مواعظ شافية

5- أزواجاً من أنفسكم


يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ1

 

1- سورة الروم، الآية: 21.


تمهيد

 

بعد أن تكلّمنا عن الأسرة، النواة الأولى في تركيب أيّ مجتمع بشريّ، وقلنا إنّ الحلقة الأضيق هي الأب والأمّ، الزوج والزوجة ثمّ الأولاد وتحدّثنا عن المسؤوليّة تجاه الأبوين نتكلّم الآن عن مسؤوليّة الزوجين تجاه بعضهما بعضاً.

 

قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ2.

 

إنّ الزواج حاجة فطريّة غريزيّة طبيعيّة عند الإنسان. وهو بحسب النظرة الإسلاميّة له هدف سامٍ، فالإسلام يريد للزواج أن يكون ناجحاً محتفظاً بعناصر الديمومة والبقاء والثبات. ومن أسس نجاح الزواج أن يكون كلٌّ من الزوج والزوجة سكناً للآخر (كما ورد في الآية) وهو ما يحقّق الهدف المنشود من خلال تحصيل الاستقرار النفسيّ والهدوء والطمأنينة بين الزوجين فيكونان عوناً لبعضهما بعضاً على مواجهة تحدّيات الحياة وعوناً على الآخرة.

 

ولقد حثّ الإسلام على أصل موضوع الزواج مقابل فكرة البقاء على العزوبيّة،

 

2- سورة الروم، الآية: 21.

 

 وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج”3.

 

مقوّمات الزواج الناجح

 

ومن أجل الوصول إلى زواج ناجح نبّه الإسلام إلى عدّة مسائل وأكّد على مراعاتها، ومن هذه المسائل:

 

أوّلاً: أكّد الإسلام على ضرورة تأسيس الزواج على أُسس صالحة صحيحة، من خلال الابتعاد عن الإكراه أو إجبار أحد الطرفين على الزواج من الآخر أو الطرفين معاً، وهو ما يحصل عادة بسبب علاقات القرابة مثلاً أو تجميع الثروات، وهو ما يؤدّي غالباً إلى فشل الزواج. لذلك نجد في الأحكام الشرعيّة نهياً عن إكراه الطرفين الذكر والأنثى، وضرورة الرضا والقبول بالشريك الآخر لأنّ في هذا الزواج حياتُهما وفيه سعادتُهما.

 

وكما أكّد الإسلام على ضرورة اختيار الزوجين لبعضهما بعضاً، قام أيضاً بعمليّة إرشاد واسعة جدّاً من منطلق: الأساس الّذي ينطلق منه الفرد لاختيار شريك حياته، بعيداً عن التقاليد والعادات الجاهليّة, والّتي للأسف ما زلنا نراها في أيّامنا هذه؛ فالأهل يذهبون عادةً باتجاه الغنى أو الوجاهة ويتجنّبون الفقير والفقيرة. وقد يبحثون عن جمال الشكل ومعايير الجسد الخارجيّة. لذلك جاء الإسلام ليؤكّد على صفة الصلاح في الرجل والمرأة، الّتي تعني الدين وحُسن الخُلُق والعفّة؛ لأنّ المال لا يدوم، وكذلك الجمال والجاه.

 

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو لمالها وكل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها رزقه الله المال والجمال”4.

 

3- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج14، ص3.

4- م.ن، ج20، ص49.

وعن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “النكاح رقّ، فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقها، فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته”5.

 

وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”6.

 

ثانياً: السعي للوصول إلى سنّ مبكرة للزواج وتسهيل ما قد يعترضه من تعقيدات، إذ يكفي رضا الطرفين ورضا وإذن وليّ الأمر، في شروط معيّنة، ليتمّ عقد الزواج.

 

وهناك للأسف عادة قديمة ما زالت متّبعة حتّى اليوم وهي غلاء المَهْر، لذا جاء الإسلام ليقول: أفضل نساء أُمّتي من كان مَهْرُها متواضعاً، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أفضل نساء أمّتي أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهرا”7. فمعيار الزواج الناجح ليس مرتبطاً لا بالمهر ولا بالمال، فالمال لا يشكّل ضمانة؛ لأنّ الزوج الّذي لا يملك الخلق والدين قد يضطر المرأة إلى أن تبذل له مهرها وتزيد عليه حتّى يطلّقها.

 

إنّ الزواج المبكر يساعد على الثبات والاستقرار والطمأنينة، وإذا كانت بعض الزيجات المبكّرة فاشلة فليس السبب التبكير في الزواج، بل العجلة والتسرُّع، أي عدم حسن اختيار الزوج أو الزوجة، كما هو الحال أيضاً في الزيجات غير المبكّرة.

 

ثالثاً: لكي يحافظ الإسلام على العائلة عقّد عمليّة الطلاق، ولكنّه لم يسدّ الباب نهائيّاً، كما في بعض المذاهب والديانات الأخرى. فالإسلام فتح باب الطلاق ووضع قواعد له، ومنها أنّه يحتاج إلى شاهدين عَدْلين، ولهذين الشاهدين دور مهمّ في تلطيف الأجواء بين الزوجين المتخاصمين، فقد يعتذر الزوجان عمّا بدر منهما من تسرُّع، ويحلُّ الوفاق محلَّ الطلاق. لقد شرّع الإسلام الطلاق وحلّله على الرغم من

 

5- وسائل الشيعة، ج20، ص76.

6- م.ن، ج20، ص79.

 أنّه أبغض الحلال، وقد روي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق”8، ذلك أنّ بعض الحالات الزوجيّة لا يحلّها إلّا الطّلاق.

 

رابعاً: روح العلاقة الّتي يجب أن تكون بين الزوج والزوجة. وللنظر في هذه العلاقة هناك عنوانان: قانونيّ وفقهيّ. فعندما تُعدَّد حقوق الزوجة وتُعدَّد حقوق الزوج، وتُحدَّد واجبات كلّ منهما تجاه الآخر، فهذا ما يُسمّى بالعنوان القانونيّ أو الحقوقيّ. أمّا العنوان الثاني الفقهيّ فهو أرفع من الأوّل، لأنّه العنوان الروحيّ والأخلاقيّ. العنوان الأوّل ليس هو الأصل ولا نلجأ إليه إلّا عندما يكون هناك مشكلة أو نزاع. أمّا العنوان الثاني فهو الأصل الّذي أراد منّا الإسلام أن نقيم بناءنا الزوجيّ على أساسه، وهو قائم على الحبّ والاحترام والتراحم والتعاون والانسجام بين الزوجين حتّى يصبحا كأنّهما نفس واحدة، كما في تعبير الآية القرآنيّة: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا9 وقوله سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ10، وقد روي عن الإمام السجّاد عليه السلام في رسالة الحقوق: “وحقّ الزوجة أن تعلم‏ أن الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً”.

 

الصبر على الأذى

 

أمّا الإيذاء فله قدر من العقاب، والصبر على الأذى له قدر من الثواب. فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنةً من عملها حتّى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر…”11.

 

 وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: “ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمُّه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم

 

7- الكافي، ج5، ص324.

8- كشف اللثام، الفاضل الهنديّ، ج8، ص49.

9- سورة النحل، الآية: 72.

10- سورة الروم، الآية:21.

11- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج73، ص369.

زوجها ولا تؤذيه وتُطيعه في جميع أحواله”12، طبعاً إلّا في معصية الله لأنّه “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.وفي المقابل، على الرجل مثل ذلك الوِزْر والعذاب إذا كان مؤذياً ظالماً لها، حتّى ولو صام الدهرَ كلَّه.

 

أمّا الصبرَ على سوء الخُلُق، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “… ومن صبرَ على سوء خُلُق امرأته واحتسبه أعطاه الله بكلّ مرّة يصبر عليها من الثواب مثل ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه، وكان عليها هي من الوِزر في كلّ يوم وليلة مثل رمل عالج…”13.

 

الزواج يقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ

 

لقد حصَّن الإسلام المرأة ودعا للمحافظة على حقوقها وكرامتها وموقعيّتها الاجتماعية واحترامها كإنسان له حقوق وعليه واجبات. الإسلام يقول: إذا أقمتم البناء الزوجيّ الّذي تنشده فطرة الإنسان وغريزته على أسس صحيحة فهذا يُعينكم في دينكم ودنياكم وآخرتكم، لذلك أكّدت الروايات على أنّ الإنسان المتزوّج قدرته على تجنّب المعاصي أكبر من قدرة العازب. وذلك لطمأنينتُه وسكون نفسه

 

﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، كما أنّ قيامه وصلاته وصيامه وطاعاته أفضل. والأهمّ من كلّ ما تقدَّم هو تحويل العلاقة الزوجيّة إلى عبادة، وإلى واحدة من المصاديق الّتي تُقرِّب من الله عزّ وجلّ.

 

وأعطى الله تعالى العلاقة بين الزوجين بُعداً أخروياً، وبالتالي فهناك عقاب في حال التخلُّف عن الواجبات الزوجيّة أو التّراخي أو الإيذاء. إذاً، أدخل الله تعالى مؤسَّسة الزّواج في دائرة الثواب والعقاب الأخروي، وفي هذا الموضوع سألت أُمُّ سلمة كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل النساء في خدمة أزواجهنَّ، فقال لها: “أيّما امرأة رفعت من منزل زوجها شيئاً من موضع إلى موضع

 

12- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج100، ص253.

13- م. ن، ج73، ص367.

 تُريد به صلاحاً نظر الله عزّ وجلّ إليها، ومن نظر الله إليه لم يُعذِّبه”14، وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “أيُّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام، غَلَق الله عنها سبعة أبواب من النار، وفتح لها ثمانية أبواب من الجنّة تدخل من أيّها شاءت”15.

 

وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمّك؟ إن كنت تهتمّ لرزقك فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتمّ بأمر آخرتك فزادك الله همّاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بشّرها بالجنّة وقل لها: إنّك عاملة من عمّال الله ولك في كلّ يوم أجر سبعين شهيداً”16.

 

وفي المقابل، عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى فيّ امرأته”17، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “جلوس المرء عند عياله أحبُّ إلى الله من اعتكاف في مسجدي هذا”18.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا رحماء فيما بيننا قوّامين بالقسط، منصفين، عطوفين، لا نحيف على أزواجنا ولا نقصّر في الأخذ بأيدي عوائلنا إلى ساحة رضا الله سبحانه، إنّه سميع مجيب.

 

14- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 20، ص 172.

15- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1186.

16- مكارم الأخلاق، ص‏215.

17- ميزان الحكمة، ج2، ص1186.

18- م.ن.

 للمطالعة

الأسوة في بيت الزوجيّة

روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: “دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام جالسة عند القدر وأنا أنقّي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: اسمع، وما أقول إلّا ما أمر ربّي، ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلّا كان له بكلّ شعرة على بدنه، عبادة سنة؛ صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثواب ما أعطاه الله الصابرين، وداود النبيّ ويعقوب وعيسى عليهم السلام.

 

يا عليّ من كان في خدمة عياله في البيت ولم يأنف، كتب الله اسمه في ديوان الشهداء، وكتب الله له بكلّ يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكلّ قدم ثواب حجّة وعمرة، وأعطاه الله تعالى بكلّ عرق في جسده مدينة في الجنّة. يا عليّ، ساعة في خدمة البيت، خير من عبادة ألف سنة، وألف حجّ، وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة، وألف غزوة، وألف مريض عاده، وألف جمعة، وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم، وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهه في سبيل الله، وخير له من ألف دينار يتصدّق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير اشتراها فأعتقها، وخير له من ألف بُدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتّى يرى مكانه من الجنّة.

 

يا عليّ، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنّة بغير حساب.

 

يا عليّ خدمة العيال كفّارة للكبائر، ويطفى‏ء غضب الربّ، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات.

 

يا عليّ، لا يخدم العيال إلّا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة”19.

19- مستدرك الوسائل، ج‏13، ص‏42

 

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...