لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران
24 مارس,2019
صوتي ومرئي متنوع, فقه الولاية
1,684 زيارة
يحتوي هذا الكراس على جواب الرسالة التي وجهها جماعة من علماء المسلمين في لبنان إلى سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قده) ستوضحون فيها فقهياً عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران الذي طرحه إمام المجاهدين وزعيم المسلمين سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس سره الشريف).
القسم الاول
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على قائد البشرية محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين والخيرة من أصحابه الصالحين.
وبعد، فإنا إذ نثمّن اهتمامكم المسؤول بالأطروحة المباركة التي رفع سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني رايتها فأنعشت قلوب المسلمين جميعاً، وأنارت نفوسهم، نحاول فيما يلي أن نتحدث إليكم ببضع كلمات قد تلقي ضوءاً في هذا المجال وتساعد على طرح أفكار بمستوى مفاهيم الإسلام وافتراضات قابلة للتطبيق إسلامياً، مع التأكيد على أن هذا الإمام المجاهد الذي رفع هذه الراية واستطاع أن يحقق لها النصر، هو صاحب الكلمات العليا وسيد الموقف الفصل بشأنها، وكلنا ثقة أن نجاحه العظيم في تجسيدها وتطبيقها، لن يقل روعة عن جهاده العظيم في نسف الطاغوت وإخراج إيران من ظلمات الطغيان.
إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح.
قال الله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].
ونلاحظ من خلال هذا النص أن الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محددة وحاجات بسيطة. ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات وبرزت الإمكانات المتفاوتة واتسعت آفاق النظر وتنوعت التطلعات وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم، وتصب كل تلك القابليات والإمكانات التي نمتها التجربة الاجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال. وفي المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر.
وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداوود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى (ع)، واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً.
وعلى الرغم من أن هذه الدولة قد تولاّها في كثير من الأحيان بعد وفاة الرسول الأعظم قادة لا يعيشون أهدافها الحقيقة ورسالتهم العظيمة، فإن الإمامة التي كانت امتداداً روحياً وعقائدياً للنبوة ووريثاً لرسالة السماء مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة وإعادتها إلى طريقها النبوي الصحيح، وقدم الأئمة عليهم السلام في هذا السبيل زخماً هائلاً من التضحيات التي توّجها استشهاد أبي الأحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين مع الصفوة من أهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء.
وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية، كما كانت الإمامة امتداداً بدورها للنبوة، وتحملت المرجعية أعباء هذه الرسالة العظيمة، وقامت على مر التاريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو التمهيد له بطريقة وأخرى.
وقد عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيرة عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والاصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين.
وقد استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يشكل القاعدة الكبرى لهذا الرفض البطولي والثبات الصامد على طريق دولة الأنبياء والأئمة والصديقين باعتباره الجزء الأكثر التحاماً مع المرجعية الدينية وأسسها الدينية والمذهبية، وقد بلغت هذه القاعدة الرشيدة بفضل القيادة الحكيمة للمرجعية الصالحة التي جسّدها الإمام الخميني دام ظله، قمة وعيها الرسالي والسياسي الرشيد من خلال صراعها المرير مع طواغيت الكفر ومقاومتها الشجاعة لفرعون إيران الحديث حتى استطاعت أن تلحق به وبكل ما يمثله من قوى الاستعمار الكافر أكبر هزيمة يمنى بها المستعمر الكافر في عالمنا الإسلامي العظيم.
وكان من الطبيعي أن يزداد الشعب الإيراني المسلم إيماناً برسالته التاريخية العظيمة وشعوراً بأن الإسلام هو قدره العظيم، لأنه بالإسلام وبزخم المرجعية التي بناها الإسلام وبالخميني القائد استطاع أن يكسر أثقل القيود ويحطم عن معصميه تلك السلاسل الهائلة، فلم يعد الإسلام هو الرسالة فحسب، بل هو أيضاً المنقذ والقوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت أن تكتب النصر لهذا الشعب العظيم.
ومن هنا كان طرح المرجعية الرشيدة للجمهورية الإسلامية شعاراً وهدفاً وحقيقة وتعبيراً حياً عن ضمير الأمة وتتويجاً لنضالها بالنتيجة الطبيعية وضماناً لاستمرار هذا الشعب في طريق النصر الذي شقّه له الإسلام.
والشعب الإيراني العظيم، بحمله لهذا المنار وممارسته مسؤوليته في تجسيد هذه الفكرة وبناء الجمهورية الإسلامية، يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه فحسب، بل كقاعدة للإشعاع على العالم الإسلامي وعلى العالم كله في لحظات عصيبة من تاريخ هذه الإنسانية، يتلفت فيها كل شعوب العالم الإسلامي إلى المنقذ من هيمنة الإنسان الأوربي والغربي وحضارته المستغلة، ويتحسس فيها كل شعوب العالم بالحاجة إلى رسالة تضع حداً لاستغلال الإنسان للإنسان.
وعلى هذا الأساس يقوم الشعب الإيراني المسلم في هذه اللحظات الزاخرة بالتاريخ والغنية بمعاني البطولة والجهاد والمفعمة بمشاعر النصر وإرادة التغيير، يقوم هذا الشعب بدوره التاريخي؛ فيصنع لأول مرة في تاريخ الإسلام الحديث دستور الجمهورية الإسلامية ويصمم على أن يجسد هذا الدستور في تجربة رائعة ورائدة، وكما هز هذا الشعب العظيم ضمير العالم وزعزع مقاييسه المادية بقيمه التي جسدها في مرحلة المبارزة، كذلك سيهز ضمير الإنسانية المضللة ووجدان الملايين المعذبين ويغمر العالم بنور جديد هو نور الإسلام، الذي حجبه الإنسان الغربي وعملاؤه المثقفون وبذلوا كل وسائلهم من الاحتلال العسكري إلى التشويه الثقافي والتحريف العقائدي في سبيل إبعاد العالم الإسلامي عن هذا النور لكي يضمنوا لأنفسهم السيطرة عليه ويفرضوا عليه التبعية.
إن الإسلام الذي حجزه الاستعمار عسكرياً وسياسياً في قمقم ليصبغ العالم الإسلامي بما يشاء من ألوان، قد انطلق من قمقمه في إيران فكان زلزالاً على الظالمين، ومثلاً أعلى في بناء الشعب المجاهد والمضحي وسيفاً مصلتاً على الطغاة ومصالح الاستعمار وقاعدة لبناء الأمة من جديد. ولم يبرهن الإمام الخميني بإطلاقه للإسلام من القمقم على قدرته الفائقة وبطولة الشعب الإيراني فحسب، بل برهن أيضاً على ضخامة الجناية التي يمارسها كل من يساهم في حجز الإسلام في القمقم وتجميد طاقاته الهائلة البناءة وإبعادها عن مجال البناء الحضاري لهذه الأمة.
وهذا النور الجديد الذي قدر للشعب الإيراني أن يحمله إلى العالم، سوف يعري أيضاً تلك الأنظمة التي حملت اسم الإسلام زوراً، بالدرجة نفسها التي يدين بها الأنظمة التي رفضت الإسلام.
وفيما يلي نستعرض عدداً من الأفكار الأساسية في مجال التمهيد لمشروع دستور للجمهورية الإسلامية في إيران مستنبطين الحالة المعنوية للشعب الإيراني على ضوء تعاليم الإسلام.
يؤمن الشعب الإيراني العظيم إيماناً مطلقاً بالإسلام بوصفه الشريعة التي يجب أن تقام على أساسها الحياة، وبالمرجعية المجاهدة بوصفها الزعامة الرشيدة التي قادت هذا الشعب في أحلك ظروف المبارزة حتى حطّم الطاغوت وحقق النصر، وبالإنسان الإيراني وكرامته وحقه في الحرية والمساواة والمساهمة في بناء المجتمع.
2019-03-24