الرئيسية / القرآن الكريم / الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

( 193 )

الكهف
32

التمثيل الثاني والثلاثون


(وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لاََحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً). (1)
تفسير الآيات
“الحفُّ” من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به، وحفاف الشيء جانباه
____________
1 ـ الكهف:32ـ43.


( 194 )

كأنّهما أطافا به، فقوله في الآية (فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما، وقوله: (ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.
“حسباناً”: أصل الحسبان السهام التي ترمى، الحسبان ما يحاسب عليه، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه، وفي الحديث انّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الريح : “اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً”.
“الصعيد” يقال لوجه الاَرض “زلق” أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد، كما في قوله سبحانه: (فتركه صلداً ) (1)
هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.
وأمّا تفسيرها، فهو تمثيل للموَمن و الكافر بالله و المنكر للحياة الاَُخروية، فالاَوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة، والثاني يركن إلى الدنيا و يطمئن بها، ويتبين ذلك بالتمثيل التالى:
قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم و أنصارهم على فقراء المسلمين، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الاِنسان لربه وإطاعته لمولاه.
وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه و هوالموَمن منهما فتقرب إلى الله بالاِحسان والصدقة، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير، وقال: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً )، وما هذا إلاّ لاَنّه كان يملك جنتين من
____________
1 ـ البقرة: 264.


( 195 )

أعناب ونخل مطيفاً بهما و بين الجنتين زرع وافر، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء و راح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.
وكان كلما يدخل جنته يقول: ما أظن أن تفنى هذه الجنة و هذه الثمار ـ أي تبقى أبداًـ وأخذ يكذب بالساعة، ويقول: ما أحسب القيامة آتية، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة، فلئن بعثت يومذاك، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم، و هذا دليل على كرامتي عليه.
هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً، و عند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.
و يقول: كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة، ثمّ رجلاً سوياً، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة؟
وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة، بل إنكار للمعاد، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.
فإن افتخرت أنت بالمال، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.
ثمّ ذكّره بسوء العاقبة، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك و تعالى.
ثمّ أشار إلى نفسه، وقال: أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو أن


( 196 )

يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الاَرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.
قالها أخوه و هو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.
فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الاَموال في عمارة جنتيه، وأخذ يندم على شركه، ويقول: يا ليتني لم أكن مشركاً بربى، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.
هذه حصيلة التمثيل، وقد بيّنه سبحانه على وجه الاِيجاز، بقوله: (المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).(1)
وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى، وقال: (قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ *يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ *أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإِنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ). (2)
إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل، و أمّا تفسير مفردات الآية وجملها، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً، ومع ذلك نفسرها على وجه الاِيجاز.

____________
1 ـ الكهف:46.
2 ـ الصافات: 51ـ55.


( 197 )

(واضرب لهم ) أي للكفار مع الموَمنين (مثلاً رجلين جعلنا لاَحدهما) أي للكافر (جنتين ) أي بستانين (من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل (وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به (كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها (لم تظلم) تنقص (منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما (و كان له ) مع الجنتين (ثمر فقال لصاحبه ) الموَمن (وهو يحاوره ) يفاخره (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة (ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. (وهو ظالم لنفسه ) بالكفر (قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم (هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك (لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً (قال له صاحبه و هو يحاوره ) يجادله (أكفرت بالذى خلقك من تراب) لاَنّ آدم خلق منه (ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك (رجلاً ). أمّا أنا فأقول (لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت) عند اعجابك بها (ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ). (إن ترن أنا أقل منك مالاً و ولداً فعسى ربي أن يوَتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) و صواعق (من السماء فتصبح صعيداً زلقاً) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم (أو يصبح ماوَها غوراً ) بمعنى غائراً (فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها (وأُحيط بثمره) مع ما جنته بالهلاك فهلكت (فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً (على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته (وهي خاوية ) ساقطة (على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم (ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه (لم أُشرك بربي أحداً و لم تكن له فئة ) جماعة (ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و ( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه (هنالك ) أي يوم القيامة (الولاية) الملك (لله الحقّ ). (1)

____________
1 ـ السيوطى: تفسير الجلالين: تفسير سورة الكهف.


( 198 )

الكهف
33

التمثيل الثالث والثلاثون


(وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ). (1)
تفسير الآيات
“الهشيم”: ما يكسر و يحطم في يبس النبات، و”الذر” و التذرية: تطيير الريح الاَشياء الخفيفة في كلّ جهة.
تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر، ولاَجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الاَراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها، فعندئذٍ تبتدىَ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة، فربما يتخيل الاِنسان بقاءها ودوامها، فإذا بالاَعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الاَطراف، فهذا النوع من
____________
1 ـ الكهف:45.


( 199 )

الحياة والموت يتكرر على طول السنة ويشاهده الاِنسان بأُمّ عينه، دون أن يعتبر بها، فهذا ما صيغ لاَجله التمثيل.
يقول سبحانه: (وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الاَرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض، يروق الاِنسان منظره، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة، وهذا ما يعبر عنه القرآن، بقوله : (فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات (و كان الله على كلّ شيء مقتدراً ).
ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والاَزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها، فهكذا الاَموال والبنون.
وإنّما هي زينة للحياة الدنيا، فإذا كان الاَصل موَقتاً زائلاً، فما ظنّك بزينته، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا، فالاعتماد على الاَمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً، قال سبحانه: (المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ).
نعم ، الخلود للاَعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الاَُخروية، قال سبحانه: (وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ). (1)
ثمّ إنّه سبحانه يوَكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية. (2)

____________
1 ـ مريم:76.
2 ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد، الآية 20.


( 200 )

ايقاظ
ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله : (وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الاِنسان أكثر شيء جدلاً ). (1)
والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يوَكد على ذكر نماذج من الاَمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.
ومعنى قوله: (ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لاَجل الاِشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الاِنسان من جهات مختلفة و مع ذلك (وَكانَ الاِنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شىء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

____________
1 ـ الكهف:54.


( 201 )

الحج
34

التمثيل الرابع و الثلاثون



(يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ). (1)
تفسير الآيات
كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية، ويعربون عن عقيدتهم، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه، و قد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ). (2)
ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والاَرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة، يقول سبحانه: (أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (3) والآية وإن كانت
____________
1 ـ الحج:73ـ74.
2 ـ الزخرف:9.
3 ـ يوسف:39.


( 202 )

تفصح عن عقيدة المشركين في عهد يوسف إلاّ أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحطِّ من عقيدتهم الفاسدة.
وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية :
يقول سبحانه: (وَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لَعلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (1) فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى، قال سبحانه: (وَ اتّخذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ). (2)
فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.
وهناك آيات كثيرة تصف الاَصنام والاَوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ، كما لا تملك النفع والضرّ، ولا النصر في الحرب، ولا العزة في الحياة ،كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الاِنسانية، يقول سبحانه: (قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّر عَنْكُمْ وَلا تحْوِيلاً ). (3) وقال تعالى: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرّك).(4)
وقال تعالى: (إِن تَدَعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.

____________
1 ـ يَس:74.
2 ـ مريم:81.
3 ـ الاِسراء:56.
4 ـ يونس:106.
5 ـ فاطر:14.


( 203 )

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالاً أبطل بها ربوبية الاَصنام، بالبيان التالى:
أمّا الذباب، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه.
فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الاَصنام بالزعفران و روَوسها بالعسل ويغلقون عليها الاَبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، يقول سبحانه : (يا أَيُّها الناس ضربَ مثل فاستمعوا له انَّ الذينَ تَدعُون مِنْ دُونِ الله ) أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة، كما في قوله سبحانه: (وَقالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِين ) (1) فدعاوَه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة ـ بما انّها أرباب عند الداعي ـ عبادة لها.
(لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ) مع صغره وضعفه (وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه ) كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على روَوس الاَصنام.
(ضعف الطالب والمطلوب ) وفيها احتمالات:
الاَوّل: انّ المراد من الطالب و المطلوب هو العابد و المعبود، فالاِنسان ضعيف كما هو واضح، وقال سبحانه: (وَخلق الاِنْسان ضعيفاً ) والمطلوب، أعني: الاَصنام مثله لاَنّه جماد لا يقدر على شيء.

____________
1 ـ غافر:60.


( 204 )

الثاني: ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الاَصنام، والمطلوب هي الاَصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.
الثالث: المراد من الطالب الآلهة فانّـهـم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.
ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ إعراضهم عن عبادة الله وانكبابهم على عبادة الآلهة، بقوله: (ما قَدَرُوا الله حقّ قدره انّ اللهَ لقوىّ عَزيز ) أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر، فلو كان هوَلاء عارفين بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه، ولكن لم يقدروا الله بما يليق به، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم، مع أنّه سبحانه (هو القويُّ العَزيز ) بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والاَذلاّء.


( 205 )

النور
35

التمثيل الخامس والثلاثون



(اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالاََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكوة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحٌ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِيّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرة مُبارَكةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثالَ لِلنّاسِ وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيم ). (1)
تفسير الآية
المشكاة: كوّة غير نافذة، وتُتخذ في جدار البيت لوضع بعض الاَثاث ومنها المصباح وغيره، وربما تكون الكوّة مشرفة على ساحة الدار وتجعل بينها زجاجة، لتحفظ المصباح من الرياح، ولتضيء الساحة والغرفة معاً.
ومنه حافظة المصباح، وهي ما تصنع على شكل مخروطي توضع على المصباح لتحفظه من الرياح، وفي أعلاها ثقب يخرج منه الدخان.
“المصباح” : السراج، وهو آلة يتألف من أُمور أربعة:
أ: وعاء للزيت، ب: فتيل يشتعل بالزيت، ج: زجاجة منصوبة عليه، د: آلة التحكم بالفتيل.

____________
1 ـ النور:35.


( 206 )

ثمّ إنّ أفخر أنواع الزيوت هو المأخوذ من شجرة الزيتون المغروسة في مكان تشرق عليه الشمس من كل الجوانب حيث تكون في غاية الصفاء وسريعة الاشتعال، بخلاف المغروسة في جانب الشرق أو جانب الغرب، فانّها لا تتعرض للشمس إلاّ في أوقات معينة .
قال العلاّمة الطباطبائي:
والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية، انّها ليست نابتة في الجانب الشرقي، ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار، ويضيء الظل عليها في الطرف الآخر، فلا تنضج ثمرتها، فلا يصفو الدهن المأخوذ منها، فلا تجود الاِضاءة. (1)
إلى هنا تمَّ ما يرجع إلى مفردات الآية، فعلى ذلك فالمشبه به عبارة عن مشكاة فيها مصباح و عليها زجاجة، يوقد المصباح من زيت شجرة الزيتون المغروسة المتعرضة للشمس طول النهار على وجه يكاد زيتها يضىء و لو لم تمسسه نار، لاَنّ الزيت إذا كان خالصاً صافياً يرى من بعيد كأنّ له شعاعاً فإذا مسّتْهُ النار ازداد ضوءاً على ضوء.
فالمشبه به هو النور المشرق من زجاجة مصباح، موقد من زيت جيد صافٍ موضوع على مشكاة، فانّ نور المصباح تجمعه المشكاة وتعكسه فيزداد إشراقاً.
وأمّا قوله في آخر الآية: (نور على نور ) بمعنى تضاعف النور وأنّ نور الزجاجة مستمد من نور المصباح في إنارتها.
قال العلاّمة الطباطبائي:

____________
1 ـ الميزان: 15|124.


( 207 )

فأخذ المشكاة، لاَجل الدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جوِّ البيت.
واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته الموَثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله.
وجودة الضياءعلى ما يدل عليه كون زيته يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.
واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون نور الزجاجة مستمد من نور المصباح. (1)
هذا هو حال المشبه به، و إنّّما الكلام في المشبه أو الممثل له، فقد طبقت كلّ طائفة ذلك الممثل على ما ترومه، وإليك الاَقوال:
القول الاَوّل: المشبه به هداية الله ، إذ قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.
وأمّا عدم تشبيهها بضوء الشمس مع أنّه أبلغ، فلاَجل انّ المراد وصف الضوء الكامل وسط الظلمة، لاَنّ الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنّما هي الشبهات التي هي كالظلمات، وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات.
القول الثاني: المراد من النور: القرآن، و يدل عليه قوله تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبين ). (2)

____________
1 ـ لميزان: 15|125.
2 ـ المائدة:15.


( 208 )

القول الثالث: المراد هو الرسول، لاَنّه المرشد، ولاَنّه تعالى قال في وصفه: (وسِراجاً مُنِيراً ). (1) ولعلّ مرجع القولين الاَخيرين هو الاَوّل، لاَنّ القرآن والرسول من شعب هداية الله سبحانه.
القول الرابع: إنّ المراد ما في قلب الموَمنين من معرفة الشرائع، ويدل عليه انّه تعالى وصف الاِيمان بأنّه نور والكفر بأنّه ظلمة، فقال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للاِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ ). (2)
وقال تعالى: (لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّور ) (3). وحاصله انّ إيمان الموَمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات و الامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور.
وعلى هذا فالتمثيل مفرداً وهو تشبيه الهداية وما يقرب منها بنور السراج، ولا يجب أن يكون في مقابل كل ما للمشبه به من الاَُمور موجود في المشبه بخلاف الوجه التالى.
القول الخامس: إنّ المراد هو القوى المدركة ومراتبها الخمس، وهي: القوة الحسّاسة، القوة الخيالية، القوة العقلية، القوة الفكرية، القوة القدسية.
وإليها أشارت الآية الكريمة: (وَكَذلِكَ أَوحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنتَ تَدري ما الكِتابُ وَلا الاِِيمانُ ولكِن جعلناهُ نُوراً نهدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادنا).(4)
فإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار ، إذ بها تظهر أصناف
____________
1 ـ الاَحزاب:46.
2 ـ الزمر:22.
3 ـ إبراهيم:1.
4 ـ الشورى: 52.


( 209 )

الموجودات، و هذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالاَُمور الخمسة التي ذكرها الله تعالى، و هي: المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت.
وعلى هذا فالتمثيل مركباً نظير القول الآتى:
القول السادس: إنّ النفس الاِنسانية قابلة للمعارف والاِدراكات المجردة، ثمّ إنّه في أوّل الاَمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف، فهناك تسمى عقلاً هيولانياً، وهي المشكاة.
وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية. ثم إن أمكنه الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة فهي الزجاجة التي كأنّها الكوكب الدرّي، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للاَنبياء فهي التي (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ).
وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الضرورية العلوم النظرية، إلاّ أنّها لا تكون حاضرة بالفعل، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه، وهذا يسمّى عقلاً بالفعل وهو المصباح.
وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف حاصلة بالفعل، وهذا يسمّى عقلاً مستفاداً، وهو نور على نور، لاَنّ الحكمة ملكة نور و حصول ما عليه الملكة نور آخر. ثم إنّ هذه العلوم التي تحصل في الاَرواح البشرية، إنّما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار.
القول السابع: إنّه سبحانه شبّه الصدر بالمشكاة، والقلب بالزجاجة، والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنّما يوقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة. وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، ولكنّه وصفها


( 210 )

بأنّها لا شرقية ولا غربية لاَنّها روحانية، ووصفهم بقوله: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) لكثرة علومهم وشدة اطّلاعهم على أسرار ملكوت الله تعالى.
القول الثامن: إنّ المراد من (مثل نوره ) ، أي مثل نور الاِيمان في قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و المصباح نظير الاِيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه.
القول التاسع: إن”المشكاة” نظير إبراهيم (عليه السلام ) ،والزجاجة نظير إسماعيل (عليه السلام ) ، والمصباح نظير جسد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والشجرة النبوة والرسالة.
القول العاشر: إنّ قوله: (مثل نوره ) يرجع إلى الموَمن. (1)
إنّ المشبه هو نور الله المشرق على قلوب الموَمنين، والمشبه به النور المشرق من زجاجة، وقوله سبحانه: (يَهدي الله لنوره من يشاء ) استئناف يعلّل به اختصاص الموَمنين بنور الاِيمان والمعرفة وحرمان غيرهم، ومن المعلوم من السياق انّ المراد بقوله: (من يشاء ) هم الذين يذكرهم الله سبحانه بقوله بعد هذه الآية : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ) (2) فالمراد بمن يشاء الموَمنون بوصف كمال إيمانهم.والمعنى انّ الله إنّما هدى المتلبسين بكمال الاِيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر. (3)
وقوله : (يضرب الله الاَمثال للناس والله بكلّ شيء عليم ) إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبين الحقائق والدقائق، ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كلّ ما قسم له، قال تعالى: (وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاّ العالِمُون ). (4)

____________
1 ـ تفسير الفخر الرازى: 23|231ـ 235.
2 ـ النور:37.
3 ـ الميزان: 18|125ـ 126.
4 ـ العنكبوت:43.

شاهد أيضاً

قيادي في الحرس الثوري: إعادة النظر في الاعتبارات النووية في حال وجود تهديدات اسرائيلية

قال قائد قوات حماية المراكز النووية التابعة للحرس الثوري العميد احمد حق طلب: إذا كانت ...