذه الناحية فيدعو لك ثمّ يحكي عن آلام يده المصابة:
– أنا أيضًا كنتُ أعاني من آلام شديدة، لسنوات عدّة كانت لديّ آلام شديدة جدًّا. في النهاية يجب أن تَعْلَمي أنّ للجميع آلامَهم. إن شاء الله يتعافى هذا الألم الموجود وتستردّين سلامتك.
ينشغل السيّد الخامنئي بشرب الشاي وأنت تسترقين النظر بطرفك إلى كيفية شربه. كانت رامونا قد أحضرته بينما كان هو يتحدّث.
بعد تناول الشاي، ينتقل إلى الكلام عن خالك المرحوم “سركن بت أوشانا” الّذي كان طبيبًا جرّاحًا ماهرًا جدًّا ومشهورًا. كان رجلًا شريفًا إلى الحدّ الذي دفع بالآشوريّين بعد الثورة
64
51
الرواية الثّانية: العيادة
أن ينتخبوه ممثّلًا لهم في مجلس الشورى ومجلس خبراء الدستور1 حيث حصل على تسعة وتسعين فاصل تسعة في المئة من الأصوات. يتوجّه السيّد الخامنئي بالسؤال إلى أمّك:
– السيّد بت اوشانا الّذي كان في المجلس…..
تقاطع أمّك كلامه وتقول بسرعة مسرورة بأنّ السيّد لم ينسَ خالك: “كان أخي”.
– كان في المجلس منذ الدورة الأولى. وكان أيضًا في مجلس الخبراء. كان رجلاً نجيباً ومحترماً جدًّا. كنتُ أعرفه.
حسناً، كان قصدنا أن نبرز مشاعرنا ومحبّتنا لعائلة الشهيد، لكم، وخصوصاً هذه المرّة كان توجّهنا أساساً هو زيارة ابنتنا هذه الّتي علمنا أنّها مريضة. نسأل الله تعالى أن يُخفّف من آلامكم وأن يمنحكم يومًا بعد يوم توكّلاً وقوّة قلب واعتماداً على النفس أكثر حتى تستطيعوا أن تتحمّلوا عبء الحياة هذه بسهولة إن شاء الله وتمضوا للأمام. وإذا أردتم منّا عملاً ما فالإخوة موجودون. إذا احتجتم إلينا وكان هناك عمل يُمكننا القيام به فنحن بالخدمة.
1- هو مجلس تمّ تشكيله عن طريق الانتخابات الشعبية في شهر آب من عام 79م. وكانت وظيفته إعداد متن دستور جمهوريّة إيران الإسلاميّة. كان في هذا المجلس اثنان وسبعون عضواً، وكان للأقلّيات الدينية حضور ومشاركة فيه. بعد الإقرار النهائي للدستور في هذا المجلس، وبحصوله على الأصوات في الاستفتاء الشعبي، تمّ توقيعه من الإمام وأصبح نظام جمهورية إيران الإسلاميّة بشكل رسمي.
65
52
الرواية الثّانية: العيادة
يتّضح من هذه الجمل أنّ موعد مغادرة السيّد الخامنئي قد حان. تطلب أمّك المساعدة بإرسالك إلى خارج إيران، فيقول السيّد الخامنئي بعد التعريف بتجهيزات واحد أو اثنَيْن من المستشفيات داخل البلد أنّه إن لم تُحلّ المشكلة في هذَيْن المستشفيَيْن فلا مانع من مغادرتك إلى الخارج.
* * *
غادر السيّد الخامنئي وأنتِ تُنازعكِ حالة ما بين الفرح والحزن. الفرح من أنّه، وعلى الرغم من عظم شأنه، قد جاء للقائك وتحدّث معك بشكل مفصّل، وصرّح بأنّه قد جاء لأجل عيادتك؛ الفرح من أنّ لخاطرك كل هذا التقدير لدى قائد بلدك، والفرح لأنّ أمّك وأختك وعمّتك مسرورات أيضاً بهذا اللّقاء. والحزن من مغادرته، لأنّك تعلمين أنّه من الآن فصاعداً سيشتاق قلبك له أكثر من ذي قبل، هو الّذي شعرتِ بأن رأفته كرأفة أبيك تماماً كما الآن؛ حيث لم تمضِ أكثر من نصف ساعة على ذهابه وقد توقّدت نار شوقك إليه.