الرئيسية / الاسلام والحياة / الحسين عليه السلام سماته وسيرته 26

الحسين عليه السلام سماته وسيرته 26

إتمام الحجة :
وإذا كان الحسين عليه السلام يمثل الرسل والرسالات الإلهية ، فلا بد أن
ينحو منحاهم في تبليغها ، فلقد كانوا يقضون أكثر أوقاتهم في إبلاغها ، وإتمام
الحجة على أقوامهم ، قبل أن ينزلوا معهم إلى المعارك الحاسمة ،
وهكذا فعل الحسين عليه السلام .
فإذا كان في المحللين التاريخيين من يعتذر لجيش الكوفة ويزعم : أن شعب الكوفة الذي حارب
الحسين ، لم يكن يعرفه ، ولا يعرف عن أهدافه شيئا
فإن ذلك ليس إلا تحريفا للحقائق من وجه آخر ، فكيف يدعى على أمة أنها
لم تعرف سبط نبيها بعد خمسين سنة ، فقط من وفاته ؟ فعليها العفاء من أمة
غبية ! وبالخصوص أهل الكوفة الذين عاش الحسين عليه السلام بينهم طوال خمس
سنين ، مدة وجود أمير المؤمنين علي عليه السلام في الكوفة ( 36 – 40 ) فما
أغباهم من أمة لو نسوا ابن إمامهم ؟ وجاءوا يقاتلوه بعد عشرين سنة فقط ؟ !
إنه عذر أقبح من الجرم ، بمرات !
ومع هذا ، فإن الإمام الحسين عليه السلام قطع أوتار هذا العذر ، فوقف كما
وقف الأنبياء ، والدعاة إلى الله ، ناصحا ، ومعرفا بنفسه ، ومتما للحجة عليهم .
قال الرواة : لما نزل عمر بن سعد بحسين ، وأيقن أنهم قاتلوه ، قام الحسين
عليه السلام في أصحابه خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
[ 271 ] قد نزل بنا ما ترون من الأمر ، وإن الدنيا قد تغيرت
وتنكرت وأدبر معروفها ، واستمرت حتى لم يبق منها إلا
صبابة كصبابة الإناء ، إلا خسيس عيش ( 1 ) كالمرعى
الوبيل ،
ألا ترون الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ؟ !
ليرغب المؤمن في لقاء الله .
وإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا
برما ( 2 )
ففي أقصر عبارة ، وأوفاها في الدلالة ، جمع الإمام بين الإشارة إلى الماضي
والتعريف بالحاضر .
فذكر الحق وترك الأمة له ، والباطل والالتزام به .
وذكر بلقاء الله منتهى أمل المؤمنين ورغبهم فيه .
وذكر السعادة ، وجعل الحياة مع الظالمين ضدها ،
وأهم ما في الخطبة التذكير بالتغير الحاصل في الدنيا ، وإدبار المعروف ؟
ألا يكفي السامع أن يتنبه إلى الفرق بين دنيا يوم عاشوراء ، عن الدنيا
قبلها ، وما هو التغير الحاصل فيها ؟ الذي يؤكد عليه الإمام كي يعتبر ؟
وأظن أن كل مفردة من المفردات التي أوردها الإمام في خطبته هذه ، تكفي لأن
يعي السامعون ، ويبلغوا الرشد ، إن لم تكن على القلوب أقفالها
وفي غداة يوم عاشوراء ، خطب الإمام أصحابه :
[ 272 ] فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : عباد الله ،
اتقوا الله ، وكونوا من الدنيا على حذر ، فإن الدنيا لو بقيت لأحد ، أو
بقي عليها أحد ، كانت الأنبياء أحق بالبقاء ، وأولى بالرضا ،
وأرضى بالقضاء .
غير أن الله تعالى خلق الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء ،
فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر .
والمنزل بلغة ، والدار قلعة
( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )
فهو عليه السلام ذكر الدنيا ، وحذر منها ، وذكر الأنبياء ، ليدل على حضورهم في الأهداف معه .
وذكر البلاء والفناء والبلى واضمحلال نعيمها واكفهرار سرورها لعل
كلماته تبلغ مسامع أهل الكوفة فتندك بها ، فيرعوون عما هم عليه مقدمون
ولما لم يجد منهم أذنا صاغية ، وكان صباح عاشوراء ، توجه بهذا الدعاء :
[ 270 ] لما صبحت الخيل الحسين بن علي ، رفع يديه
فقال :
اللهم ، أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت
لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، فكم من هم يضعف فيه
الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه
العدو ، فأنزلته بك وشكوته إليك رغبة فيه إليك عمن
سواك ، ففرجته ، وكشفته ، وكفيتنيه . فأنت ولي كل نعمة ،
وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل غاية ( 1 )
وفي هذا الدعاء توجيه للسامعين إلى الله ، وإيحاء بالثقة والرجاء والأمل
والفرج والكشف والكفاية .
وتحديد للعدو والصديق ، وتذكير بالنعمة والحسنة والغاية ، التي هي لقاء
الله .
أما إذا لم ينفع التذكير ، ولم ينجع النصح ، لقوم غفلوا عن الله ، وهم عمي
صم بكم ، لا يفقهون حديثا ، ولا يعون شيئا .
فإن الإمام عليه السلام لما وجد نفسه محاطا بالأعداء ، ووجدهم مصممين
على تنفيذ الجريمة العظمى لا يرعوون ، كاشفهم بكل الظواهر والبواطن ،
وأوضح لهم الواضحات ، لئلا يبقى عذر لمعتذر ، قال الرواة
[ 273 ] : لما استكف الناس بالحسين ، ركب فرسه ، ثم
استنصت الناس فأنصتوا له ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : تبا لكم ، أيتها
الجماعة ، وترحا .
أحين استصرختمونا ولهين ، فأصرخناكم موجفين ،
شحذتم علينا سيفا كان في أيماننا ، وحششتم علينا نارا
قدحناها على عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على
أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائكم ؟
بغير عدل رأيتموه بثوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم .
ومن غير حدث كان منا ، ولا رأي يفيل فينا
فهلا – لكم الويلات – إذ كرهتمونا تركتمونا ، والسيف مشيم ،
والجأش طامن ، والرأي لم يستخف ،
ولكن استصرعتم إلينا طيرة الدنيا ، وتداعيتم إلينا كتداعي
الفراش .
قيحا وحكة وهلوعا وذلة لطواغيت الأمة ، وشذاذ
الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، وعصبة الآثام ، وبقية الشيطان ،
ومحرفي الكلام ، ومطفي السنن ، وملحقي العهر بالنسب ،
وأسف المؤمنين ، ومزاح المستهترين ، الذين جعلوا القرآن
عضين ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي
العذاب هم خالدون )
فهؤلاء تعضدون ؟ وعنا تتخاذلون ؟
أجل – والله – الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ،
واستأزرت عليه أصولكم وفروعكم .
فكنتم أخبث ثمرة شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب
ألا فلعنة الله على الناكثين ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا )
ألا ، وإن البغي قد ركز بين السلة والذلة ، وهيهات منا
الذلة ( 158 ) أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت ،
وبطون طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، تؤثر مصارع
الكرام على ظآر اللئام .
ألا ، وإني زاحف بهذه الأسرة ، على قلة العدد ، وكثرة
العدو ، وخذلة الناصر
فإن نهزم فهزامون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا
ألا ، ثم لا تلبثون إلا ريثما يركب فرس ، حتى تدار
بكم دور الرحا ، ويفلق بكم فلق المحور ، عهدا عهده النبي
إلى أبي
( فأجمعوا أمركم وشركاء كم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم
اقضوا إلي ولا تنظرون ) . [ سورة يونس : 71 ]
( إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ
بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )
فإن كان في سامعي هذه الخطبة من عنده مثقال ذرة من خير ، اكتسبه بعرف
أو تعلمه من درس أو دين ، أو كان له ضمير ووجدان ، أو من يرجع إلى عقل
ونظر لنفسه ، لكانت له مرشدة
إذ أن الإمام عليه السلام قد استعمل كل ذلك ،
فحرك الأعراف القائمة على الوفاء بالعهد ، والإحسان بالمثل .
وبصرهم بالبؤس الذي غمرهم ، فهم في غمرته ساهون ، فلا عدل ولا أمل
في الحكم الذي تحت نيره يرزحون ، وهم لا يشعرون ،
وقرأ لهم الشعر الحماسي الذي تمثل به أبطال العرب ، وسارت به الأمثال ،
وأوضح لهم مفاسد الموقف من خلال عروض البغي ابن البغية ، كي تتحرك
عندهم خيوط الوجدان ، ويتبصروا مواقع أقدامهم ، وأهدافهم لعلهم يهتدون ،
كما عرفهم – بأقوى نص – بنفسه وأصله وفصله ، والجماعة الذين معه ،
الذين عبر عنهم بهذه الأسرة ، تعبيرا عن اندماجهم وتكتلهم ووحدتهم ، في
المسير والمصير ، وأنهم ليسوا ممن يتوقع نزولهم على رغبة الأعداء ، هيهات !
وذكر في خطبته الأنبياء ، والنبي ، وأباه .
وقرأ لهم الآيات مستشهدا بها .
ألم يكن الجمع قد سمعوا آيات القرآن ؟ وهم الآن يسمعون الإمام يتلوها
عليهم ؟
فإن لم يقرأوا القرآن فكيف يدعون الإسلام ؟
وإن قرأوه ، فهل حجة أتم عليهم من آياته ؟
ومن أعظم المواقف إثارة ، وأتم الخطب حجة ، ما نقله الرواة ، قالوا :
[ 274 – 275 ] إن الحسين بن علي لما أرهقه السلاح ، قال :
ألا تقبلون مني ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقبل من المشركين ؟
قالوا : وما كان رسول الله يقبل من المشركين ؟
قال : إذا جنح أحدهم ، قبل منه
قالوا : لا .
قال : فدعوني أرجع
قالوا : لا .
قال : فدعوني آتي الترك ، فأقاتلهم حتى أموت ( 1 )
وبدلا أن يتعاطفوا مع هذا العرض ، تمادوا في الغي . .
فأخذ له رجل السلاح ، وقال له : أبشر بالنار
فقال الحسين عليه السلام : بل – إن شاء الله – برحمة ربي عز
وجل ، وشفاعة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم .
إنها منتهى الضراوة والوحشية من جيش الكوفة ، ولكنها منتهى الغاية في
إتمام الحجة عليهم من الإمام الحسين عليه السلام .
لقد كشف الإمام بعرض هذه الأمور ، عن مدى قساوة هؤلاء ، كما كشف عن
جهلهم بسنة الرسول ، التي يدعون الانتماء إليها والدفاع عنها .
وحين رفضوا الخيارات التي عرضها بكلمة النفي ( لا ) فإن الخيار الثالث –
مهما كانت صيغته – فإنه لم يقابل إلا بالسلاح ( 1 )
وهذا لا يصدر ممن له وجدان ، وضمير ، وإنسانية ، فضلا عن الذين يدعون
الانتساب إلى الإسلام دين الرحمة والسلام والحق والعدل
إن عروض الحسين عليه السلام هذه تكشف بجلاء عن مدى بعد الأمة
المسلمة ، عن دين الإسلام ، ولما يمض على وفاة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ، نصف قرن ، خمسون عاما فقط !
وأن المسلمين لم يتعمقوا في فهم التعاليم القيمة التي جاء بها الإسلام ولم
يتخلوا تماما من روح الجاهلية الأولى الكامنة في نفوسهم ، فلا زالوا يتحركون بها ،
ولا زالت أعراف الجاهلية وعاداتها في حبها لسفك الدماء ، وهتك الأعراض ،
وخيانة الوعود ، ونبذ العهود ، وخفور الجوار ، وهتك الذمار ، تملأ نفوسهم
، وتعشعش في عقولهم
وأبان الإمام الحسين عليه السلام أن المسلمين – يومذاك – قد استولى عليهم
الحكام إلى حد الانقياد لهم في معصية الله
وإلى حد الذل والخضوع والطاعة لمن
بيده القوة – حبا للحياة الدنيا – مهما كان الحاكم في شخصه ، وفعله ، وتصرفه ،
وقوله ، وفكره : خسة وضعة ، وشناعة وقباحة ، وفسادا وجورا ، وخسة ووحشية ! !
وفي كل هذا الرد الكافي على الرأي القائل بأن للأمة عصمة في تعيين مصير
الحكم ورأيا في السياسة ، التي تتعلق بدين الناس ودنياهم ، وتبنى عليها شؤون الأعراض ،
والأموال ، والنفوس .
فقد كشف الإمام الحسين عليه السلام بخطاباته ، ومواقفه ، وبشهادته : أن
الأمة المسلمة ، إذا كانت بعد مضي خمسين عاما ، لم تع ، ولم تدرك ما عرض
عليها من الحقائق الواضحة ، وقد أوغلوا في الجهل إلى حد الإقدام على قتل سبط
نبيهم وأسر بناته وأهله ،
فإذا بلغ وعي الأمة بعد خمسين سنة من حكم الخلفاء باسم الإسلام ، إلى هذا
الحد المتردي ، من الجهل والتدني والانحطاط والوحشية ، الذي هو عين
اللاوعي ، بالرغم من تكاثف الأعوام وتكرر المفاهيم التي جاء بها الإسلام
بقرآنه
وسنته ، وسيرة أصحابه ، أمام مرأى الأمة ومسامعها ،
فكيف بهذه الأمة ، قبل خمسين عاما ، وفي السنة التي توفي فيها نبيهم صلى
الله عليه وآله وسلم حين يدعى أنها أجمعت – لو تم ثم إجماع – على تنصيب
خليفة لأنفسهم ، يقوم مقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك المقام
الجليل المقدس والمهم ؟ !
فإذا كانت الأمة في عصر الحسين عليه السلام ، لم تبلغ الرشد – في عامها
الخمسين – أن تعي من الخليفة والولاة ، يزيد وابن زياد ، ما يبعثها على
رفضهما ، والابتعاد عن خطتهما ، أو الانعزال والتبرؤ من أعمالهما ، بل بلغ بها
الجهل والغي أن أطاعتهما إلى حد الإقدام على قتل سيد شباب أهل الجنة ، سبط
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فكيف تكون راشدة في اختيار خليفة للرسول ، فور وفاته قبل خمسين
عاما ، وهي في حال الصغر ؟ !
إن إثبات هذه الحقيقة الدامغة ، كان واحدا من نتائج ما قام به الإمام الحسين
عليه السلام من إتمام الحجة ، يوم عاشوراء .
ومهما تكن آثار جهود الإمام في خطبه ، إلا أن الأرض لا تخلو من حجة ،
وقد برز من بين تلك الجموع الكثيفة ، الغارقة في جهلها ، من وعي نداءات
الحسين عليه السلام ، وتحرك وجدانه ، وأحس ضميره .
فقد جاء في نهاية حديث عرض الإمام عليه السلام للخيارات الثلاثة
ومواجهة جيش الكوفة لها بالرفض والسلاح ، أنه [ ص 220 ] كان مع
عمر قريب من ثلاثين رجلا من أهل
الكوفة فقالوا : يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ثلاث خصال ، فلا تقبلون شيئا منها ؟
فتحولوا مع الحسين ، فقاتلوا .
إن هؤلاء أبلغ حجة ، على كل القوم ، حيث دل تحولهم على أن كلام
الحسين قد بلغ جيش الكوفة ، لكن ران على قلوبهم حب الدنيا ، ونخوة
الجاهلية ، والعمى عن الحق ، فهم لا يهتدون .
أيحق – بعد هذا كله – لهذه الجماعة ، أن تدعي أنها أمة محمد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ، وأنها آمنت بدينه الإسلام ، وتريد أن تدخل الجنة ؟
وقد أشار إلى هذه المفارقة بعضهم لما قال :
[ 323 ] لو كنت في من قتل الحسين ، ثم أدخلت الجنة ،
لاستحييت أن أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وآله
وسلم .
ولم يصرح ، لأن مثل هذا الفرض قد قيل في بيئة لم يستبعد فيها لقاتل

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...