الرئيسية / الاسلام والحياة / نظرات سريعه في فن التحقيق – أسد مولوي

نظرات سريعه في فن التحقيق – أسد مولوي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
يسرني أن اقدم – بين يدي القارىء العزيز – بحثا موجزا عن فن التحقيق ، هذا الفن العريق تاريخا ، العظيم أهمية ، الكثير شعبا وفنونا.
وأعتذر عن الاختصار ، فلكل مقام مقال .
ما هو فن التحقيق ؟
التحقيق لغة : التصديق ، واثبات الحق ، والرصانة ، والتزيين ، واحكام الشيء و صحته (1)…
وهو – كما ترى – فيه ما ينطبق على الفن المعروف حاليا بهذا الاسم ، فالتحقيق : إحكام النصوص ، والتثبت من صحتها ، وتزيينها بما يفك مغلقها ، ويوضح غامضها ، ويضيء معالمها… وهو – بعد – فن يستلزم الرصانة ، واثبات الحق من النصوص ونفي غيره .
لكن سلفنا لم يستعملوا هذه الكلمة للدلالة عليه ، بل استعملوا بدلها كلمة (التحرير) ، جاء في القاموس المحيط وغيره : تحرير الكتاب : خلوصه وتقويمه (2) ، وقال أبو بكر الصولي في (أدب الكتاب): تحرير الكتاب خلوصه ، كأنه خلص من النسخ التي حرر عليها وصفا عن كدرها (3) .
وعلى أي حال فقد شاعت – في هذه الاواخر – لفظة التحقيق وذاعت ، وأصبحت مصطلحا ينصرف الذهن عند ذكرها الى ما نحن بصدده … ومعلوم أن لا مشاحة في الاصطلاح .
(1) انظر لسان العرب (حقق) ، معجم مقاييس اللغة (حق) .
(2) القاموس المحيط (حرر) .
(3) أدب الكتاب : 26 .
(66)
هذا بعض ما يتعلق باللفظ لغة…
وقد اختلف المعنيون بالمراد من التحقيق :
فمنهم من اقتصر على أنه ضبط النص فحسب .
ومنهم من زاد عليه توضيح الغوامض ، وتخريج النصوص من مصادرها ، وصنع الفهارس … ومتابعة الكتاب تصحيحا وتنقيحا حتى يخرج من المطبعة ويصل الى يد القارىء .
ومنهم من زاد – على هذا كله – متابعة المحقق لكتابه بعد الطبعة الاولى صقلا وتجميلا وتهذيبا…
والجميع مصيبون ، وكل منهم عبر عن رؤية خاصة .
والحق أن للتحقيق درجات : أولها ضبط النص … ثم يرتقي المحقق صعدا في سلم هذا الفن .
أما التخريج ، وتوضيح الغوامض ، وصنع الفهارس ، ومتابعة الكتاب …. فهي من لوازم التحقيق ومكملاته .
ولا يظن القارىء العزيز أن ضبط النص أمر هين ، فهو من أعضل المعضلات ، ودون الوصول إليه خرط القتاد … فهو يتطلب من المحقق موسوعية تراثية ، وسليقة لغوية ، ودقة ملاحظة ، وفضل ذكاء ، وحافظة سليمة ، وذوقا جميلا …. وصبراً وجلدا …
وقديما قيل : تأليف كتاب أهون من إصلاحه .
وبكلمة مختصرة : التحقيق هو فن إحياء الكتاب المخطوط .
والحياة – كما هو معلوم – درجات بعضه أعلى من بعض ، فحياة مريضة عاجزة ، وحياة سليمة تتمتع بالصحة والعافية ، وحياة فيها ـ مع هذا – رواء وجمال .

قدم هذا الفن عندنا :
الامة المسلمة هي الامة الوسط ، وهي امة الخير وخير الامم … ذلك من فضل الله علينا … وبفضل الهداة المعصومين ، محمد وآله الميامين ، صلوات الله عليهم أجمعين .
فالامة العربية امة امية ، تعتمد الرواية والحافظة في نقل علومها من جيل الى جيل … وجاءت الرحمة المهداة للعالمين متمثلة في الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله فأخرج هذه الامة من الظلمات الى النور، من ظلمات الجهل الى نور العلم .
ولا يزال التاريخ يذكر حادثة أسرى بدر ، وأن الاسير كان يحصل حريته بتعليمه عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة .
(67)
ولا يزال التاريخ يذكر أمر النبي صلى الله عليه وآله أحد الصحابة أن يتعلم لسان يهود ، فتعلمه في بضعة عشر يوما …
وكان القرآن الكريم فاتحة الخير لتدوين العلوم ، وجاء حثه على طلب العلم وأمره به ، محفزا للمسلمين كي يقتحموا لجج المعارف ويغوصوا في أعماقها طلبا للحقائق .
وكان صنو رسول الله ووصيه ، أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما بابا لمدينة العلم … دون القرآن الكريم ، والصحيفة الجامعة ، وغيرها .
وتبعه شيعته من أول العهد ، فالكتب المعنية تذكر كتابا لابي ذر رحمه الله ، وكتابا لعبيد الله بن أبي رافع ….
ولم يعيروا اهتماما للردة العلمية التي قادها أحد حكام المسلمين بنهيه عن الكتابة والتدوين وعقابه عليها ، بل استمروا على الخط الصحيح … وذهب الزبد جفاء ، ومكث ما ينفع الناس في الارض .
فكانت للمسلمين – بفضل استقامة هذه الصفوة الطاهرة – هذه المكتبة العظيمة ، التي لم تصل الى غناها وثرائها مكتبة اخرى لأية امة .
وجاءت أقوال أئمة الهدى عليهم السلام مؤكدة للأمر الالهي العزيز :
(وقل رب زدني علما) (1) .
(إقرأ باسم ربك ..)(2)
فقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام :
اكتب وبث علمك في إخوانك ، فان مت فأورث كتبك بنيك ، فانه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم (3).
من مات وميراثه المحابر والدوي فله الجنة .
……………………..
أما حول فن التحقيق ، فقد جاء عن الصادق عليه السلام :
« عن عبدالله بن سنان قال : قال الصادق عليه السلام : ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى ، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق ، قلت :
وكيف دعاء الغريق ؟ قال : تقول : ياالله يارحمن يارحيم يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
فقلت : يامقلب القلوب والابصار ثبت قلبي على دينك
(1) الكهف 20 : 114 .
(2) العلق 96 : 1 .
(3) الكافي 1 : 42|11 ، منية المريد : 173 ، البحار 2 : 150|27 عن كشف المحجة : 35 .

(68)
فقال : إن الله عزوجل مقلب القلوب والابصار ، ولكن قل كما أقول : يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك (1) .
وهذا – كما ترى – منتهى الامانة في النقل ، وغاية الحيطة في ضبط النص فالامام عليه السلام لم يرض باضافة كلمة واحدة يقبلها السياق، وليس فيها محذور .
والحال أن ضبط النص من مهمات الامور ، ومن مقتضيات الامانة العلمية ، فرب لفظة حذفت أو زيدت أو حرفت ، فكانت النتيجة إباحة دماء، واستحلال محارم …(2).
فالنص أمانة بين يدي محققه ، وليعلم ان الكتاب عند مؤلفه كولده وفلذة كبده .. فهل تراه يرضى بتحريفه وتصحيفه ، أو تبديله وتغييره ؟!
وكان علم الحديث الشريف أهم حافز لعلمائنا رحمهم الله على ممارسة هذا الفن – وان لم يسموه باسمه المعروف الآن – وعلى البلوغ به مستوى عاليا دونه كل الاعمال التي ظهرت عند الآخرين بعد فترة طويلة من الزمان .
فكان التحقيق في ضبط نصوص الاحاديث ، والحيطة فيها وعليها، بحيث شاعت مصطلحات خاصة… سماع ، إجازة ، مقابلة بلاغ … وشاع إثبات ما في النسخ الاخرى أو الروايات الاخرى في هامش الحديث الشريف إن اختلفت في لفظه ولو كانت تلك اللفظة (واو) العطف أو (أو) التخيير ، أو كانت زيادة نقطة على الحرف أو إهمالها .
وانتقل هذا الفن الى العلوم الاخرى ، فكان لضبط النص – أدبيا كان أم علميا – أهمية – عند علمائنا – بالغة .
واودعك أخي القارىء على أمل اللقاء في حلقة اخرى من هذا البحث تطرق جوانب اخرى من هذا الفن الواسع الممتع …
للبحث صلة ….

 

شاهد أيضاً

مقاطع مهمه من كلام الامام الخامنئي دامت بركاته تم أختيارها بمناسبة شهر رمضان المبارك .

أذكّر أعزائي المضحين من جرحى الحرب المفروضة الحاضرين في هذا المحفل بهذه النقطة وهي: أن ...