الرئيسية / بحوث اسلامية / توحيد المفضل للمفضل بن عمر

توحيد المفضل للمفضل بن عمر

ص 81

الحمل. فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم، إلى كل وقت وعصر من غابر الأيام، وبها يحسب الأعمار والأوقات المؤقتة للديون والإجارات والمعاملات، وغير ذلك من أمورهم، وبمسير (1) الشمس تكمل السنة، ويقوم حساب الزمان على الصحة. أنظر إلى شروقها العالم كيف دبر أن يكون؟ فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات، لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها، فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة، حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق ما استتر عنها في أول النهار، فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها، والأرب التي قدرت له. ولو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء؟ أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة لم يكن عندهم فيها حيلة، فصارت تجري على مجاريها لا تفتل (2) ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه.

 (الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور)

 استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور، ولا يقوم عليه حساب السنة، لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشو الثمار وتصرمها، ولذلك صارت شهور القمر وسنوه تتخلف عن شهور الشمس وسنيها، وصار الشهر من شهور القمر ينتقل، فيكون مرة بالشتاء ومرة بالصيف.

(هامش)

(1) في نسخة البحار (ميسر) بتقديم الياء على السين، وليس للكلمة هنا معنى يوافق المراد. (2) لا تفتل – أي لا تنصرف ولا تزول. (*)

ص 82

( ضوء القمر وما فيه من المنافع)

 فكر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك فإنه مع الحاجة الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيء من العمل، لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل، لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار، ولشدة الحر وإفراطه، فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى، كحرث الأرض، وضرب اللبن، وقطع الخشب، وما أشبه ذلك، فجعل ضوء القمر معونة للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وأنسا للسائرين وجعل طلوعه في بعض. الليل دون بعض ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها، لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار، فيهلكهم ذلك، وفي تصرف القمر خاصة في مهله (1) ومحاقه (2) وزيادته ونقصانه وكسوفه، من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون.

 (النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى متنقلة)

 فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها، فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك (3) ولا تسير إلا مجتمعة، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها، فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عام مع الفلك نحو

(هامش)

(1) مهله: أي ظهوره. (2) المحاق: – بكسر الأول أو ضمه أو فتحه – هو آخر الشهر القمري وقيل ثلاث ليال من آخره. (3) لعل المراد إنه ليس لها حركة بينة ظاهرة كما في النجوم السيارة. (*)

ص 83

المغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى، فالرحى تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين: إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها.. فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال، من غير عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة (1) أو تكون كلها منتقلة، فإن الإهمال معنى واحد (2) فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير؟ ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير، وليس بإهمال كما يزعم المعطلة، فإن قال قائل: ولم صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا؟ قلنا: إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة، ومسيرها في برج من البروج، كما يستدل بها على أشياء مما يحدث العالم، بتنقل الشمس والنجوم في منازلها، ولو كانت كلها منتقلة، لم يكن لمسيرها منازل تعرف، ولا رسم يوقف عليه، لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها البروج الراتبة (3) كما

(هامش)

(1) راتبة أي ثابتة غير متحركة. (2) يحتمل أن يكون المراد أن الطبيعة أو الدهر – الذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثرين – كل منهما أمر واحد غير ذي شعور وإرادة، ولا يمكن صدور الأمرين المختلفين على مثل ذلك… أو المراد أن العقل يحكم بأن مثل هذين الأمرين المتسقين الجاريين على قانون لحكمة لا يكون إلا من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم… أو المراد إن الإهمال أي عدم الحاجة إلى العلة، وترجح الأمر الممكن من غير مرجح كما تزعمون أمر واحد حاصل فيهما، فلم صارت إحداهما راتبة والأخرى منتقلة؟ ولم لم يعكس الأمر… ولعل المعنى الأول الذي ذكرناه أفضل وأقرب. (من تعليقات البحار). (3) نرجح إن الإمام عليه السلام راعى في انتقال البروج محاذاة نفس الأشكال… وإن أمكن أن يكون المراد بيان حكمة بقاء الحركة ليصلح كون تلك الأشكال علامات للبروج، ولو بقربها منها.. لكن هذا المعنى بعيد. (من تعليقات البحار) (*)

ص 84

يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها أو لو كان تنقلها بحال واحد لاختلاط نظامها، وبطلت المآرب فيها، ولساغ القائل أن يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا، ففي اختلاف سيرها وتصرفها وفي ذلك من المآرب والمصلحة، أبين دليل على العمد والتدبير فيها.

 (فوائد بعض النجوم)

 فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب بعضها كمثل الثريا (1) والجوزاء (2) والشعريين (3) وسهيل (4)، فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس، ويهتدون بها لبعض أمورهم، كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور (5) والجوزاء إذا طلعت، واحتجابها إذا احتجبت، فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت الوقت غير الوقت الآخر، لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد على حدته، وما جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة، وكذلك جعلت بنات نعش (6) ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة، فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة، وكذلك

(هامش)

(1) الثريا: مجموع كواكب في عنق الثور. (2) الجوزاء: برج في السماء، سميت بذلك لاعتراضها في جوز السماء أي وسطه. (3) الشعريان: تثنية الشعرى – بالكسر – وهو الكواكب الذي يطلع في الجوزاء وطلوعه في شدة الحر. (4) سهيل – بالتصغير – نجم بهي طلوعه على بلاد العرب في أواخر القيظ. (5) الثور: برج في السماء من البروج الاثني عشر. (6) بنات نعش الكبرى: سبعة كواكب تشاهدها جهة القطب الشمالي، وبقربها سبعة أخرى تسمى بنات نعش الصغرى، والنجمة التي رسمت كبيرة هي النجمة القطبية التي يستدل بها على نقطة القطب الشمالي. (*)

ص 85

أنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الأرب والمصلحة، وفيهما مآرب أخرى علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الأعمال، كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر، وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل، لقطع القفار الموحشة واللجج (1) الهائلة، مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبر، فإنها تسير أسرع السير وأحثه (2). أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا، حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه، ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجو؟ وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم. فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد، لكيلا تضر في الأبصار، وتنكأ فيها، وبأسرع السرعة. لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها، وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء، ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة، كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي (3) في جوف الليل، فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه. فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير، حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها، وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا.

(هامش)

(1) – اللجج جمع لجة: معظم الماء. (2) – أسرع السير وأحثه كلاهما بمعنى واحد. (3) – التجافي من تجافى أي لم يلزم مكانه. (*)

ص 86

(الشمس والقمر والنجوم والبروج تدل على الخالق)

 فكر هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم، بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة، كالذي بينت وشخصت لك آنفا وهل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر وصواب وحكمة من مقدر حكيم، قال قائل: إن هذا شيء اتفق أن يكون هكذا؟ فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب (1) يراه يدور ويسقي حديقة شجر ونبات فيرى كل شيء من آلاته مقدرا بعضه يلقي بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها. وبم كان يثبت هذا القول لو قاله. وما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه؟ أفينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض، إنه كان بلا صانع ومقدر، ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم، المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر، لصلاح جميع الأرض وما عليها إنه شيء اتفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتل هذا الفلك، كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات وغيرها، أي شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه. ( مقادير الليل والنهار) فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل، كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق، فصار منتهى كل واحد منهما – إذا امتد – إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك (2) أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة؟ ألم

(هامش)

(1) الدولاب – بالفتح – كل آلة تدور على محور والجمع دواليب، والكلمة من الدخيل. (2) يتساوى الليل والنهار في جميع أنحاء العالم مرتين في الخريف ويوم 23 أيلول ومرة ثانية في الربيع يوم 22 مارت. ويطول الليل في الشتاء بتاريخ 21 كانون الأول حتى يبلغ طوله في = (*)

ص 87

يكن ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات؟ الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر طول هذه المدة، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة، وكان ذلك ينهكها أجمع، ويؤديها إلى التلف، وأما النبات فكان يطول عليه حر النهار ووهج الشمس حتى يجف ويحترق كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش، حتى تموت جوعا، وتخمد الحرارة الطبيعية عن النبات، حتى يعفن ويفسد، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع تطلع عليه الشمس.

 (الحر والبرد وفوائدهما)

 اعتبر بهذا الحر والبرد كيف يتعاوران (1) العالم، ويتصرفان هذا التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال، لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيهما من المصالح، ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيهما صلاحها، فإنه لولا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت واخوت (2) وانتكثت (3). فكر في دخول أحدهما (4) على الآخر بهذا التدريج والترسل، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء، والآخر يزيد مثل ذلك، حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة،

(هامش)

= العراق أكثر من أربعة عشر ساعة، ثم يطول النهار في الصيف بتاريخ 21 حزيران ويزيد طوله في العراق على أربعة عشر ساعة. (1) يتعاوران: يتداولان. (2) أخوت: جاعت. (3) انتكثت: انتقضت وانتبذت. (4 ) أحدهما أي الحر والبرد. (*)

ص 88

لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها. كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار موضع البرودة، لضره ذلك وأسقم بدنه فلم يجعل عز وجل هذا الترسل في الحر والبرد، إلا للسلامة ضرر المفاجأة ولم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لولا التدبير في ذلك؟ فإن زعم زاعم: إن هذا الترسل في دخول الحر والبرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها، سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها، فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين (1) سئل عن العلة في ذلك، فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقي من هذا القول، حتى استقر عن العمد والتدبير.. لولا الحر لما كانت الثمار الجاسية (2) المرة تنضج فتلين وتعذب، حتى يتفكه بها رطبة ويابسة.. ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ (3) هكذا، ويريع الريع (4) الكثير الذي يتسع للقوت، وما يرد الأرض للبذر… أفلا ترى ما في الحر والبرد، من عظيم الغناء والمنفعة، وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضها (5) وفي ذلك عبرة لمن فكر، ودلالة على أنه من تدبير الحكيم، في مصلحة العالم وما فيه. (الريح وما فيها) وانبهك يا مفضل على الريح وفيها، ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب، الذي يكاد أن يأتي على النفوس، ويمرض الأصحاء، وينهك المرضى، ويفسد الثمار، ويعفن البقول، ويعقب الوباء في الأبدان،

(هامش)

(1) المراد بالمشرقين هنا هما المشرق والمغرب من باب تغليب أحدهما على الآخر. (2) الجاسية: أي الصلبة. (3) يفرخ الزرع: أي تنبت أفراخه وهي ما يخرج في أصوله من صغاره. (4) يريع الريع أي تنمو الغلة وتزداد. (5) يمضها: يوجعها ويؤلمها. (*)

ص 89

والآفة في الغلات. ففي هذا بيان: إن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق. (الهواء والأصوات) وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى، فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء، والهواء يؤديه إلى المسامع (1) والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم، فلو كان أثر الكلام يبقى في الهواء، كما يبقى الكتاب في القرطاس، لامتلأ العالم منه، فكان يكربهم ويفدحهم، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به، إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس، لأن ما يلفظ الكلام أكثر مما يكتب، فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم، ثم يمحى فيعود جديدا نقيا، ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع، وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة، وما فيه من المصالح، فإنه حياة هذه الأبدان، والممسك لها من داخل، بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه، وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد.. وهو الحامل لهذه الأرواح ينقلها موضع إلى موضع… ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح، فكذلك الصوت، وهو القابل لهذا الحر والبرد، اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه، ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام

(هامش)

(1) تعريف الإمام عليه السلام للصوت لا يتعارض مع التعريف الذي اصطلحه العلم الحديث له، فالصوت في النظر العلمي هو حركة اهتزازية تحدث في الهواء من جسم اهتز فيه، والصوت إذ يحدث الرجات في الهواء تنتقل هذه الرجات إلى طبلة الأذن ليحملها عصب السمع إلى المخ ومما يدل على أن الصوت هو رجات تحدث في الهواء أنه لو أحدث صوت داخل ناقوس مفرغ الهواء لم يسمع له حس أبدا. (*)

ص 90

وتزجي السحاب من موضع إلى موضع، ليعم نفعه، حتى يستكشف فيمطر، وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخى الأطعمة وتبرد الماء، وتشب النار، وتجفف الأشياء الندية، وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض… فلولا الريح لذوي النبات، ولمات الحيوان، وحمت الأشياء وفسدت.

شاهد أيضاً

محاولات هدم قبور الصالحين في التاريخ

‏‪ *محاولة نبش قبر امنة بنت وهب (رضوان الله تعالى عليها)*  *قال الحافظ ابن عقيل ...